|
اسرائيل بين مفهوم القوة والثقة بالمستقبل
نشر بتاريخ: 26/01/2019 ( آخر تحديث: 26/01/2019 الساعة: 13:48 )
الكاتب: عوني المشني
تعيش اسرائيل هذه الايام حالة انفصام حادة تعكس نفسها على مسلكها السياسي، واقعها يعبر عن ذروة القوة العسكرية امام عالم عربي وفلسطيني على وجه الخصوص متشظي ويعاني ازماته المستعصية، بالمقابل انعدام ثقة يقيني في مستقبل الدولة والوجود والامن والاستقرار، الاسرائيلي يثق بحاضره ويرتعب من مستقبله، وكما يقول بني موريس احد اهم المؤرخين الجدد الاسرائيليين "يجب الانتظار جيل او جيلين وسوف تختفي اسرائيل اليهودية وربما قبل ذلك".....
ونتنياهو ذاته يعتبر ان احتفال اسرائيل بالذكرى المئة للاستقلال يشكل حلما له يتأمل ان يتحقق !!! هذا الحديث والذي يشغل العقل الاسرائيلي على مستويات مختلفة يعبر بوضوح ثقة الاسرائيلي بلحظته الراهنة بفعل نشوة القوة التي تقود الى الى نزعة الهيمنة والتسلط، ويعيش كوابيس رعب من مستقبل مفتوح على كل المتغيرات بما فيها انعدام التفوق وفقدان إمكانية استمرار الهيمنة لا بل إمكانية الهزيمة.. وحسب استطلاع أجراه معهد الكتاب المقدس الاسرائيلي عشية احياء ذكرى خراب الهيكل في اب الماضي فان ٤٢٪ من المستطلعة آراءهم يعتقدون بامكانية خراب اسرائيل مرة اخرى، ربما ان هذا الوضع هو الذي يشكل الخلفية الفلسفية لسياسات الحكومة الاسرائيلية القائمة على مفهوم ادارة الصراع واستمرار الوضع الراهن، كأن الحكومة الاسرائيلية تريد ان تقول ان وقوف الزمن على الوضع الراهن هو الحل الأمثل لاسرائيل، ونتنياهو الذي بشر الاسرائيليين بالعيش على حد السيف والى الابد يعلم ان الإبقاء على مفهوم ادارة الصراع لن يستمر طويلا وذلك لان الزمن لا يسير وفق الرغبة الاسرائيلية، فالزمن لا يتوقف حسب الرغبات، والقوة لا يمكن ان تحتكر الى الابد، هناك مفاعيل مختلفة تلعب دورا في ادارة الزمن... قدرة اسرائيل على تطبيع عامل القوة مع الأفق المستقبلي تكاد تكون معدومة، الواقع الثقافي العربي لا يستوعب مثل هذا الوضع حيث شكلت اسرائيل في العقل العربي وعبر تاريخها مصدر تحدي، الجانب الاخر فان عناصر القوة المتغيرة في ديناميكية استخدامها تجعل من الطرف الضعيف قوة مؤذية جدا الى حد انها تلجم اكبر القوى من المغامرة العسكرية، وكيف باسرائيل التي تستطع قوة عسكرية محلية وصغيرة نسبيا ان تغطي كامل الارض الخاضعة لها بصواريخ شبه بدائية !!!! اضافة لان القدرة على امتلاك أدوات قتال مؤلمة اصبحت في متناول الجميع وباسعار يقتدر عليها الجميع..... فطائرة دون طيار تحمل عشرة كيلو غرامات من المتفجرات ومسيرة عن بعد لا تكلف سوى بضعة مئات من الدولات وهي في متناول حتى هواة التصوير . ان تآكل قدرة الردع الإسرائيلية لا تأتي عبر التوازن في القوة وإنما عبر ليجد معادلة ربما تتوازن فيها المقدرة على الايذاء، واذا كانت القوة الاسرائيلية تستطيع تدمير لبنان وإعادته الى العصر الحجري حسب تصريحات قادة اسرائيليين كثر فان صواريخ حزب الله تستطيع تدمير جزء من المواقع الحيوية الاسرائيلية فقط وإيقاع عدد من القتلى يتعدى الالاف ليصل الى عشرات الالاف وهذا يكفي ليصبح الردع بقوة الايذاء احد اهم المعطيات الجديدة في المنطقة... الجانب الأكثر اثارة هو قوة الجبهة الداخلية، ان شعبا يتكيف عشر سنوات مع الحصار والحرب والضغوط من مختلف الأنواع في غزة لا تستطيع قوة ان تجاريه في التكيف وهذا ما يفتقده المجتمع الاسرائيلي الى حد كبير، وليس بعيدا ذلك الوقت الذي سيكشل هذا العامل قوة ضغط سياسية ترغم اسرائيل على تغيير مسارها السياسي لتتخذ قرارات سياسية ذات اثر استراتيجي.. ربما ان مقدرة الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة على توفير متطلبات حياة رغيدة لسكانها شكل عامل ساهم على تحمل التخوفات المستقبلية، فوفرة الأموال التي تأتي لاسرائيل عبر الدعم الامريكي ودعم اللوبي اليهودي العالمي اضافة للإنتاج المحلي ساهم الى حد كبير في احداث نوع من الاستقرار المجتمعي لكن سرعان هذا الاستقرار ما يتبخر حتى من بالونات وطائرات ورقية من غزة. واسرائيل تحولت الى عبء حتى على الجاليات اليهودية في الخارج، فاختلاط نابع عن جهل عفوي او متعمد بين العداء لاسرائيل كدولة عنصرية والعداء لليهود كدين وجنس جعل اليهود أنفسهم يشعرون بثقل الضريبة التي يدفعونها ثمن سياسات اسرائيل العدوانية والعنصرية، فعندما يصل اليهودي في بلجيكيا الى الخوف من لَبْس ال "كيباة " غطاء الرأس وفق التقليد اليهودي او ان تمتنع طالبة اسرائيلية في احدى الجامعات الامريكية من الإفصاح عن جنسيتها امام الطلبة خوفا او خجلا فان هناك اشكالية حقيقية وعميقة تخلقها اسرائيل لليهود أنفسهم عبر سياساتها الكريهة. السؤال الذي يبرره هذا الوضع: لماذا يتم تجاهل التخوفات المستقبلية الى الحد الذي تتحول فيه القوة الى العنصر الأهم وربما الوحيد في تشكيل الفكر السياسي الاسرائيلي ؟؟؟ هناك اكثر من وجهة نظر حيال هذا الموضوع، البعض يعتقد ان تطبيع العقل العربي والفلسطيني مع الامر الواقع ربما هو اكثر امنا لإسرائيل، ومن لا يتحقق بالقوة يتحقق بمزيد من القوة ليصل الفلسطينيين والعرب الى مرحلة التسليم باسرائيل كما تريد نفسها ان تكون، لدى هؤلاء من الأسباب التي تبرر وجهة نظرهم، وجود اسرائيل بحد ذاته لم يكن ممكن تخيل تقبله قبل 50 أو 60 عاما والآن الجميع يقر بوجود اسرائيل، هذا لم يكن ان يتم بدون القوة وهذا لم يدفع ثمنا له، وهكذا يمكن ان يصار مع الاحتلال الاسرائيلي ليصبح واقعا مفروضا في بادئ الامر ويتحول الى واقع مقبول مع الوقت لكن وجهة نظر اخرى مختلفة تماما تقول ان العقل العربي نما وترعرع في حاضنة ثقافية شكل الدين الاسلامي طابعها ومضمونها، وبالتالي وحتى لو فرضت امريكيا تطبيعا بالإكراه فسرعان ما يذهب كل هذا الجهد هباء امام اي تغير في المشهد السياسي ولهذا ليس هناك من رهان جدي على تطبيع عربي مع اسرائيل حيث وكما صرح نتنياهو ذات مرة ان مشكلة اسرائيل في العلاقات ليس مع الحكام وانما مع الرأي العام العربي، ما يدعم هذا الرأي ان سلاما مع مصر مر عليه اكثر من 35 عاما لم يقنع الشعب المصري بالتطبيع من اي نوع مع اسرائيل. الجانب الاخر الذي يجب ان يثير القلق عند الاسرائيليين هو المتغيرات الشرق اوسطية المتلاحقة والتي في كثير من الأحيان تأتي مفاجئة، من كان يتخيل قبل 20 عاما ان تصبح ايران دولة مواجهة مباشرة مع اسرائيل سواء من حيث امتلاكها لقوة ردع لا يستهان بها او من حيث انها وصلت بقواتها الى الحدود مع اسرائيل سواء عبر وجود مباشر كما هو الحال في سوريا او عير وجود غير مباشر كما في لبنان، والاهم ان هذا الوجود يتعزز ويتمتع بتواصل من ايران وحتى بيروت مرورا ببغداد ودمشق !!!! الوضع في مصر وان استقر نسبيا الا انه على صفيح ساخن ومفتوح على كل الاحتمالات، حالة مقلقة في الاردن تعبر عنها ارتفاع أصوات المقد الى حد الصياح وبصوت عالٍ، وان كانت لا تطالب برحيل الملك الا انها تنتقده بقوة غير مسبوقة، وهزيمة السعودية في اليمن مفتوحة على احتمالات صعبة.... وهكذا فان بدا الوضع مستقرا لاسرائيل فانه غير مستقر حولها مما يؤثر عليها بشكل استراتيجي، صحيح ان التدخل الامريكي دوما يساعد ان لا تؤثر المتغيرات على وضع اسرائيل، ولكن لا ضمانة ان تأتي المتغيرات دوما وفق الرغبة الامريكية وهذا ما ظهر في اكثر من حالة أقربها المتغيرات في سوريا وربما في العراق الذي بدا لأول وهلة انها تغيرت لصالح اسرائيل باسقاط نظام صدام حسين ولكن سرعان ما ذهبت باتجاه ايران والتي ليست افضل من ظام صدام بالنسبة لاسرائيل. ان اسرائيل تمر بمرحلة حرجة، لم يعد وقت طويل امام قادتها لاتخاذ قرارات حاسمة تحدد مسارها، نصف سكان فلسطين التاريخية هم فلسطينيين، ربما ان اسرائيل وصلت الى الخطوط الحمراء او تكاد ان تصل. ..مع ذلك هناك أصوات اسرائيلية ترتفع رويدا رويدا تنذر من الأخطار المحدقة باسرائيل، والاهم انها تنذر من سياسات اليمين التي تقود اسرائيل الى دولة ثنائية القومية، ليس بني موريس وحده، هناك العشرات من المثقفين الاسرائيليين، ربما ان سيطرة اليمين الاسرائيلي على الاعلام بفعل سياسة اختطاف الدولة العميقة التي مارسها نتنياهو عبر عقد من الزمن وبأساليب فاسدة احيانا تجعل من اصواتهم مغمورة وضعيفة، وصحيح ان اهتمام الجمهور الاسرائيلي بالوضع السياسي ضعيف نسبيا بفعل نشوة القوة من جهة والاطمئنان لحالة الضعف الفلسطينية والعربية ولكن عندما لم تستطع عشر سنوات من حكم اليمين من تقديم تطمين عن مستقبل الابناء فان الآباء سيكون قلقين بالضرورة وقلقهم لن يبقى مجرد هاجس بل سيترجم الى سياسة والمسألة مسألة وقت لا اكثر. |