محمد يوسف "منصور": سرديات البطولة والخيبة..

وفي أوسط الثمانينات وبعد الخروج الفلسطيني من بيروت وتشتته في أربعة أرجاء الأرض، تعرفت اليه قليلا هناك في تونس، حيث كنت ادرس، ورأيته على نحو أقل في عمان في مناسبات اجتماعية.
لا يحتاج المرء إلى جهد كبير، ولا إلى روايات مركبة، ولا إلى شهادات، كي يكتشف بأن منصور يحمل رؤية فطرية أصيله تولت الخيارات فيما بعد تصعيدها نحو أفاق شتى، رؤية بسيطة لها عقل شجاع ، وقلب شجاع له عقل يدير شجاعته ويتدبر أمورها، رجل لديه طاقته مبادرة إيجابية عموما، تتجلى في كافة شؤون حياته، ويتمتع بقدرة تكيف عالية الى درجة الاتهام عند البعض ، وينطلق من الممكن نحو بناء خطوة، ولا يرتد بحثا عن استكمال الشروط كي يخطو .وهو من متفائيلي ارسطو: الذين يرون الفرصة في كل مشكلة، وليس من متشائميه الذين يرون المشكلة في كل فرصة، والى حد كبير يوجد في سيرته ما يشبه قوة الماء الذي لا يتوقف أمام العقبات.
هكذا يبدو منصور في يوميات حياته، محكوم بثقافة الكائن المعنيِ والمسئول والمبتدع والبسيط والنشيط: في العائلة وتربية الأولاد، وفي عمله التنظيمي ومتابعاته وأنشطته المختلفة، وخلافا للغالبية العظمى من الفلسطينيين، فقد كان لوعيه وإدراكه علاقة ما –لكنها ملحوظة- مع خصلة استخلاص العبر والدروس، التي يعاديها الوعي الفردي والجمعي الفلسطيني على نحو يثير الدهشة والذهول، عداء لم يجني من وراءه الفلسطينيون إلا الإخفاق ودفع الأثمان الباهظة، وكان الفلسطينيون وكأنما على رأسهم طير فيما يخص هذه الخصلة، ولم يتوصل وعيهم الفردي والجمعي بعد ، لان يستخلص العبرة البسيطة ، بأن استقامة الحياة في أي نحو ، لن تكون، ما لم تكون خصلة استخلاص العبر والدروس، خصلة تشتغل بنشاط وبيقظة ، وليست محالة للتقاعد المبكر قبل أن تعمل، أو مدحورة أو معطلة أو مغيبة.
***
مع جموع العائدين من الممر الذي أتاحه اتفاق أوسلو، عاد منصور ليحتل مواقع اقل بكثير مما يستحق وفقا لأي وحدة قياس، في هذه الفترة الحرجة لم تعرف خصائصه وخصاله- بما لها وما عليها- الخمول والإحباط والقنوط، رغم إرتقاء"الاحباط والقنوط" لقاعدة عامة حكمت وتحكمت، في سلوك أغلب الفلسطينيين: عامة وخاصة في مرحلة ما بعد أوسلو. إتفاق أوسلو سيئ الصيت والسمعة الذي فشل في كل شيء تقريبا، إلا انه نجح في أمر خطر واحد على الأقل، هو إحلال منظومة قيم نفعية متوحشة، مكان منظومة قيم كانت تحكم علاقة الفلسطينيين وروابطهم ما قبل أوسلو، منظومة كان لها الكثير وكان عليها كثير ، غير أنها كانت تمثل خط ضمان ودليل عام معقول.
منذ فترة ليست قصيرة شرع منصور في كتابة روايته لتجربته وللأحداث العامة التي شارك فيها أو شاهدها أو عايشها. وهي تجربة ستضعه كما تضع غيره بالقوة، أمام ما يمكن وصفه بالقوة المأساوية التي تكمن في المشهد الفلسطيني، قوة مأساوية تتولى صناعتها وإنتاجها عوامل خارجية لئيمة وأخرى داخلية كانت نشطة في إنتاج قسطها الوافر مما لا يحتاج إليه الفلسطينيون أبدا.وهذه العوامل على اختلافها، بات تقيم -على عين الفلسطينيين ومن وراء ظهرهم وظهر وعيهم- حلفها اللئيم علنا على رؤوس الأشهاد. وان تتورط بالكتابة عن المشهد الفلسطيني، فإن هذا يعني بالضرورة وبالقوة، أن تغوص في حيز مأساويته بالقوة أيضا.
كتب منصور ، نصوصا ملفتة، تروي وتقول الكثير عن تجربته، وعن الذهن الفردي والجمعي وكيف تصرف في الواقع وممكناته، وعن الظروف والتعقيدات وكل ما طالته يد وعيه. ، وهو من المؤمنيين بأن الكتابة فعل ضروري يمنع من تحويل الصمت وما يخفيه ملكا لغيرك، يتصرف به على عينك كما يشاء،
حتى ألان صدرت له سرديات ونصوص : عبور النهر. وعلى ضفاف النهر. وانتفاضة المقهورين، وسيف ، ورحلة لم تكتمل، ويوجد له نصان قيد النشر أو أكثر عن: الماء لا يتعثر بالصخور. وعذاب المنفيين. وهي نصوص تروي المرحلة الفلسطينية المعاصرة وتشهد لها وعليها، وتقول عنها بعضا من المسكوت عنه وقليلا مما حدث بالفعل، وتتحدث عن تفاصيلها التي تقال لها ممزقه في أحاديث الناس وما قد تستطيع ذاكرة شفهية ان تحفظ وان تحتفظ،، نصوص تظهر الكثير وتشير لمخفي أكثر . كتب عن كل ذلك وينوي الكتابة أيضا، من موقعه كمشارك وكشاهد وكمطلع وكموجود في صميم الحدث أو على أطرافه أو في حيزه أو تداعياته أو مجالات سماعه ، دون أن يجعل من الواقع الذي عاشه شاهدا على حضوره الشخصي، وكان أصيلا ومنصفا ورشيقا وبسيطا، وهو يقدم السردية العامة لمرحلة وجماعة وجدت نفسها في واحدة من اعقد ظروف التاريخ ، وكان أمامها أفاق واسعة كي تستثمر في الأمل والوعد والتحرر والانعتاق ، لتجد نفسها وقد تقطعت بها وبرؤيتها وبمشروعها وبآمالها ورهاناتها شتى السبل.
إن ميزة التفوق على نزعات الذات واحتمالات تدهورها، يحتاج إليها كتاب السيرة والشهادة أولا، ويحتاج إليها كل متعاط أصيل مع الكتابة عموما، وقليلون هم كتاب الشهادة والسيرة من الفلسطينيين- حيث يسجل الفلسطينيون في هذا المجال ضعفا مريعا- واغلب اللذين كتبوا في هذا الباب، تحدثوا عن بطولاتهم الفردية واشهدوا على ذلك واقعا لا يعترف لهم بالضرورة بكل ما جاؤا به. بعضهم وهم "القليلون" الذين نجو من مثالب الشهادة وكتابة السيرة وإغراءات الضلال فيها. حيث كتابة الشهادة تتطلب منظومة قيم من نوع خاص.
ومن خلال ممارسته لفعل الكتابة أيضا قام منصور بتحويل طاقة سلبية –اطاحت بغالبية كبيرة- إلى فاعلية وذاكرة لمن يعنيهم الأمر اليوم ولمن سيعنيهم غدا. وأعطى تعبيره الخاص لما يقوله جيل دولوز عن الكتابة بما هي فعل كي يصير المرء" شيئاً آخر" وبما هي "خط هروب ولكن ليس من الحياة إلى المتخيل والفن، بل هروب يتجه لإنتاج واقع، وإبداع حياة، والعثور على سلاح، ورفع الحياة إلى مصاف حالة من القوة غير الشخصية، فيما الكاتب الحقيقي "يحمل تعبيراً جماعياً ليس عائداً إلى التاريخ الأدبي بل إنه يصون حقوق شعب قادم وصيرورة إنسانية" وبما هي وكا يقول دلوز " صمود، بوجه العار والحاضر وما لا يمكن إغتفاره"
***
لطالما عود الوعي الفلسطيني نفسه على تحديد البطولة وجعلها في ميدان القتال والأسر دون غيرهما، والبطل في الفهم الفلسطيني هو: من كان شهيدا أو من كان أسيرا، فيما البطولة في حقيقتها توجد هنا وتوجد هناك، في مدارات أخرى تحتاج إليها ميادين القتال، إنها توجد في: الصبر الجميل وصولا إلى الصبر الأجمل، وفي المبادرة والتكيف البناء، وفي تدبر الأمور على نحو مبدع ما كان بالوسع فعل ذلك، وفي الإخلاص في العمل وتحقيق الهدف، وفي النزاهة والصدق، وفي التربية المعنية، والتعبئة الايجابية، وفي تمكين الوعي وفي حراسته، وتعزيز الإيمان والمحافظة عليه وتصعيده، وفي القدرة على تحقيق الأهداف، وفي تنمية الوعد وحمايته والعمل الدءوب لتجسيده، وفي صيانة الأخلاق كقوة ضامنة لبقاء المجتمعات واستدامة طاقاتها، حتى تحقق أمالها ورهاناتها وما بعد بعد ذلك. وفي توريث الأبناء صواب وعي الآباء وسلامة الروح وصحة الخيارات وما ترتب عنها من منجزات ومن مشكلات.
ومنصور بهذه المعاني، هو واحد من أبطال الحياة والجماعة الفلسطينية،من ميادين المقاومة كما يحددها الوعي الفلسطيني السائد إلى ميادين الحياة كما يحددها فقه الوجود.
ومن خلال فعل الكتابة يضيف إلى سيرته، إمتياز السرد والرواية والشهادة على أزمنة ولحظات وخيارات وشخوص و رهانات وانتصارات، كانت بطبعها وظرفها قلقة واحباطات كانت في سياقاتها مستقرة وتجد لنفسها سندا قويا، تعقب فيها الأحداث والعواطف والمشاعر ، وتأمل فيها بما لها، وكان شجاعا في الإشارة لما عليها، وبرهن على نحو فردي بأن صاحب السردية يعرف طريقه نحو الحق، ومن كانت سرديته مفتته أو متوترة أو منسية، سيعاني في رؤية طريقه نحو حقه أو ما يعتقد بأنه حق له. وان السرديات ليست مجالا للندب أو دعوة لممارسة طقس النحيب، بل هي مشروع للذهاب نحو أفق مختلف،يجب أن يظل قيد الإمكان تحت كل الظروف.
غدا سوف يطوي التاريخ القادم كعادة : يومنا وامسنا، وفي كتابه المسطور سيختصر أحداثا كانت في حينها كبيرة، وشخوصا ربما ملؤ الدنيا وشغلوا الناس ،في سطر أو نصف سطر أو أقل.
غير أن السرديات المكتوبة التي تقول : ماذا جرى ولماذا ومتى ، وكيف سرت الأمور في الواقع وثنايا الزمن الجبار، وفي عواطف الناس ووجدانهم ومشاعرهم، ستبقى نصوصا: تقول وتروي وتشهد وترسم وتغمز في وجه الغد وكل المعنيين بقراءة التجربة ونتائجها.
منصور، يضيف لخيارته الكثيرة بدون عناء كبير لكن بعناية، ، قوة السرد المخلص والمفتوح على أفق شجاع ودور الشاهد: بلا مزاعم وبدون تكلف وبعيدا عن التزيف. وهو بذلك يقوم بواجبه إزاء نفسه، وإزاء الحقبة التي عاش فيها على نحو يستحق التنويه والاعتراف.
---------------------------
* كاتب وأكاديمي من فلسطين