|
الاسيرة المقدسية الجريحة اسراء جعابيص
نشر بتاريخ: 17/12/2018 ( آخر تحديث: 17/12/2018 الساعة: 11:34 )
الكاتب: عيسى قراقع
الاسيرة المقدسية الجريحة اسراء جعابيص جسد يحترق يضيئ الظلام والعظام وشموع الصلاة كل الثورات بدأت بأعلان صوتها وأدبها وحضورها بالجسد، اجساد الشهداء الذين سقطوا فأعادوا انتاج موتهم امام المغتصبين الذين اعتقدوا ان الموت يعني العدم، وأجساد الأسرى الذين زجوا في قبور السجون فصاروا اكثر حرية وجدارة في الحياة من السجان، عندما فاض ملح دمهم على الاسلاك والجدران وسطوة الغياب. بتاريخ 11-10-2015 اعتقلت الاسيرة اسراء جعابيص 33 عاماً، من مواليد جبل المكبر في القدس المحتلة بعد أن اطلق جنود الاحتلال النار على مركبتها بالقرب من حاجز الزعيم العسكري مما أدى الى انفجار اسطوانة غاز بالسيارة، لتشتعل النيران داخلها وفي جسد اسراء التي اصيبت بحروق خطيرة وقد التهمت النيران 60% من جسدها. سلطات الاحتلال الاسرائيلي وجهت اتهاماً جائراً لأسراء جعابيص بمحاولة تنفيذ عملية عسكرية، ولتصدر بحقها حكماً بالسجن لمدة 11 عاماً، وقد أسف قضاة المحكمة لأن اسراء بقيت حية، فراهنوا ان زمن السجن كفيل بتفحم اسراء وموتها. القدس في تشرين اول 2015 كانت تشتعل وتنتفض ضد اقتحامات المستوطنين للمسجد الاقصى المبارك وتركيب البوابات الالكترونية والكاميرات في ساحاته ومداخله، أطفال قاصرون اعدموا ميدانياً في شوارع القدس، حملات اعتقال واسعة طالت الكبير والصغير والرجال والنساء، مرابطون ومرابطات في المسجد الاقصى يدافعون عن القدس العربية الاسلامية المسيحية درة التاج وعاصمة دولة فلسطين، صوت اجراس الكنائس تتلاحم مع صوت آذان الجوامع في صلوات جماعية واحدة. حكومة الاحتلال ووزرائها المتطرفين أصيبوا بهوس وجنون امام الهبة الشعبية الواسعة التي انطلقت للدفاع عن القدس والتصدي للاعتداءات على الاماكن المقدسة، اطلاق الرصاص الحي على كل من يتحرك، الدعوات الرسمية التحريضية لقتل العرب، ابعاد النشطاء في القدس عن اماكن سكنهم او خارج القدس نفسها، سجن المسكوبية بالقدس امتلأ بالمعتقلين، احكام واسعة بفرض الاقامات المنزلية على الاولاد الصغار، الطفل احمد مناصرة يصرخ في شوارع القدس وهو يتعرض للضرب الوحشي ودمه ينزف على الرصيف. جسد اسراء جعابيص يحترق، تغير لونه، تغيرت ملامحها، لون عينيها وشعرها، نظراتها لنفسها والى الناس، التصقت كتفها الايمن من تحت الابط بجسدها، اصبحت عاجزة كلياً عن تحريك يدها، التصقت اذناها برأسها، لم تعد تسمع او تبصر جيداً، لم تعد تستطيع ان تأكل او تمضغ الطعام، لا تقدر ان تتنفس الا من فمها، الجفن ملتصق بالعين، اصابع يدها ملتصقة ببعضها البعض، اصبحت امرأة اخرى، ذاب جلدها ولحمها وظلالها. تحتاج اسراء جعابيص الى اكثر من 8 عمليات جراحية، اطباء السجون لا يقدمون العلاج اللازم، يتفرجون على اوجاعها المتواصلة والمتزايدة، ينتظرون ان تتوقف انفاسها ويتجمد جسدها، فما لم تفعله النيران سيفعله السجن وسياسة الاهمال الطبي المتعمد، وتركها تموت ببطء بين القضبان. اسراء جعابيص شاهدة على سياسة اسرائيلية ممنهجة ترفض تقديم العلاج للمئات من الاسرى والاسيرات الذين يصارعون الامراض الصعبة، فمنهم المصابين والمشلولين والمعاقين والذين يعانون امراضاً خطيرة ومزمنة، يشتبكون مع الموت كل لحظة، آلام وصراخ وانهيار الاجساد رويداً رويداً دون مغيث او مستجيب. ان سقوط 13 شهيدا اسيراً منذ عام 2010، وتصاعد اصابة الاسرى بأمراض خطيرة في السنوات الاخيرة، يشير الى ان السجون اصبحت بديلاً لحبل المشنقة، ومكاناً لزراعة الموت في اجساد المعتقلين، وقد اصبح اطباء السجون شركاء فاعلين في هذه السياسة، وجزء من ادارة القمع وارتكاب الجرائم الطبية بحق الاسرى من خلال عدم القيام بواجباتهم الطبية والمهنية والاخلاقية، او من خلال صمتهم على الاهمال الطبي والتعذيب، او من خلال مساهمتهم في هذا القمع والتستر عليه. الاسيرة اسراء جعابيص ضحية اطباء تحولوا الى جلادين، خانوا قسم ابو قراط الطبي واخلاقيات المهنة الطبية وكل الشرائع الدولية والانسانية، اصبحوا جزءا من منظومة القمع الاسرائيلية التي شرعت قانون اعدام الاسرى، وقانون التغذية القسرية، وقانون تجميد تمويل العلاج الطبي للأسرى، وحاصرت اجسامهم بالأمراض والحرمان من ابسط حقوقهم الانسانية والمعيشية. الأسرى المرضى الضحايا تحولوا الى هياكل مجردة من ملامح البشر، اغصان عظمية للشكل ، بعض الجدائل الدالة على امرأة كانت يوماً في السجن ذابت واختفت، خرابيش على الجدران تشرح درجات التدرج بالقتل، وساعات الشهقات والسعال واقتراب النهاية، السجون الاسرائيلية صارت متحف الجريمة في العصر الحاضر. تقول اسراء جعابيص: أشعر بالخوف من وجهي عندما انظر الى نفسي بالمرآة، ماذا يقول ابني الصغير معتصم عندما يراني؟ هل سيعرفني؟ هل سيشعر بالخوف مني؟ يحتفل العالم كل سنة بيوم التضامن مع الشعب الفلسطيني ،وباليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة، وبالاعلان العالمي لحقوق الانسان، تنتهي الاحتفالات وقلبي لازال يحترق. جسد اسراء جعابيص يحترق , يضيء الظلام وشموع الصلاة , ستزور المفوضة الاممية لحقوق الانسان فلسطيني الشهر المقبل , هل ستزور اسراء وتشم مسامات جلدها وتعطيها العلاج ؟ تفتح الباب , تفتح نوافذ الجسد على الهواء والدواء والشفاء , ربما امام المشهد الملتهب تستيقظ الصكوك والمواثيق الدولية , ولا تظل دولة الاحتلال طليقة منفلتة من العقاب . لم يكتف الاحتلال بحرق جلد اسراء، بل بحرق كل يوم قلبها على طفلها الوحيد معتصم ابن العشر سنوات، لم يزرها الا مرة واحدة، وقد صدم من هول ما رآه لأمه، دب الخوف والفزع والدهشة في جسد الصغير، لقد اختفى وجهها الجميل الحنون الذي يعرفه، واكتملت الجريمة عندما ابلغت اسراء من قبل سلطات الاحتلال ان ابنها معتصم لن يتمكن من زيارتها مرة اخرى بحجة عدم حصوله على هوية مقدسية، لقد احرقوا الام والطفل والعائلة. عندما نقلت اسراء الى المستشفى الاسرائيلي قاموا بتقييدها بالسرير, ربطوا قدمها اليمنى مع قدمها اليسرى وبالعكس, وكانت الكلبشات مشدودة جدا وتسببت لها بجروح صعبه بالقدم واليد, لم يكترثوا لوضع جسدها الحساس،سخونة وحراره في جسمها،عظامها مكشوفه،رفضت البقاء في هذا المستشفى الذي هو اسوأ من السجن. جسد اسراء جعابيص يحترق، يضئ الظلام والعظام وشموع الصلاة، تقبع مع 52 اسيرة في السجن، جسدها يعلن عن 22 أم فلسطينية اسيرة وقاصرتين، وسبع اسيرات مريضات وجريحات واسيرتين اداريتين على رأسهن النائبة خالدة جرار، وجسدها يعلن عن تعرض الاسيرات للمعاملة القاسية وللتعذيب والاهانات منذ لحظة اعتقالهن، وجسدها يعلن عن حرمان الاسيرات من حقوقهن الانسانية وانتهاك خصوصيتهن بتركيب كاميرات مراقبة في ساحة السجن، جسدها يكشف وجه اسرائيل البشع، فأن كانت اسراء تخاف النظر الى وجهها المحترق فأن الجلاد الاسرائيلي يخاف ايضاً ان ينظر الى وجهها، كي لا يرى نفسه يحترق في جريمته وخطيئته. رفض قضاة المحكمة العليا الاسرائيلية طلب الاسيرة اسراء بتخفيض حكمها والافراج عنها، بسبب الحكم الجائر والظالم بحقها، وبسبب حالتها الصحية الحرجة، القضاة شاهدوا امرأه محترقة منكمشة الجلد، امرأة يصرخ وجعها من داخلها بصمت، يهز قاعة المحكمة، دخان يتصاعد من جسمها، استنفر الحراس والجنود ورجال الامن، خشي القضاة ان تحترق دولة اسرائيل، هناك صوت للنيران في جسد اسراء، هناك جمرات حمراء، هناك قنبلة موقوتة في هذا الجسد، اغلقوا الملف وهرعوا هاربين. القضاة الاسرائيليون قرأوا اسباب رفضهم الافراج عن الاسيرة اسراء الجعابيص بقولهم: ان اجساد الفلسطينيين لا تفنى، لهم ارواح اخرى واجساد اخرى تتشكل بسرعة، حجارة مضادة للدبابات، ذاكرة مضادة للنسيان، جوع مضاد للذل والاهانة، نساء لا ينجبن سوى فدائيين، نساء قريبات جداً للسماء وللمطر. القضاة الاسرائيليون شاهدوا في جسد اسراء جعابيص المحترق، جسد فلسطين الذي شوهته الحواجز والجدران والمستوطنات والشوارع الالتفافية، وما يخفي فيه من زلازل ومصائب وحرائق، واعتقد القضاة انه اذا ما التئم وشفي هذا الجسد، واذا ما توحد وقفز عن السور والحاجز، واذا ما فك قيده وتحررت قدماه ويداه واصابعه، فأن دولة اسرائيل ستكون في خطر شديد، لهذا قرروا ان تبقى اسراء في السجن، وان لا يقدم لها العلاج، ان لا يصحو جسدها، ان لا يستيقظ صوتها المقدسي، فأكثر ما تخشاه دولة اسرائيل هو صوت القدس. جسد اسراء جعابيص يحترق، يضئ الظلام والعظام وشموع الصلاة، وفي بيت لحم مهد المسيح عليه السلام ستضاء شجرة ميلاد الحرية بأسمها لهذا العام، وفاء لها ولكل الاسرى والاسيرات المرضى القابعين في السجون، شجرة عالية مشعة في ليالي الميلاد المجيدة، شجرة واقفة على قدمين وليس على عكازتين، صلاة فلسطينية تعزز فينا غريزة الوجود والصمود، وشجاعة شعب يدافع بكرامة عن حليب العذراء. جسد اسراء جعابيص المحترق، هو جسد مكلل بآمال القادرين على اجتراح المعجزة، جسد مرصع بذهب الأمل القادم الخارج من هذه العزلة، جسد ينتظر في ساحة الميلاد قدوم الحجيج والمؤمنين وليس المصفحات التي تحمل القنابل للاطفال في العيد. جسد اسراء جعابيص يحترق ،يضئ الظلام والعظام وشموع الصلاة، وعندما نظرت اسراء الى وجه السجانين والاطباء وقضاة المحكمة وحراس الزنازين ومن اشعلوا الحرائق ونصبوا المشانق، تساءلت ان كانوا قد سمعوا صوت الارض واستوعبوا نشيد شاعرنا الراحل راشد حسين: بعد احراق بلادي ورفاقي وشبابي كيف لا تصبح اشعاري بنادق. |