|
ثورة الحب خلف قضبان سجون الاحتلال
نشر بتاريخ: 30/04/2019 ( آخر تحديث: 30/04/2019 الساعة: 10:21 )
الكاتب: عيسى قراقع
77 طفلاً جاؤوا إلى الحياة بالنطف المهربة، وصلوا ارض فلسطين من البعيد، صار البعيد قريباً، فتحوا ألف بابٍ وباب، طاروا فوق الأسلاك الشائكة، هم ليسوا مهربين بل محررين، خرجوا من الضلوع المقيدة، تدفقوا من الشرايين النابضة، اعتبرهم البعض سفراء الحرية، ووصفهم البعض الآخر بالأنبياء الجدد الذين حسموا الرؤية ونشروا الرسالة. ان نجاح الأسرى الفلسطينيين في تهريب النطف المنوية وإنجاب الأطفال بالتلقيح الصناعي وتحولها إلى ظاهرة جماعية كان انتصاراً على سياسة الحرمان والقهر والإجراءات التعسفية بحق الأسرى، وهو ليس انجازاً فلسطينياً فحسب بل انجازاً للإنسانية وللقيمة العليا للإنسان. يقول الأسير كريم يونس.. ان الأسرى تفوقوا وأبدعوا في صناعة وخلق وبعث الحياة من جديد وأنهم لا ينكسرون ولا ييأسون بل قادرون على ان يصنعوا من اليأس ظلاً يستظلون به ويحمونه ويحمل أسماءهم ويمنعونه من السقوط في سهام اليأس والإحباط. هل هي ثورة الحب خلف قضبان سجون الاحتلال؟ حيث ينفخ الأسرى الحياة في تلك الظروف الجافة البائسة التي صُممت لقتل الحب ودفن الحياة، لأول مرة نرى الحياة المعدومة تنجب حياة أخرى حملها الآخرون، نور ينبلج من الظلام ويتسع النور ويتجدد ويكبر الأمل بالحرية والانعتاق. هي ثورة الحب، أشعل الأسرى النار في الرماد، لفظوا السجن والقمع من داخلهم واثبتوا ان قدرتهم ليست مشلولة عن الخلق وإعادة الخلق، قدرتهم ليست مخصية على تغيير الواقع، فالتحرر مثله مثل عملية الولادة وان كانت ولادة مؤلمة ولكن الذي يتمخض عنها هو إنسان جديد يطل على الحياة. خاض الأسرى مواجهات كثيرة داخل السجون منذ بداية الاحتلال، اشتباكات، إضرابات مفتوحة عن الطعام في سبيل تحسين شروط حياتهم الإنسانية ومواجهة سياسة الذل والاستعباد، ولكن ولا مرة توقعت مصلحة سجون الاحتلال ان يكون على جدول مطالب الأسرى صناعة إنسان، الحق بالخلوة والإنجاب وإنشاء عائلة. ان ثورة الحب الانسانية رفعت شعاراً يقول: نحن الأسرى بشر ونستحق الحياة، لسنا إرهابيين ولا مجرمين ولا قتلة، نحن رموز الحرية والأكثر اكتمالاً إنسانيا من هؤلاء الذين يضطهدون شعباً آخر ويزجون الناس في معسكرات وزنازين تشبه القبور، نحن لسنا أشباحا ولا أرقاما ولا أهدافا وأشياء يجب السيطرة عليها. ثورة الحب التي فجرها الأسرى بتهريب نطفهم المنوية التي لقيت احتضاناً مجتمعياً ودعماً شعبياً وغطاءً دينياً، أحدثت انقلاباً في حسابات المحتلين وأجهزت أمنهم ونظرياتهم التي تستهدف سحق الإنسان وهويته الإنسانية والنضالية. ثورة الحب دلت على ان الأسرى ماضون في استعادة إنسانيتهم، وان جوهر وعيهم ونضالهم هو الوجود مع العالم، خرجوا بوعيهم خارج السجون المغلقة المخنوقة إلى خارجه وتنفسوا، أصبح لنضالاتهم وآلامهم معنى، لذاكرتهم حياة حافلة وليست ذاكرة موت كذاكرة الإسرائيليين. ثورة الحب خلف قضبان السجون أضفت أبعاد ثلاثية على الزمن الماضي والحاضر والمستقبل، يستمر التاريخ، تُهدم هياكل الاحتلال، التمرد على الأوضاع المقيدة التي يجري فيها اختزال الزمن إلى ظلال بعيدة متنائية. ثورة الحب هي زمن الأسرى الموازي الذي تحدث عنه الأسير وليد دقة في مسرحيته وقد حملت عنوان " الزمن الموازي" وقد كشف عنصرية الاحتلال عندما قال: السجين اليهودي يغال عمير قاتل اسحق رابين يختلي بزوجته وأنجب منها أطفالا، أما أنا فلم يسمحوا لي حتى ان المس أمي، ويكتب وليد حكاية سر الزيت التي بطلها ابنه الذي لم يولد بعد، معلناً انه لن يسمح لهم بقطع صلته بالزمن القادم، لن يسمح للسجن ان يغرقه في تلبد الإحساس والمشاعر. اثبت الأسرى الذي أعلنوا ثورة الحب وتهريب النطف وإنجاب الأطفال أنهم قادرون على التعالي فوق قدرهم الخارجي، الشعور بالمسؤولية ليس داخل السجن فقط وإنما بالحياة العامة، هناك أطفال قادمون، هناك سعادة، أسرة متكاملة، لان الحب هو الهدف المقدس والأسمى لأي إنسان، التغلب على الفراغ الروحي وصدى الجدران، الحب هو الخاتم الذي يبصم نفسه على القلب ويبقى ينبض حتى في زمن المؤبدات المفتوح ووسط حفلات القمع اليومية. لم ينتصر الأسرى على السجانين والجلادين بالرصاص، انتصروا بما يملكون من حب وإنسانية، اسقطوا القناع عن وجه دولة الاحتلال البشع، كشفوا أحقاد هذه الدولة على البشرية والسلام الإنساني، صنع الأسرى الأمل العصي على المساومة والمقايضة. ثورة الحب خلف قضبان سجون الاحتلال رغم حشر الأسرى خلف الأسلاك والأبواب الحديدية يشعرون بجمال الحياة، ولعل السجانين لم يعرفوا هذه القوة الروحية الخارقة للأسرى في رؤية الجمال، ها هم الأسرى يرون السحاب والسماء والمطر والأشجار الجميلة، ينبهر السجانون عندما يقرأون ما يكتبه الأسرى من قصائد وروايات وخواطر وأناشيد لتصبح العاطفة والحنين الإنساني أقوى من القيد، يتساءل عندها السجانون: هل هؤلاء فعلاً داخل السجن؟، ورد على ذلك الاسير الشاعر وسيم الكردي بقوله: نحب الحياة وسفر الحياة ونشرع في الموت موت الولادة فتنثال منا المصابيح، تنشر في الارض زهوا وعادة وننفض عنا غباراً تراكم، نجهر بالعشق عشق العبادة ونمنح قوس الحياة شرايين حب تلاقي انشدادة الإنسان الأسير يستطيع ان يحتفظ ببقية من الحرية الروحية ومن استقلال العقل حتى في تلك الظروف المريعة من الضغط النفسي والمادي، هي عظمة إنسانية عندما يصبح الحب هو القوة العظمى، السجانون سيطروا على الجسد ولكنهم لم يستطيعوا السيطرة على الحرية الداخلية في نفوس الأسرى. ثورة الحب مدت الحبل السري بين هنا وهناك، الرابط المقدس بين الأسير والحرية والحياة، فأن منعت إسرائيل الزيارات ووضعت كل العقبات أمام التواصل الاجتماعي بين الأسرى وذويهم فقد خُلقت الحياة الآن بدون تصريح امني، وكسرت ثورة الحب كل الممنوعات. ثورة الحب خلف القضبان هي ثورة مختلفة لم يحدث مثلها في تاريخ ثورات التحرر الوطني، الإسرائيليون يمارسون القتل والإعدامات والاعتقالات وهدم البيوت ومصادرة الأراضي وبناء المعسكرات، مشغولون بتشريع قوانين عدوانية وعنصرية وانتقامية من الأسرى وصلت ذروتها في قانون الإعدام، ولكن الأسرى مشغولين ببناء الحياة، يضيئون وجه الإنسانية والعدالة الكونية والأخلاق والقيم النبيلة، ينجبون أطفالا أحياء رائعين في الوقت الذي ترسل فيه إسرائيل أطفال فلسطين إلى السجن أو إلى المقابر أموات. ثورة الحب تقول للعالم: نحن ننتج الحب وهم ينتجون القنابل، نحن ننتج خطاباً أخلاقيا إنسانيا حضارياً وهم ينتجون خطاب الكراهية والخطيئة والتطرف والعسكرة وإلغاء الآخرين. لازالت دولة الاحتلال تلاحق الأطفال المولودين والأطفال الساكنين في النطف، وتلاحق وسائل تهريب النطف، وتلاحق النطفة عندما تصبح علقة فطفلاً، لا يعترفون بوجودهم، لم يولدوا، لا شهادات ميلاد، لا زيارات لآبائهم أنهم أسماء ميتة. منظومة القمع في دولة إسرائيل استنفرت كلها من وزراء ومخابرات وقضاة وسجانين، لم ينجح السجن الإسرائيلي في التسبب بالموت الانفعالي للأسرى، لم يتجمدوا في عالم السجن الممل والمغلق، لم يصابوا بالبلادة والعجز الجنسي، لم تنشف مشاعرهم وتتوارى ذكرياتهم وأشواقهم للحياة الطبيعية. ثورة الحب خلف قضبان السجون انطلقت، وأكثر ما فيها من روعة هي المرأة الفلسطينية زوجة الأسير المنتظرة الصامدة الصابرة، المتحدية للتقاليد والمخاوف الاجتماعية، هذه المرأة التي حبلت مرتين: مرة بالصبر الطويل والانتظار، ومرة بمولود جاء كما البرق من خلف السحاب، هل هي مريم الفلسطينية حاملة البشرى والهداية والحب والسلام؟ ولتلك الحبيبة كتب الشاعر الاسير محمد عبد السلام: ولكنني يا حبيبة عمري البعيدة على الرغم من انني مثخن بالسهام واسمع حز القيود برجليَّ حتى العظام تيقنت اني بحبك انت تسامت حياتي وازهر موتي فحلقت... حلقت حتى تحولت نفسي قصيدة |