|
الاقتصاد السياسي في ميزان الأنظمة الاقتصادية التقليدية
نشر بتاريخ: 28/07/2019 ( آخر تحديث: 28/07/2019 الساعة: 14:21 )
الكاتب: صخر سالم المحاريق
تشهد أوروبا اليوم بصفتها موطن الفكر الرأسمالي، ومولد الفكرة الاشتراكية، أسلمة لبعض نشاطاتها الاقتصادية، ومنها الأنشطة المصرفية، على سبيل المثال لا الحصر، فالفائدة قد لامست الصفر في إيرلندا، وكثير من البنوك الفرنسية كذلك، كما وأظهرت الأزمات الاقتصادية مدى هشاشة تلك الأنظمة، وذلك منذ الكساد العظيم في عشرينيات القرن المنصرم وحتى يومنا هذا، فالهيمنةِ والغطرسةِ واليدِ العليا لهذه الدول، هي من ساعدت هذه الأنظمة على البقاء، اقتصد، يَقْتَصدْ، وفاعلها مُقْتَصِد، ومفعولها مُقتصَد؛ هذا هو الأصل اللغوي للمصدر اقتصاد، والذي هو موضوع حديثنا؛ ذلك العلم القائم بحد ذاته، والذي يعد وجهة الدارسين اليوم، في اختصاصات جمة، هو أصلها ومنبع نشأتها، كما وأنه أحد السببين الرئيسيين للصراع البشري الأزلي (صراع القوى)، الصراع الديني والاقتصادي، وأما السياسة فهي تقع منزلة الوسط في شد وجذب بينهما، وتطويع للشقِ في مصلحة الآخر.
فعلم الاقتصاد كأصل، وما تفرع منه ما هي إلاّ اختصاصات مرتبطة به، وكلها لأجل غاية واحدة وإن تعددت الأهداف، ألا وهي علاج "المشكلة الاقتصادية"؛ من منطلق ومنظور الندرة للموارد، والتي تفيد بأن الحاجات والرغبات البشرية في تزايد مستمر، وفي المقابل التناقص المستمر أيضاً في الموارد المتاحة، والتي تلبيها وتغطيها، وهذه المُسَلَّمَة الاقتصادية والتي لا يمكننا تسميتها فرضاً بأي شكل من الأشكال، هي موضوع علم الاقتصاد والاقتصاديين، في بحثهم الحثيث عن بدائل من وسائل وأدوات وآليات، أسقطوها في قوالب ونماذج اقتصادية واجتماعية، لعلاج تلك الفجوة والعلاقة العكسية بين طرفي المشكلة، فعند صياغة أي منظومة أو نظام يجب علينا فهم الجزء في إطار الكل، ومن ثم الانتقال إلى تكوين الكل الشمولي. ومن هذه النماذج والنظم الاقتصاد السياسي، والذي كان من أهم مقدميه جون ميل في كتابه "مبادئ الاقتصاد السياسي"، والصادر عام 1848م، هذا المفهوم والذي يبحث في أمورٍ أربعةٍ؛ وهي المادة أولاً، الاستنفاذ والاستهلاك ثانياً، وإحداث الثروة وتحصيلها ثالثاً، وتوزيعها رابعاً، كما ويناقش القضايا المعيارية مثل النظم المثالية للاقتصاد السياسي، ونقد النظم المقترحة مثل الشيوعية والاشتراكية، وإدخالها للسياسة، وبناء منظومة حكومية لتحقيق المصالح الاقتصادية للبلد، من خلال تحقيق ايراداتها وجبايتها بشكلٍ جيد، تعمل على تقليص الفاقد قدر الامكان، كما ويعزز من فلسفة النظام الرأسمالي القائم على الحرية المطلقة للفرد، في كلِ شيءٍ بلا حدود والمسماة “بالليبرالية”، وكذلك من حريات اجتماعية كحرية المعتقد والدين والتعبير، وحريات اقتصادية كالتملك وحرية السوق، وسياسية أخرى كالصحافة، والديمقراطية، ومفرزاتها مثل العلمانية وغيرها، وهي ذاتها ما طرح في كتاب "ثروة الأمم"، وهو أهم مؤلفات الاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث، والذي تم نشره عام 1776، والاقتصاد السياسي لم يأتي بما يصح أن يقال فيه منظوراً جديداً ومثالياً، إذا ما قورن بأطروحات وآراء سابقيه، فالإضافات فقط هي مجرد بناء وتطوير لجذور الفكرة السابقة ذاتها، فكتاب (ميل) -سالف الذكر- ما هو إلا عمل تحدث فيه عن الانسان بوصفه إنساناً اقتصادياً ومادياً، كذلك المصلحة الفردية كهدف للمبادلة الاقتصادية، وتحقيق الاستقلالية في بلوغ المستقبل حسب تعبيره، كما تحدث الاقتصاد السياسي عن عملية الاستخدام وتعزيز الثروة، إضافة لما يستلزم الإلماع إلى ذكر الضرائب والرسوم، عبر تخصيص كلُ بلدٍ جزءً من ثروته لأجل القيام بمصاريفه كأساس للاقتصاد السياسي المثالي. ولنضع ذلك التشابه الكبير بين جميع الأنظمة الاقتصادية باستثناء الاسلامي، وما تقدمه من حلول متناقضة مع أصل المشكلة الاقتصادية، والذي تحدثنا عنه سابقاً، وهنا نستشهد بأقوال كبار منظري تلك الأنظمة، لنلحظ معاً مقدار التناقض في الطرح، ومنها بعض آراء آدم سميث الأب الروحي للرأسمالية ومن أقواله: “إن التزايد الكبير لمنتجات الصنائع كلها، هو الذي يمنح المجتمعات المدبرة، تلك الثروة العامة”، ويردف في قول آخر: “إن الاستهلاك هو الغاية الوحيدة والغرض من وراء كل عملية إنتاج؛ ولا ينبغي أن ننظر باهتمام لمصلحة المنتج، إلا بقدر ما يكون ضرورياً لصالح المستهلك”، أليس هذا -عزيزي القارئ- تناقضاً عجيباً! فهل يعقل أن ندعو لحرية الاستهلاك إلى أبعد حد ممكن، دون النظر لمصلحة المنتج وأهمية ديمومة الموارد، إضافةً إلى حرية الانتاج إلى أقصى حدٍ أيضاً، دون الالتفات لمحدودية الموارد ونفادها، والتي تشكلُ مصدر هذا الانتاج، والأمر برمته لأجل جني الثروة فقط، بزيادة الرغبات لدي المستهلكين وتأجيجها، إضافةً لما يتبع ذلك من عملية جباية للضرائب، دون عدالة في جنيها وتوزيعها، ولنتساءل بالقول: ما هي المثالية في طرحه هذا تجاه المشكلة الاقتصادية؟، غير أن سميث ذاته أيضاً هو القائل في موضع آخر “ليس الإنسان سوى حيوان مقايض، ولكنك لا تجد حيواناً يفعل ذلك، لا تجد كلباً يقايض كلباً أخر”، وهو بذلك يعزز من الدونية للإنسان بقرنه بالحيوان، وهذا يتنافى مع مبادئ الحرية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، والتي لطالما تغنى بها النظام الرأسمالي ودوله الديمقراطية اليوم. ولنقتبس أيضاً بعضاً من أقوال جون ميل وعنوان كتابه موضوع حديثنا في هذا المقال، ومنها قوله: “لقد تعلمت البحث عن سعادتي بالحد من رغباتي لا بمحاولة تحقيقها”، ويردف قائلاً في موضع آخر: “الحرية هي أثمن وأقوى حاجات الطبيعة البشرية بعد الضرورات الأولية من غذاء وكساء”، إذاً طالما كانت الحرية المطلقة عنوان النظام الرأسمالي وما يميزه عن غيره فكيف سنكبت رغباتنا، وعملية الكبت بحد ذاتها هي وضع حدود للنفس البشرية، فعلاً هذا موضع تناقض غريب أيضاً، بين ما يدعو هؤلاء إليه وما يفعلون على أرض الواقع؟، وهذا ما يؤكده قوله الآخر أيضاً “إن القوانين توضع للسيئين لا للطيبين من البشر”، فهل القوانين يا جون ميل وضعت فقط كعقاب، أم لخلق حالة نسبية من المثالية والتوازن بين الانسان ورغباته وعلاقته بالآخر، فقوله هذا يتركٌ الباب مفتوحاً للفرد بأن يكون سيئاً، وهذا فعلاً تناقضٌ عجيبٌ يؤكد نظرة الكلب لسميث صديقه في الرأي، ناهيك عن خلق مشاكل اجتماعية طارئة على الاقتصاد، يُحمِّلُ عبئها وتبعيتها للمجتمعات، وهي كثيرة اليوم بل وأكثر تكلفة من البحث في "المشكلة الاقتصادية" ذاتها. ولم تأتِ نظيرتها الشيوعية واشتراكيتها بالشيء الذي يستحق الوقوف عليه، فحصرها للملكية ووسائل الانتاج وحرية استخدامها في يد الجماعة أو الدولة بشكل مطلق، لشيء ينافي غريزة الانسان في حب التملك، ناهيك عن حالة الخمول والكسل التي ستصيبه لا محالة، تجاه ملكته من مقدرات عقلية وضعها الله فيه، وميزه فيها عن غيره، فها هو الفيلسوف الألماني كارل ماركس منظر الشيوعية الأول، وصاحب فكرها الماركسي يحد من قدرة الانسان العقلية، حين يقول: “تاريخ البشرية هو تاريخ البحث عن الطعام”، بأن جعل الانسان كالحيوان فقط يبحث عن الطعام لا غير، وتناسى قيمة الذات وتقديرها وتميزها والبحث عنها، فهل كان نبي الله ابراهيم عليه السلام يبحث عن الطعام في بحثه عن الله! حينما استدل "بالشمس والقمر" على ربه وبالتالي سبب وجود ذاته، كذلك الحاجات الانسانية الأخرى في قوله أيضاً “الشيوعية يمكن اختصارها بجملة واحدة ألا وهي: تحطيم الخصوصية”، حتى في نظرته للعلاقة بين الرجل والمرأة، باعتبارها بروليتارية أي عاملة وعبدة، والرجل برجوازي أي سيد حسب تعبيره، متناسياً خصوصيتها الفسيولوجية والنفسية والبدنية، ليساويها به رغماً، عن الطبيعة البشرية التي جبلت عليها. ولنتساءل بالقول طالما أن هنالك علاقة عكسية وتبادلية بين الموارد الاقتصادية ووفرتها من جهة، والزيادة المستمرة في الحاجات والرغبات من جهة أخرى؟، فما هو الضابط والضامن لتلك العلاقة؟ بحيث نضمن توازنها، واعتدالها، واستدامتها، واستقامتها، الاجابة: باختصار يحددها شيئاً واحداً فقط هو "السلوك البشري" تجاه علاقة الانسان بكل ما يحيطه والذي يتحكم به العقل الواعي، على اعتبار أنه كائن اجتماعي متفاعل بطبعه، فما يميّز الانسان على الحيوان تجاه تعامله مع غرائزه وقدرته على تحكمه بها، هو أنه كيان مادي وروحاني معاً، يشغل حيزاً في الفراغ له وزن ينمو ويتحرك ويفكر، فالتفكير أي "العقل والعقلانية" والتي من المفترض أن يتمتع بها وتتحكم به، وتوجههُ من خلال جهاز الوعي لديه، والمتمثل في جوارحه، والتي تظهر هذا السلوك على شكلِ أقوالٍ وأفعالٍ في الخير والشر، هي ما تميزه فيما ذكرت عن الحيوان وإلا وقع عليه قوله تعالى: “أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا”. وخلاصة القول عندما يكون النظام من صنع رب الناس، فلا مجال للخطأ فيه وللأهواء الشخصية، لأنه وحده المتصرف في شؤونهم الأعلم بحوائجهم والطريق الأقوم والأسلم والأمثل لإشباعها، فالنظام الاقتصادي الاسلامي كان وما زال نظاماً يتصف بالشمول في الجزء والكل، والواقعية في الطرح وتناول القضايا، والتوازن بين حاجات الروح والمادة، وإيجابياً تجاه الفرد والجماعة، فتراه حفظ للإنسان كرامته وكفلها، “ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا”، كما أنه وضع قواعداً للتملك والحيازة، وإحداث الثروة وقرنها بباب المشروعية والشروع في الشيء، فوضع مقياساً ضابطاً وضامناً وهو "الحلال والحرام"، كما سعى لضبط عملية الاستنفاد الاستهلاك ووضعها في باب التصرف، فالإنسان خلق هلوعاً، حيث ذم التبذير والاسراف، وفي ذلك الاستدامة، وأنكر البخل والشح وفي ذلك الحبس، وعدم الاستثمار والانتفاع، كذلك عملية التوزيع للثروة وتفتتها، لكي لا تصبح دولة بين الأغنياء دون الفقراء فيسلبونهم حقوقهم والعكس، فوضع لها الطرق والأدوات المثالية لكسبها وجنيها وتوزيعها، فجعل العمل عبادة، والزكاة ركناً من أركان الاسلام، والصدقة باباً لنيل رضى الخالق، كما وضمن العلاقة بين الجزء وهو الفرد، والكل الشمولي وهو المجتمع، فأرسى أول نظام للضمان الاجتماعي "التكافل" في التاريخ البشري، وكان ذلك في عهد الفاروق عمر، وبذلك أرسى قواعد للكرامة، والعدل الانساني المطلق والذي لا نظير له اليوم. |