|
جدتي واللغة العربية
نشر بتاريخ: 16/01/2019 ( آخر تحديث: 16/01/2019 الساعة: 18:15 )
الكاتب: لبيب فالح طه
لم تدخل جدتي –رحمها الله-مدرسة، لم تقرأ حرفا أو آية من القرآن الكريم باستثناء ما حفظته شفاها، كانت بالطبع لا تكتب فهي لم تكتب رسالة او حتى حرفا، باختصار كانت أمية بكل معنى الكلمة.
كانت جدتي مدرسة في التربية والأخلاق والثقافة والذوق في التعامل مع الناس، كانت تفيض حنوا وحكمة وإنسانية، وإذا أضفنا لذلك جمالها الذي لم تمح السنوات والأهوال منه إلا القليل نصبح أمام صورة لجمال مادي ومعنوي، خَلقي وخٌلقي في نفس الوقت. كانت جدتي تستعمل كلمات كنا نظنها عامية تخص القرية التي ولدت ونشأت فيها، فإذا هي عربية صرفية بشهادة عبد الملك الثعالبي فقيه اللغة العربية الذي توفي قبل أكثر من ألف عام، وترك لنا ضمن عشرات المؤلفات كتاب فقه اللغة الذي غاص في معاني الكثير من كلمات اللغة العربية ومعانيها. لماذا كتبت عن جدتي وليس أبي أو أمي؟! لأن جدتي هي الأقدم سنا والأكثر تجربة، تجربتها مع اللغة تجربة بكر فهي لم تدخل مدرسة لتتأثر بالفصحى، كما أنها لم تتأثر لهجتها بلهجات دول او مناطق أخرى كأبي –رحمه الله-مثلا. كانت الأمثلة مما لا يعد ولا يحصى من كلمات تندرج ضمن وصف العربية الفصحى؛ فالرضف هي الحجارة إذا كانت محمأة بالنار، والثوب المهَّرى هو ما كان مصبوغا بلون الشمس، والهمل هي الإبل التي لا راعي لها، والخمش هو من درجات الخدش، والبزاق والبصاق هو ماء الفم إذا رمي به، والقزعة للدلالة على الشيء الصغير... الخ. في مجال الكلمات التي تحمل معنى سلبيا كان هناك كلمات من نوع مُقلعِط إذا زاد الشعر على القطط مما يعني أن الشعر الكثيف على القطط يحمل معنى سلبيا في الثقافة السائدة، و الهتهته و الهثهثه حكاية صوت العيي والألكن مع استعمال الفعل منها بالقول إن فلان يهاتي ، و سَنِخَ السمن إذا تغير وفسد مع تحوير الكلمة إلى زنخ ، ومذرت البيضة، وخمج الثمر إذا فسد جوفه وحمض، وتخ العجين إذا حمض. في مجال الطعام والشراب كان هناك كلمات مثل القُتار الذي هو رائحة الشواء، و الشخب الذي هو صوت اللبن عند الحلب، و فقص البيض إذا كسره لقليه، و البسيسة هي السويق بالأقط (الجميد بلهجتنا) والسمن والزيت وهي أيضا الشعير بالنوى –مع أننا كنا نطلقها فقط على الزيت مع الطحين، و التفِه هو المخ إذا لم تكن له حلاوة محضة ولا حموضة خالصة ولا مرارة صادقة، ثم توسع المعنى ليشمل كل ما لا طعم مميز له، و القِرَى هو طعام الضيف، و الترتم ما يبقى في الإناء من الأدم مع تحوير الكلمة إلى طرطب . عندما بلغت جدتي الثمانين عاما سئمت تكاليف الحياة كالشاعر زهير بن أبي سلمى، كانت تقول ما يشبه المثل أو القول نفسي عافت الدنيا وانا حي ، وإذا بالكلمة تشير إلى الإبل العيوف التي تشم الماء وتدعه، مع فارق أن الإبل لها حرية اختيار ترك الماء، أما المرحومة جدتي فلم تكن تملك هذا الترف. عندما كانت تريد جدتي تتكلم عن الحديث كانت تقول بغم ليقول لنا الثعالبي أن الإبل إذا قطعت صوتها ولم تمده قيل: بغمت ، وما دمنا في مجال الحديث عن الأصوات كانت تستعمل الفعل فَحِمَ لتشير إلى الطفل الذي يبكي كثيرا، وجاء في فقه اللغة أن الفعل يشير إلى الصبي إذا انقطع صوته من بكائه، ومن مفردات جدتي مفردة المجاحشة في المقاتلة هي أن يدفع كل واحد منهما عن نفسه. من الأفعال التي كانت عربية فصحى عند جدتي بَعَج الذي هو شق البطن، وقصف الحطب في تقسيم الكسر. في مجال الآلات كانت مفردة الخُرج الذي هو وعاء آلات المسافر، وجدتي المرحومة التي كانت تكلمنا عن جهاز عرسها الذي كان يحوي الجونه ليتبين لنا فيما بعد أنه وعاء للعطار، وهو ما يشبه الخزانة في عصرنا الحالي. عن المياه كانت جدتي تستعمل كلمة عِدُّ ليتبين لنا أنها عبارة عن الماء إذا كان دائما لا ينقطع ولا ينزح في عين او بئر وكان موغرا، وأن الركوة هي أصغر أوعية الماء، وأن الغمقة هي السيل إذا كانت ذات ندى ووخامة. إن العودة الى الجذور والقدم في اللغة بشكل خاص والحياة بشكل عام يعطي خلفية تاريخية عن الموضوع، ونظرة استشرافية للمستقبل وما يحيط به من سنن كونية في التغيير والتبديل. |