|
المؤسسات الخضراء ... وحلم المدينة الفاضلة
نشر بتاريخ: 02/07/2019 ( آخر تحديث: 02/07/2019 الساعة: 15:23 )
الكاتب: أ.صخر سالم المحاريق
مع انطلاق دخّانها الأسود وصافرتها الأولى، ولا زال دولاب قاطرة المهندس الاسكتلندي جيمس واط، يجوب الحقول الخضراء والفاقع لونها، ورغم بدء تغيير لون السماء حينها ورماديته، لكنّ الصوت كان بمثابة إيذاناً بانطلاق عصرٍ جديد، ويدعو للتجديد ابّان القرن العشرين، عصر النهضة والثورة التكنولوجية والصناعية، عصر توالت وازدحمت فيه الذاكرة البشرية، باختراعات ومكتشفات لم يسبق لها مثيل، لكن يبقى الذهب الأسود في طليعتها جميعاً، ذلك الوقود والذي حرّك عجلة الصناعة تلك، ومجريات حياتنا اليومية في هذه الحقبة من التاريخ الانساني، كما أنه كان بمثابة المحفز لانخراط الدول والمجتمعات تباعاً في ركب الثورة الصناعية، تلك الثورة والتي انطلقت من قلب أوروبا ذاتها، وحقولها الخضراء تلك، واقصد هنا إنجلترا وألمانيا على وجه الخصوص.
منذ ثمانينيات القرن الماضي تتـنامى المطالبات الرسمية وغير رسمية في العالم، والقاضية بالعودة إلى ذاكرة ذلك العالم الصحي النقي والنظيف قبيل الثورة الصناعية، وتكاد تملأ الاحتجاجات المستمرة أرجاء مدن أوروبا ذاتها، والتي كانت الموطن والمنشأ لتلك الآفات البيئية، وآثارها السلبية كنتيجة حتمية للتحول الصناعي والتكنولوجي، والذي عمّ العالم برمته، ومما لا شك فيه أن العصر التكنولوجي كان وما زال العصر الذهبي، والمليء بالتطورات التي هونت على الانسان الشيء الكثير، وجعلته يقضي كثيراً من أمره دونما عناء يذكر، ولكن “لكل شيء إذا ما تم نقصان”، حيث كان ذو ميزات وسلبيات عمت عالمنا اليوم، عالم كان يتسم بالنقاء والصفاء والتلقائية في تجدد مكوناته، وتفاعلها معاً وعفوياً، وفق منظومة كونية، فهي كالميزان لا يشوبها أي شائب في توازنها البيئي والطبيعي، توازن مثالي في كل شيء، في الهواء والماء، في الغطاء النباتي والحيواني وغيره، لتسير كلها بانسجام كوني وفطري وبلا أية منغصات للعيش. فالمؤسساتُ الخضراءِ مفهومٌ جديد في عالم الأعمال اليوم، والذي يسعى مروجوه والداعمين له إلى تعزيز وتكوين حالة من التوازن كرد للجميل، والتي يفترض فيها بناء علاقة مثالية بين المؤسسات بأنواعها وبين مكونات بيئاتها الطبيعية وتفاعلها معاً، وخاصة تلك المتعلقة بالنظام البيئي، والحفاظ عليه فيما يعرف بالبصمة البيئية؛ والتي تعني مقدار الأثر السلبي مقارنة بالإيجابي تجاه الحفاظ على حالة من التوازن البيئي، على صعيد المؤسسة الواحدة ومجموع المؤسسات العاملة في منطقة جغرافية معينة، فعملية تقليص مخلفات الانشطة الاقتصادية من صناعية، أو زراعية أو تجارية ... إلخ، هي شكل من أشكال المسؤولية المجتمعية تجاه البيئة والبشرية. وكما نعلم جميعاً فالمؤسسة عبارة عن كيان منظم، يتكون من مجموعة من المدخلات والعمليات والمخرجات، شأنُ أيِ نظامٍ أو منظومة، كما وتحكمها وتسيرها مجموعة من الاجراءات والأنظمة والقوانين الضابطة والموجهة، وتسعى لتحقيق مجموعة من الغايات والأهداف كمنافع عامة وخاصة، وفق استراتيجية ورؤية معينة ترسم مستقبلها، والمؤسسات الخضراء؛ هي منظومة مؤسساتية بيئية تراعي في اعتباراتها أن تكون مدخلاتها خضراء؛ عبر استخدامها لمواد خام صديقة للبيئة كمدخلات لعملياتها الانتاجية، بحيث تخفف من عملية الهدم البيئي قدر الامكان، أو أن تكون عملياتها خضراء؛ بمعنى أنّ عملية الانتاج تراعي في حيثيتها الأثر البيئي -على سبيل المثال لا الحصر- استخدام الطاقة النظيفة بأشكالها المختلفة، كالطاقة الشمسية، وكطاقة الرياح والمياه وغيرها، أو أن تكون مخرجات المؤسسة خضراء متممة للمنظومة السابقة؛ عبر منتجات صديقة للبيئة أيضاً، سواء كانت في هيئة سلع ملموسة صديقة للبيئة، أو خدمات غير ملموسة، تراعي الحفاظ على النظام البيئي، ومكوناته الطبيعية المادية والبشرية. إنّ المحافظة على البيئة نظيفة هو مقياس لرقي الأمم وتقدمها، والدليل على سموِ حضارتها ومدنيتها، حيث أصبحت اليوم المؤسسات الخضراء الصديقة للبيئة إحدى أركان وشروط مؤسسات الأعمال الرائدة، ولكن مع الأسف فإنّ هذا المسمى غدى أشبه بوهم المدينة الفاضلة لأفلاطون، في أخلاقياتها ومثاليتها وأفضلتها على غيرها، فكبرى دول العالم الرأسمالي اليوم في المجال التكنلوجي والصناعي، وأقصد هنا الولايات المتحدة الأمريكية، هي من الدول المعارضة وغير موقعة على الاتفاقية العالمية الخاصة بحماية الغلاف الجوي وطبقة الأوزون، والمتمثلة ببروتوكول مونتريال، واتفاقية فيّنا الدولية، وغيرها الكثير من الدول، كما أن الكثير من الصناعات لا زالت تحرق رئتي الغلاف الجوي بشراهة عبر أبخرتها وغازاتها المتناثرة، فمكبات النفايات ومطاميرها لا زالت تعصف بهواء أفريقيا وطبيعتها. وخلاصة القول إن من غير المنطق وجود كيان أو مؤسسة خضراء بالكامل في مدخلاتها وعملياتها، وكذلك الأمر في مخرجاتها رغم المحاولات الجزئية، فهذا الأمر يعد استحالة، وحالة من المثالية المنشودة، شأنها شأن رؤيا المدينة الفاضلة، ولكن الأمر في الأساس هو قرار سلوكي محض، فالسلوك الذي يجب أن ننتهجه جميعاً كأفراد ومؤسسات، هو الراعي والضابط الأول تجاه المحافظة على بيئاتنا نظيفة وخضراء قدر الإمكان، لأن العملية الصناعية والتكنولوجية تتطلب نوعاً من الهدم والاسراف البيئي لا محالة، ولكن في المقابل يجب علينا التفكير بردة فعل سلوكية تجاه الموارد البيئية التي تصنع نوعاً من التوازن، عبر مع يعرف بإعادة (البناء البيئي) في مقابل عملية الهدم البيئي، حيث كانت هذه وجهة نظر النظام الاسلامي تجاه استخدامنا للموارد الاقتصادية، كوجهة نظر اقتصادية، بحيث اعتمد على ضبط سلوك الأفراد والجماعات في مقابل علاج محدودية الموارد الاقتصادية وندرتها واستهلاكها، حيث قال عليه الصلاة والسلام في حديثه "لا تسرف ولو كنت على نهر جاري"، فالضابط هنا سلوكي؛ على العكس من النظام الاشتراكي والرأسمالي والذي اهتم بتنمية وتطوير الموارد، وهذا أمر غير منطقي في ظل النقصان المستمر فيها ومبدأ الندرة أصلاً، فسلوكنا اليوم وغداً هو من سيرعى حق أبنائنا والأجيال القادمة في المستقبل، وإلى ذلك الحين، يكون الأمر قد انقضى برؤيا عدم تحقق نبوءة أفلاطون بمدينته الفاضلة، إذا ما قارنا اخلاقيات قطاع الأعمال اليوم بأخلاقيات المدينة الفاضلة، تجاه مسؤوليتهم المجتمعية ومجتمعاتهم، وستبقى المدينة الخضراء على غرار المدينة الفاضلة، وكأنها (يوتوبيا) وفكرة أحادية النواة، لا انشطار فيها نتقاسمه ونتشاركه في الأفعال لا في الأقوال، بالرغم من أن هناك من يوافق أفلاطون الفكر والرأي من دعاة اللون الأخضر، والأحزاب البيئية أمثال تحالف 90/الخضر B ndnis Gr nenالألماني وغيرهم. |