|
إلى الكاتب الكبير خيري منصور في أربعين حضوره: لم تتجرّأ عليه السنوات!
نشر بتاريخ: 03/12/2018 ( آخر تحديث: 03/12/2018 الساعة: 14:39 )
الكاتب: المتوكل طه
يا معلّمنا المُتماوِت !
الرثاء استدراكٌ متأخّر . لقد اكتشفنا أنّ موتكَ مجازيّاً ، فأنتَ لم تمتْ تماماً ! إنكَ مثل المعابد وأبناء الأنبياء والموسيقى .. لا ترحل ! وما زال المارّة يتوقّفون ليشتروا الصحيفة ، ليقرأوك ، وهم في حمأة اليأس كي تطرّز قلوبَهم بالحقول .. تلك التي حملتها معك ، في ترحالك الصعب المتعدّد ، من دير الغصون إلى كل المقاهي والندوات الساخنة ، التي ظلّت تحتفظ برائحة أناقتك النافذة . كنتَ تتملّى صهْدَ كأسك الأرجوانيّ المزّ فترى بلادنا المُستَلبَة حتى النخاع ، من الغرباء والمُكرّسين للعتمة ومن أبنائها الخونة ، فتضرب بقلبك على الطاولة فيتطاير دمعك المُلْتهب . كم كنت ذلك الفتى الممشوق الذي لم تتجرّأ عليه السنوات .. فبقيتَ حالماً إلى أن أدركتكَ الطعنة المباغتة ! *** الخضرةُ بين الأشواك جعلته يبذل أوردتّه وردةً للسياج البعيد ، حتى لا تنهب الوحوشُ غابتَنا الممطرة . هذه الأرض المتوّجة التي إنْ حَلَّت فينا تدفعنا مثل الأحصنة الوحشية ، لنقول ما لا يُقال، وقد مضغنا حديد اللجام ونثرناه زبداً في الهواء. عندما تحطّ بيننا يزدهر النداء فينا وتنكشف فوهات البراكين المكتومة ، ويعود القتلى بدمهم اليانع ويتسلّقون الجدران كاللبلاب المتشعّب النّضر الكثيف ، وأباريقنا مليئة بالنعناع والحرقة الطازجة . وثمة دمعة رجل قدَّ زهرةَ عمره وراء القضبان ، لعله كان يرقبك وأنت تبلغ الغزالة ، لكن السنوات لم تسعفك وخذلتك الدنيا المنافقة ، وتجرّأ الحزن ثانية علينا .. فلا بأس ! فأنتَ ما زلت حيّاً رغم الغياب المؤقت .. وليقع الزلزال، ولتنفجر الينابيع المُثقَلة بالزبد والنار، وليخرج النّحل الشرس من أشداق الخشب الظمآن، ولتنفث الأفعى ما لديها في البرد والدخان، وليأكل الضبع ما تغضّن في الذبيحة، وليكن الفزع كاملاً في فراغ المقصلة الممتدة الصدئة، لأن البسيطة افتقدتْ لياقةَ التقلّب على سرير المواسم، والقدرةَ على الطيران كالأسماك الملوّنة في غبش المتعة. والنجوم تهرُّ من السقف المتهادي، على البطن المطهم بالعسل. لا أفق يكرز فيه الوحش، الذي حوّل الغابة إلى شحوب وعطش، فكيف للغزال أن يشمّ النبيذ في عنقود امرأته، والحنين يكشف أسرار الماس المصهور في جرّات القرون. لقد آن للوهاد أن تلامس بلّور السماء، لتعطي الثمار رضاب الغيوم، وتمشي الجداول بخيلاء الحرير على مساطب السهوب، وتختفي التشققات الحادة عن أسيل البراري، التي شطفتها السهول، ونادتها لتعيد من أحشائها الجنّة التي أسقطها المشعوذ في مطحنة الغياب. ونرى طنين العروش الباذخة، والرحيق يلمع على الأجنحة التي رشفت وانغمست، ففاض الكهرمان السماوي، وبرأت السحجات من كيّ الدّبغ، وتعود مزهّوة ببريق القمر الجديد. .. عندها ستخلع الحيّة آخر أثوابها الملطّخة، وتركن في جُحرها الأخير ليجد الحرّاثون هيكلاً من الجير الباهت، فيهيلون عليه التراب. ويمضي الخائف بقوائمه المتبجّحة وملابسه المضحكة، إلى أقصى ما وصلت إليه الصفاقة من عدم . .. بعدها سنلتقي تحت أفياء البلدة البعيدة والميرمية تنبض في أضلاعنا، لنشرب ريق قهوتنا الطفلة، وثمة هالة تنفلت من جسد الزيتون ، تحيط بكَ وترميك في حضن الجبل ، وتكون فارساً أنتظرك مرّة أُخرى .. لتعود، وتغفو تحت جلده المتفجّر بالطيّون والبرق . سأسدل ليلي النهاري وراء ظهري ، وأتلاشى معك وبك ولك وفيك ، ولن ترى السماء غير فَراشة طفلة ، ولن يتبقى في الكأس سوى جرعة من نهار راعف ، بعد ليلة من الدم المكرور .. الذي لن يكون لنا بعده سوى عيد واحد هو عيد الخلاص من النهاية المؤسفة . ويا جامع الخير وحامل حروفه الباذخة ! لقد فاتنا أن نقول لكَ بأننا نحبّك ، وها نحن ننادي بقلوبنا عليك . |