|
يكتبون الشعر بالمحاريث
نشر بتاريخ: 02/12/2018 ( آخر تحديث: 02/12/2018 الساعة: 19:15 )
الكاتب: سميح فرج
كانت مساحة الجغرافيا تنحسر، والمفردات المكتظة باللوز تُغرق وترسل الصمت البهي حيث تشاء. ودائماً تأسرني صرامتي التي تقول بأن للقصيدة كبرياء لا ينتهي بالقراءة. كنا نعود إلى ذواتنا التي أُخذت بهيبة الشعر وأدعية الأمهات. ولاحظنا حينئذ أن الشوارع تجلس في أماكنها، والعمائر الواجمات تجلس في أماكنها، والبلاد جالسة على حصائرها تُقَلِّب أوراقها وتُصفّي الرؤية من كل أنواع الضجيج والغبار، وايقاعات الصباحات تنقبض في المساء على خدوشها حيث تتعلم منها الحكمة والتجلّد والاستبطان وتفحص كل الإتجاهات، ولم يغب عن الأرصفة إلا العربات والصيارفة والفرح الخافت والمتوجس من فجاءات الوقت الخبيئة، وكذلك بائعات اللبن الناشف والبيض البلدي الطازج والزبيب، فقد غادرن إلى أنفسهن خلف الأكمات والآجام في قراهن المنسدلة نحو (ما ينفع الناس)، في القيعان التي تكتب الشعر بالمحاريث. . إذن: بيتونيا...، رام الله...، القدس...، بيت لحم...، الدهيشة...، ثم أمي. وفي المرة الثانية: جنين الساحرة، ترافقني إلى الدهيشة، أو إلى أمي المريضة التي تقف حتى منتصف الليل أو بعده على قلبها المُحَدّق، (تُشَرّق وتغرّب) كانت، فتسمعها عصاها وأظنها تَحزن. هل رأيت تلك المرأة التي قَلَّعَت عينيها وهي تبكي! قالوا. وتكرر ذات السؤال عن رجل في جنين الشاهقة. لا، والله لم أشاهد، قلت. إذن أين كنت أنا! قصيدة (لا تعترف) كانت، تتسلق الطرقات الوعرة، وتشفق عَليَّ وأنا أركض وأتعثر وألهث، ثم أقوم وتنتظرني وتمد يديها. ومع أنني أعلم أن التصفيق والبكاء والإستبكاء كلها تنال من موضوعية النص وهيبته العالية، إلا أنني أشعر بالصغر أمام هؤلاء العظماء القادرين على الإدهاش. إذن، أعود إلى تلك الغيبوبة الشعرية، وأجلس أمامها كتلميذ ما زال يفك الحروف كما يقول أجدادنا الطيبون. إنها غيبوبة لا يستفاق منها برشقة من الماء البارد، أو دلق الأباريق، أو دفع الرؤوس تحت الصنابير. صنابير الماء، وشتى أنواع الصنابير. والآن: أشاهد التلفاز فلا أجد نفسي، وأسمع المذياع فلا أجد نفسي، وأقرأ الصحيفة فلا أجد نفسي، سأجرّب أن أقلب صخرة جديدة في كل يومٍ كل يومْ. |