وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

تغيرت ملامح رام الله لكنها ظلت قادرة على الحب

نشر بتاريخ: 27/05/2019 ( آخر تحديث: 27/05/2019 الساعة: 12:06 )
تغيرت ملامح رام الله لكنها ظلت قادرة على الحب
الكاتب: د. حسن عبد الله
سألني الكاتب عيسى قراقع في لقاء جمعنا في بيت لحم إذا ما كنت قرأت مقاله الذي حمل عنوان " رام الله مدينة لا تعرف الحب"، فأخبرته أنني لم أقرأ المقال المذكور، فقال "أنصحك بقراءته" مستطرداً "رغم أنك قد لا تتفق مع مضمومنه، فأنا أعرف مقدار حبك لرام الله".
وفي اليوم التالي قرأت المقال بالفعل وتفهمت خلفياته والتجربة الخاصة التي أفضت إليه، بيد أن المضمون المباشر وغير المبشار في المقال أحدث لدي تفاعلات وتداعيات ذهنية ووجدانية، فقررت أن أكتب مقالاً يحمل طابعاً حوارياً، مستهلاً بتشبيه للروائي الكبير الراحل حنا منيه، حينما ذكر بأن المدن تشبه النساء، ولكل مدينة لونها وطعمها وعبقها وجاذبيتها كما المرأة، أما أنا فأضيف مؤسساً على تشبيه هذا المبدع، أن هناك مدينة تبدو كامرأة مدلله ناعمة فيما مدينة أخرى وكأنها امرأة حادة القسمات جدية مشدودة دائماً، بسبب العمل والكدح وتعرض البشرة طويلاً لأشعة الشمس.
فالمدينة المدللة الناعمة امرأة تحظى بالإعجاب، فيما المدينة التي تصارع من أجل البقاء والاستمرار والتغلب على تحديات الحياة _ امرأة مكافحة تستحق الاحترام والتقدير.
لقد كانت رام الله في مرحلة معينة من عمرها امرأة جميلة مدلله، يأتي إليها الزائرون من كل مكان لاسيما في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ومع أن سنوات الاحتلال بعد العام 1967 كانت قاسية وصعبة، صمد جمال المدينة واستمر، إلا أن رام الله المرأة الجميلة المدلله تغيرت في الانتفاضة الأولى في العام 1987 واضطلعت بدور نضالي مهم وتحولت إلى مركز للقيادة الموحدة وساحة العمل السياسي، ولم يكن ذلك منفصلاً أو منفصماً عن الفعل الميداني.
كانت رام الله يا أخي عيسى مدينة حالمة رومانسية ترعى قصص الحب وتحميها وتفرح بولادة كل حب جديد، وكانت ساحة للأدب والمسرح والسينما والرياضة والتسامح، فلم تفرق يوماً بين مسلم أو مسيحي، فهي لا تسأل القادم عن ديانته أو معتقده، ولا تقرر استقباله أو إغلاق الباب في وجهه بناءً على اتفاقها أو عدم اتفاقها مع معتقده، فالكل مرحب به في مدينة مفتوحة الأبواب والنوافذ والساحات والقلوب والأفكار، وبقيت محافظة على انفتاحها حتى يومنا، رغم المتغيرات المتسارعة التي اجتاحتها ورغم الضجيج الذي أنسى الناس أن هذه المدينة كانت هادئة يوماً.
بعد أوسلو تم نفخ المدينة بالمؤسسات والوافدين من الخارج ومن المدن الفلسطينية الأخرى، ونُفخت بالمشاريع الخاصة والمنظمات غير الحكومية والوزارات وكل الدوائر والمسميات المرتبطة بالسلطة ومنظمة التحرير، لتقوم بدور (عاصمة مؤقتة)، على اعتبار أن العاصمة الاستراتيجية (القدس)، ممنوع على المؤسسات الفلسطينية العمل فيها، حيث خضعت لعملية تفريغ، وأخذت رام الله كثيراً من حصة القدس السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وازداد عدد سكانها ونشطت فيها حركة بناء عقاري غير مسبوقة، وتحولت رام الله إلى ورشة بناء، وكان ذلك على حساب الجانب الجمالي، بعد أن ابتلعت العلب الأسمنتية الأشجار، وابتلعت أيضاً البنايات التاريخية، حيث اجتاحت حمى الاستثمار والربح كل متر في هذه المدينة، فهدم من البنايات القديمة ما هُدم، وأقيمت على أنقاضها عمارات شاهقة مرصوفة بالشقق الأسمنتية التي صارت هدفاً للمواطنين، خصوصاً ذوي الدخل المتوسط الذين ربطوا رواتبهم لعشرين عاماً في المتوسط، لتسديد ثمن الشقق وأرباح البنوك.
أنا أحب رام الله القديمة التي تفتحت عيناي عليها في مرحلة الطفولة، أحب شوارعها النظيفة ووجوه سكانها المعروفة وبيوتها الأنيقة ومتاجرها التي كانت تجمع بشكل غريب بين البساطة والفخامة، لكنني وأنا الباحث بين الزحام والضجي اليوم عن صورة رام الله بالأمس، لا أكره رام الله الحديثة، وأتفهم تماماً المتغيرات فيها، فهي مثلها مثل المدن المفتوحة لا تنام ولا تتوقف الحركة فيها، تسابق الزمن، تركض وتركض في ظل علاقات رأسمالية، وهي تشبه مدناً كبيرة في عالمنا العربي في الانفتاح وسرعة الحركة.
في كتابي "رام الله تصطاد الغيم"، أردت القول، إن هذه المدينة تذهب في دروب المدن الحداثية، وتحاول تحقيق كل شيء في زمن قياسي، لكنها بسبب الاحتلال والظروف المحيطة بها، سوف لا يكون بمقدورها " اصطياد الغيم"، ففي ذلك لعبة عبثية، وقلت إن نهارها سريع ومضغوط، لكن في "ليل رام الله لا أحد ينام، لا المدينة، ولا "ليل الشاعر، ولا السائق، ولا نادل المطعم، ولا العجوز الذي ينخز الربو صدره، لا ينام الحارس ولا اللص، وحدهم الذين ينامون دون حساب عسير مع التخمة أو الجوع هم الشهداء...."
أدرك يا أخي عيسى، أن التجارب القاسية والمؤلمة، من الصعب التخلص من آثارها بسرعة، ومن الطبيعي أن يحتاج الإنسان إلى وقت أطول. وأدرك أنك غادرت رام الله حزيناً منفطر القلب، ومع هذا لا يجوز أن نصب جام غضبنا على المكان، على جغرافية مدينة، ولا يجوز أن نخلط بين الناس وتفاصيل المكان، فتزعجني إلى أبعد الحدود استخدامات "حكومة رام الله" أو "جماعة رام الله" أو "جماعة غزة"، وكأن تناقضنا مع الجماعة في هذه المدينة أوتلك تحول إلى تناقض مع المدينة - المكان، وفي الأمر إشكالية، لأن الفلسطينيين من أكثر شعوب الأرض ارتباطاً بالمكان سواء كان مكاناً قديماً أو حديثاً، حيث انتزع يوماً من المكان القديم، ويخشى أن ينتزع ثانية من المكان الحديث، فنحن نحب أماكننا مدننا القديمة والحديثة ونرتبط بها سياسياً ووجدانياً وأخلاقياً، نحب أماكننا بخشونة أحياناً وبمنتهى اللطافة والشفافية أحياناً أخرى. ولا أعتقد يا "أبا خالد" أن رام الله المدينة تنكرت لك وكذلك لم يتنكر لك أهلها، فقد ودعتك بإطلاق كتابك "امرأة الساعة السادسة والثلاثين"، وشاهدت شخصياً في حفل الإطلاق كيف احتفت بك نخبة رام الله الثقافية والسياسية احتراماً لما قدمت وأنجزت.
إذن لم تتنكر نخبة المثقفين والأكاديميين لعيسى قراقع وإنما احتفت بما أنتج، ولم تتنكر له رام الله -المكان-فهذه المدينة وعلى مدى قرون من الزمن، وطيلة الفترة التي تبلورت فيها كبلدة ثم مدينة وحتى الآن، وهي تمارس الاستقطاب والجذب لا الطرد والتنكر، وكل مكونات رام الله- المكان - طالما حفرت في أذهان وخيالات الذين زاروها.
إنها مدينة طموحة، وربما يكون طموحها أكبر من حجمها، وإمكانياتها، وهناك من يحاول أن يضيف إليها الدور السياسي والثقافي والاقتصادي للقدس إمعاناً في تهميش وعزل المدينة المقدسة، لذلك أوردت في كتابي "رام الله تصطاد الغيم"، دعاءً حملته بعض المغازي والدلالات قلت:
"اللهم احفظ هذه المدينة من نفسها
اللهم احفظها من المرحلة
اللهم اجعلها تعرف وتدرك دورها وحجمها بدقة
اللهم ثبت في أعماقها قناعة، انها رام الله، وليست القدس ولن تكون".
أكفتي بهذا القدر، مجبراً قلمي على التوقف عند هذا الحد لكي لا أتجاوز المساحة المحددة لمقالي الأسبوعي، مؤكداً أنني لم أسع إلى رد تقليدي بل رغبت في التفاعل نقاشاً وحواراً مع ما كتبه قراقع في مقاله " رام الله مدينة لا تعرف الحب".