|
الوعي في رواية ياسر المصري
نشر بتاريخ: 28/03/2019 ( آخر تحديث: 28/03/2019 الساعة: 22:08 )
الكاتب: محمد قاروط ابو رحمة
عنوان الجزء الثالث من رواية ياسر المصري، رقعة الهدهد (الضحايا)، مكتبة كل شيء 2019 إن العقل مهما علا، فان العقل لا يعقله إلا العقل، ولان العقل عاجز عن العقل الكلي للكون والإنسان والحياة، فان النقل يسد الفجوة في الوعي. وهكذا تستمر الحياة، فكلما أعملنا العقل أكثر، تتكشف له خبايا المنقول حتى يعقله، وكلما قل المنقول في الوعي، زاد الوعي حضورا. عنوان الجزء الثالث من الرواية، يجبرنا على الدخول في الوعي أكثر، فالغياب، هو مادي وذهني، وان أصل الغياب الكلي، هو غياب الواقع. خص الله سبحانه وتعالى الإنسان عن سائر مخلوقاته بقدرته على التخيل، والإنسان لا يستطيع أن يتخيل مالا يعرف، ولكنه قادر على إعادة تركيب ما يعرفه بطرق مختلفة. والغياب المادي هو غياب الشيء عن حواس الإنسان التي تلتقطه وترسله إلى الدماغ، وهذا النوع من الغياب ليس كليا، وإنما غياب الشيء عن المكان والزمان الذي يجب أن يكون فيه، فمثلا تغيب الشمس عندنا وعنا، ولا تغيب عندهم وعنهم، هكذا هي دورتها. فما يغيب عني موجود وغير غائب عن غيري. أما الغياب الذهني (الوعي)، فهو الغياب الذي يلزم لفهم الواقع، والاستفادة من الماضي والتخطيط للمستقبل، أو تصوره. وهو الغياب الذي إن حل بأي امة احدث فيها خرابا بقدر غياب وعيها. وغياب الوعي، يحصل بتخديره، ليس بالمخدرات الآفة الصاعدة بينا وحدها، ولكن الأخطر الذي يحدث عبر حرف وجهة الوعي عبر سياسيين، او إعلاميين، أو توجيه للرأي العام كما يحدث ألان في محاولة إعادة صياغة وعي الأمة بمسألة إعادة تعريف العدو، أو القبول بتعدد الأعداء، إن القبول بتعدد الأعداء للأمة أو للشعب الفلسطيني، هو خطر أيضا, نحن نشهد ألان مرحلة إعادة تعريف العدو، من أولوية التصدي لخطر المشروع الصهيوني الاستعماري في فلسطين والمنطقة، إلى جعل الأولوية لمواجهة خطر المشروع الإيراني على المنطقة، وحسنا فعلت فتح عبر تصريحات أعضاء مركزيتها أن لدينا خلافات مع إيران ومواجهة المشروع الصهيوني الاستعماري وكنس الاحتلال هو أولويتنا وواجب الأمة. القبول بفكرة تعدد الأعداء للشعب الفلسطيني خطر أيضا، لأنه سيؤدي إلى صراع داخلي، على ترتيب أولوية التصدي لقائمة الأعداء. هذا سيسمح بتغييب خطر المشروع الصهيوني إلى أدنى درجات تعدد الأعداء، ويعطي مجانا للمشروع الصهيوني حلفاء جدد ضدنا. كما ذكرنا سابقا إن الغياب الكلي هو موضوعي، أي انه غير موجود خارجنا، ولأنه غير موجود خارجنا (الإنسان) فانه غير موجود في ذهننا ثم في وعينا، فيتحول إلى غياب ذاتي. ويحدث غياب الوعي أيضا في حياتنا عبر تأثير الأنا الذاتية أو الأنا الجمعية (القبيلة والعشيرة والعائلة والحزب) على النحن الجمعية للشعب والأمة، ومثال ذلك مقولة (الحب أعمى) لان الحبيب لا يرى في محبوبه إلا ما يحب، ذكرا كان أم أنثى وينطبق ذلك على القادة والسياسيين. من الأمثال التي ضربها الله سبحانه وتعالى على غياب الوعي هو قوله سبحانه في سور الحج (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ﴿٤٦﴾ هذا هو غياب الوعي الذي ينكر الواقع، على الرغم من وجوده. وفي الآية 179 من سورة الاعراف (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)، ان غياب الوعي الذاتي يعطل الحواس التي تربط الذاتي بالموضوعي، (التي تربط الإنسان بالواقع). هكذا يأخذ حضور الوعي أو غيابه مداه في حياتنا. هكذا تتوه الرحلة بغياب الوعي عن قراءة الواقع والمستقبل. هكذا يغيب الوعي عن خطورة الفساد وعدم معالجته. هكذا يغيب الوعي عن معالجة الانقلاب وتداعياته. هذه بعض الأسئلة المعلقة كما سماها الكاتب. صراع الأنا والنحن صراع لا ينتهي، ينتصر هذا مرة وذاك مرة، ولكن عندما يكثر انتصار الأنا أكثر من النحن بكثير يصبح الأمر مرضا خطيرا يفكك المجتمع والنظام السياسي وحتى الأحزاب والقوى السياسية. يظهر صراع الأنا والنحن في الرواية، بين صاحب الهدهد، وزوجته، والهدهد، والصقر والديك وأبو الجماجم والعشيرة والعائلة، في كل هذه الحوارات يبرز أمران مهمان، الأول غياب الوعي بمخاطر الأنا لدى صاحب الهدهد حتى على نفسه، والثاني أنها، لا تطلق الوعي بحريته ليرى الواقع بحرية، إن الأنا تجعل إدراك الواقع أناني محمود ضيق بضيق المصالح الذاتية، وهذا بدوره يجعل من غياب الواقع عنه مثل غياب الشمس فهي غائبة عن الأنا، وليست غائبة عنا. وهذا ما يجعل غياب جزء من الواقع عند صاحب الهدهد في وعيه، ولكنه موجود في نفس اللحظة في وعي غيره. هذا هو الصراع المعبر عنه بين الهدهد وصاحبه والديك والصقر. ان الأنا غياب وعي عن سبب خلق الإنسان وعن حقيقة دوره في الكون والحياة والإنسانية. في استحضار الكلب في الرواية أمر اخطر. فالكلب في ثقافتنا العربية الإسلامية، يتم اقتنائه إما للحراسة أو الصيد. صاحب الهدهد ليس صيادا ة وليس بحاجه إلى حراسة. يمثل الكلب في ثقافة الغرب مكونا مهما حيث يعتبر احد أفراد العائلة، واقتناء صاحب الهدهد للكلب هو استيراد لثقافة الغير والتشبه بهم. من الطبيعي استيراد الأشياء من بيئة أخرى. أما الاستيراد الأخطر فهو استيراد الثقافة، والمعرفة، والقيم، والتربية والتعليم، وكل ما من شانه تشكيل وعينا من نقيضنا وحلفائه، هذا الاستيراد يجعل وعينا للواقع هو وعيهم في عقولنا وأجسادنا، هذا الذي يجعلنا غيرنا، هذا الاستيراد هو سبب التطبيع والتعايش وإعادة تعريف العدو. والكلب الذي تقتنيه إن لم تطعمه سيأكلك، أو البعض من علية القوم الذين يؤمنون بان جوع الكلب سيجعله أكثر تبعية وطاعة. أما الهدهد الذي يكرر من أول الرواية إلى آخرها انه (أنا لا اعرف شيئا ولا افهم شيئا)، ويحيل كل شيء إلى الواقع، هذا التكرار هو خوف في الوعي، خوف من الواقع، فيحتال على الواقع والقانون، وغياب حرية الرأي، والقدرة على النقد، بعدم المعرفة. في غياب قدرة الهدهد على البوح الآمن يصبح تغييب الوعي اختياري، ولكنه معرض للانفجار بأية لحظة، كل الهداهد التي تغيب وعيها، بوعي، تتجنب دفع ثمن وعيها، وهذا لن يكون بلا نهاية. عندما يغيب الوعي اختياريا أو بانحرافه أو إحلال وعي الأخر مكان وعينا، فانه لا يرى واقع الاستيطان، ولا يرى أهمية للإجابة عن الأسئلة المعلقة. غياب الوعي أو تغييبه يجعل من الفقاعات الإعلامية، أو الشخصيات المفوه، أكثر أهمية من الشهداء والجرحى والأسرى وأسرهم، يجعلهم اكبر من المشروع الوطني يجعل من الوهم والادعاء حقيقة في وعي الشعب والأمة، يجعل من الادعاء رحلة في واقع غير الواقع الحقيقي. انه تغييب الوعي لفصله عن الواقع. عندما يصبح القائد بحجم وطن، سيغيب الوطن في وعينا ويحل القائد. غياب الوعي أو تغييبه، يجعل من العشيرة أو العائلة أو الشهادة أو جنسية النقيض وحلفائه، أهم من الوطن، إنها الأنا، التي تحاول فرض شروطها على الشعب ونظامه السياسي وحتى على القانون. المباح لا يمارس على غاريه أبدا إلا في قانون الغاب، انه كالحلال لا يمارس إلا مقيدا، وتقييد المباح لا تفرضه العشيرة أو العائلة أو سلطة نفوذ هذا أو ذاك، إنما يفرضه القانون، وقيم المجتمع الكلية. إن مبدأ لا احد فوق القانون إن كان وضعيا أو مجتمعيا، هو مبدأ إنساني، لان من يتجاوز القانون يتعدى على حقوق إنسان آخر. غياب الوعي أو تغييبه، أو إخفائه بوعي، أو تدميره، يجعل من الرحلة فوضى في واقع يشتد قسوة على الواقع الفلسطيني، الذي عليه الإجابة على الأسئلة المعلقة. غياب الوعي يراد منه جعل الاحتلال أمرا مقبولا في وعينا، وان من مصلحتنا ليس التعايش معه فقط، بل الإقرار بقدرته على سلبنا حتى من أنفسنا، وجعلنا غيرنا. هذا لن يطول وان الفجر قادم لا محالة. |