|
فيلم "خيوط من حرير" ينسج الرحلة إلى الوطن الأول
نشر بتاريخ: 15/07/2019 ( آخر تحديث: 15/07/2019 الساعة: 19:41 )
ربما تكون اعتدت رؤية قطع المطرزات الفلسطينية، ما يجعلها تصبح نوعاً من "الفولكلور" محيط بك، كأي من أيقونات التراث، إلا أنك سرعان ما تغير رأيك في حال شاهدت فيلم "خيوط من حرير" إذ توقن أنك لا تعرف الكثير عن التطريز الفلسطيني، فهناك أسرار ودلالات حول أثر خيوط الحرير هذه على القماش قد لا تعرفها طوال حياتك إذا لم تستمع إلى شخصية الفيلم "أم فرج" التسعينية أو من تضاهيها بالتجربة.
فيلم " خيوط من حرير" شديد الحرفية، وصورته متقنة من تصوير حسين جابر، كما أن الحوارات جاءت فيه منظمة وعفوية في الوقت ذاته، في مواقع للتصوير بين الطبيعة والأشجار وعلى الرمال، لجلسات نساء يعملن في التطريز يتحدثن ويضحكن، فهن لا يمتلكن سوى الحكايات؛ فقيرات المال، لكنهن غنيات بالمحبة والقصص. والفيلم يقول الكثير عن بضع خيوط وأقمشة، بل يعطيها حياة، كالحكايات الشعبية اللواتي تطرزها هؤلاء النسوة على القماش الأسود، في تمسك بمعاني وعادات عِشنها أو عاشتها جداتهن قبل النكبة والتهجير في جميع مدن وقرى فلسطين سواء ذات الطابع المدني أو البدوي أو الساحلي، إلى درجة أن الطبيعة في تلك المدن أيضاً تنعكس على التطريز؛ كغرز تطريز تحمل اسم أشجار السرو أو عرق "الدوالي" أي ورق شجر العنب، أو العادات والتقاليد مثل غرزة الحماة والكنة والطاووس والساعة ما يدل على التنوع الجغرافي والعرقي والثقافي في فلسطين منذ زمن بعيد. تقول مخرجة الفيلم الشابة ولاء سعادة " ركزت في الفيلم على أم فرج وابنتها غالية فهما تعتبران التطريز جزءا من حياتهما، كما يعبر في ذات الوقت عن علاقتهما بالأرض وكونه إرث عائلي، فقد حمل كثير من الفلسطينيين الأثواب معهم من أيام النكبة كذكرى وكانت أم فرج واحدة منهن". وفي الفيلم تتحدث أم فرج بكل تلقائية مرتدية الثوب الفلسطيني، وتغني وتضحك، وتطرز بنشاط، إلى درجة تشعر أنها لا تزال في العشرينات من عمرها خاصة حين تغني "كل مشية العروس غندرة!". ويبدأ الفيلم بمشاهد قوية خلال رعايتها لأرضها ودجاجاتها، وتستمر هذه القوة في المشاهد والحوار، واختيارات المخرجة لزوايا التصوير، وجلسات شخصية الفيلم في سلاسة لا تشعر معها بالملل بل تشعر بالتقصير كفلسطيني أنك لا تهتم كثيراً بهذا التطريز، كما تفعل هذه المرأة التي تصحو وتنام بالثوب الفلسطيني وكأنها لا تزال تعيش ما قبل الهجرة في فلسطين حين كان الثوب الفلسطيني والتطريز هو الزي اليومي هناك. والآن تعتمد أم فرج مع عائلتها على عائدات التطريز، وهو الشيء الوحيد الذي بقي معها منذ الصغر، وتقول في الفيلم "كان عمري 16 عاما وكان على إيدي ولد عندما تهجرت من روبين الواقعة في الجهة الشرقية من يافا وكنت أشتري الخيطان من يافا ومن يبنا ومن الرملة ومن اللد ومن زرنوقة ومن القدس، ومن وين ما كان في خيطان، نشتري ونخيط" وبهذه البساطة تشعر أن التطريز جزء من ذاكرتها وتراثها وحياتها، ووطنها. وربما هذا الحنين إلى فلسطين، ما يجعل المخرجة تنتقل إلى تصوير مشاهد لمسيرات العودة على الحدود مع قطاع غزة، وهي مسيرات تحن بدورها إلى أراضي فلسطين قبل النكبة عام 1948 وقد كانت من المشاهد الأخيرة في الفيلم. توافق المخرجة أن هناك انتقال في الفيلم لحكاية موازية غير مرتبطة بالتطريز؛ كمسيرات العودة، موضحة أنها أرادت تناول قصص تدور في محيط حياة "أم فرج"، وتشبه علاقتها بالأرض والحنين إليها، وهو ما يحيل إليه التطريز منذ البداية. وتضيف بثقة "ربما الربط السينمائي ليس قويا، لكن في النهاية الأعمال السينمائية مفتوحة للمشاهد للنقد والتعبير كيفما يريد أو يرى وأنا انتظر كل الآراء والتعليقات بحب".. وهناك بعض العبارات الحوارية التي تقولها أم فرج في الفيلم تبقى عالقة في ذهنك: "هذا ثوب البدوية أكبر من ابني فرج"، و"البنت لا ترتدي مطرز أحمر أو برقع إلا لو تزوجت"، كما تقول بروحها الخفيفة التي تجعل المتلقي يقع في حب الفيلم "كل ما ألاقي وحدة لابسة ثوب حلو، بغار وأصنع مثله". ويبدو أن اختيار شخصية مؤثرة وذكية مثل أم فرج لم يأتِ عشوائياً، تقول المخرجة عن ذلك " بدأت بالبحث حول قضية التطريز وتتبع القصص الخاصة، فجذبتني شخصية أم فرج لأنها عايشت النكبة." وأضافت أنه كان يوجد شخصيتان رئيسيتان في الفيلم، أم فرج وامرأه أخرى وبناء على نصيحة من مديرة المشروع والمنتجة علياء ارصغلي بأن تركز على شخصية أم فرج فقط وابنتها غالية، تم ذلك وهذا القرار الصائب أعطى الفيلم عمقاً وتكثيفاً. والفيلم واحد من عشرة أفلام من إخراج مخرجات فلسطينيات شابات من الضفة الغربية، القدس وقطاع غزة، قامت مؤسسة "شاشات سينما المرأة" بإنتاجها والإشراف عليها، وتوفير الإمكانيات اللازمة لنجاحها، وسيتم إطلاقها في "مهرجان شاشات الحادي عشر لسينما المرأة" الذي يحمل عنوان "أنا فلسطينية". وتبحث هذه الأفلام في البعد الذاتي للانتماء والهوية، كما تركز على تعبيرات متشعبة عن حيوات المرأة الفلسطينية المتعددة التي تعطي عمقاً إبداعياً وذاتياً لتصورات سينمائية حول العلاقة مع الأشخاص، الأشياء، المشاعر، الأماكن، الحكايات والعلاقات. وتسلط الأفلام الضوء على إعطاء عمق شخصي لكيفية تعزيز المواطنة بأبعادها المكانية والزمانية وفضاءات احتمالاتها، إذ تشكل أفلام "أنا فلسطينية" جزء من مشروع "يلاّ نشوف فيلم!" الذي تنفذه مؤسسة "شاشات سينما المرأة"، وهو مشروع ثقافي-مجتمعي ممتد على ثلاث سنوات بتمويل رئيسي من الاتحاد الأوروبي وتمويل مساعد من مؤسسة CFD السويسرية وممثلية جمهورية بولندا في فلسطين، ويستهدف جمهور واسع وفئات مجتمعية مختلفة في سعيه إلى تطوير قدرة الفئات المجتمعية المختلفة على النقاش والتفاعل المتبادل، وذلك بهدف تعزيز المواطنة وحرية التعبير والتسامح والسلم والمسؤولية المجتمعية وتماسك النسيج الاجتماعي. وحول تجربتها عامة في صناعة الفيلم تقول المخرجة سعادة "التجربة مع شاشات تجربة ثرية مؤثرة وأيضا تعطي فرصة رائعة للمخرجات الشابات، لتشجيعهن على الإخراج وإنتاج أعمال فنية سينمائية، وما يميز شاشات كونها تعطي الحرية للمخرجة وفي ذات الوقت ضمن أجواء مشتركة من العمل منذ إجراء البحث حول موضوع الفيلم حتى إنتاج المواد الإعلامية الفنية، وهذا جعلني أفضل في إدارة فيلمي القادم، فهذه التجارب تتراكم لنصبح أكثر نضجاً، وأكثر وعياًب مكونات السينما والهوية البصرية". وتؤكد أنها من ناحية أخرى شعرت بأنها تخرج من أسوار الحصار في غزة، ومن القيود الأخرى التي تجرم السينما كأداة للثقافة وتغيير الوعي،و تجعلها في آخر قائمة الأعمال الأنشطة الترفيهية، بينما يمكنها أن تصنع وتحفظ التاريخ الوطني! وتوضح أن من التحديات الهامة التي واجهتها خلال صناعة الفيلم، كون عملية المونتاج تم جزء منها في غزة وجزء في الضفة، ومع ذلك لم تغب عنها بسبب مهارة وتواصل مؤسسة شاشات بالتفاصيل، فقد تم تحميل الروابط لها من أجل أن تبدي رأيها في كل التعديلات خلال عملية المونتاج، وهذا أفضل ما يمكن حدوثه في ظل انقسام واحتلال، بحسب وصفها. وتضيف حول التحديات الأخرى " شخصية الفيلم سيدة معمرة تحتاج لطريقة خاصة في الحوار والحديث، وهذا لم يكن سهلاً، وقد كان تحدياً استطعت التغلب عليه من خلال بناء علاقة جيدة معها قبل أيام التصوير برفقتها وبرفقة أحفادها والعائلة، خاصة أنها تعيش في منطقة أمنية بمحيط حاجز بيت حانون الإسرائيلي! ( ايرز )". وكان الفيلم الذي بدأ بالتطريز انتهت رحلته بالتطريز أيضاً حين وصفت النسوة صديقات أم فرج اللواتي يعملن معها تأثير الحصار على توفر خيوط الحرير والقماش بالقول "كنا نطرز على أكياس الطحين والخيش، ولو انقطعت أيضاً سنطرز على ورق الشجر". |