|
رواية كرنفال المدينة وهموم القدس
نشر بتاريخ: 31/07/2019 ( آخر تحديث: 31/07/2019 الساعة: 17:44 )
بقلم: محمد موسى عويسات
رواية للكاتبة المقدسيّة أ. نزهة رملاوي، صدرت عن دار الجندي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2019، تقع في 223صفحة من القطع المتوسّط. تعدّ هذه الرواية من الأدب المقدسيّ، الذي يتناول المدينة وهمومها ومصائبها وآمالها وآلامها، ويصوّرها محتلّة في أوضح صورة، ويوثّق جرائم المحتلّ بحقّها وحقّ أهلها، فما أحوجنا لمثل هذا الأدب، الذي ينضوي تحت شعار: اكتبوا عن القدس ولها وفيها. فمن القدس ومن قلب الأحداث، وللقدس مكانا وزمانا دون شريك لها، كانت هذه الرواية مهداة للمدينة المقدّسة. تناولت الكاتبة مبتدئة من أحد مخيمات القدس، ومن خلال شخصيّة الفتى تامر ابن المخيم، ابن أحد مناضلي القدس وشهدائها، أحداثًا جمّة وخطيره، وقعت زمانيّا في العقد الثاني من هذا القرن، وما زالت قائمة يعانيها الناس يوميّا، أولها كيد المحتلّ بهذا المخيّم بنشر المخدرات فيه، وكانت شخصيّة ربحي زوج أمّ تامر ذي التاريخ النضاليّ، تمثّل أنموذجا لمحاولات إسقاط الشباب في هذا المستنقع المخيف. ثم جاءت الكاتبة على الجدار الذي فصل المدينة عن محيطها وضواحيها، وشتّت أهلها، وحال بين الناس وأبنائهم، وأرحامهم، ومقدّساتهم، ومشافيهم، وأعمالهم، وكان من أعظم المصائب التي ابتلي بها الفلسطينيون، وسجّلت الكاتبة حادثة إغلاق المحتل للمعبر وترك الناس في حالة انتظار مذلّة قاسية في أجواء الحرّ القاتلة، وصوّرت بعض الحالات الإنسانيّة التي واجهها الاحتلال بوحشيّة، منها أن يفجأ المخاض امرأة، فيعرقل الجنود وصول عربة الإسعاف، فتضع حملها عند الحاجز، والتقطت عدسة الكاتبة أيضا صور القمع التي أقدم عليها المحتل لتفريق جموع الناس المطالبين بفتح المعبر لدخول المدينة، والذي أسفر عن جرحى وشهداء واختناقات، وغير ذلك. ثمّ من خلال تامر ونجاحه في تجاوز الجدار، أتت الكاتبة على حادثة الصبيّ باسم الذي اختطفته جماعة يهوديّة وأشربوه مادة حارقة ثمّ حرّقوه، وفي أثناء رحلة تامر إلى قلب المدينة ومروره بحيّ استيطانيّ في غربها عرّجت الكاتبة على الموازنة بين حال الأحياء اليهوديّة والخدمات التي تحظى بها، وبين حال الأحياء العربيّة في المدينة التي تحرم من تلك الخدمات. وتصوّر الكاتبة الاعتداءات المتكرّرة للمستوطنين على العمال العرب في حيّ المصرارة، وتأتي أيضا على ذكر الفلاحات بائعات الخضار على الأرصفة وإجراءات بلدية الاحتلال بحقّهنّ، وصوّرت حادثة اغتيال الجنود لأحد الفتية وتلفيق تهمة محاولته الطعن بإلقائهم سكينا بجوار جثّته، تلك السياسة التي كلّفت الشعب الفلسطيني عشرات الشهداء، وصوّرت الكاتبة قمع المحتلّ وإحباطة لاحتفال برأس السّنة الهجريّة في شارع صلاح الدين، وفي ثنايا القصّة أشارت الكاتبة إلى المعاناة الاقتصاديّة التي يكتوي بها أصحاب المحالّ التجاريّة في المدينة بسبب الاحتلال وإجراءاته، ثمّ تأتي على ذكر احتفال آخر لليهود يقام في الحائط الغربيّ في باب المغاربة، يتمتّع فيه المحتفلون بالحراسة والأمن، ثمّ تأتي على توثيق حادثة البوابات الإلكترونيّة التي حاول المحتلّ أن ينصبها على بوابات المسجد الأقصى فقاومه أهل القدس ونجحوا في إفشالها، فقد غصّت شوارع القدس وأزقّتها بالمصلين والمرابطين لما يقرب من أسبوعين، ووثّقت الكاتبة قضيّة خطيرة هي تسريب البيوت من بعض الخونة للمستوطنين، الذين يتسلّطون على مجاوري تلك البيوت، ومثّلتها حادثة قتل الصبيّ فؤاد. وفي الثنايا تعرّضت الكاتبة لقضيّة الاعتداء على المقابر، وقضية احتجاز جثث الشهداء في البرّادت لسنوات، وصوّرت حالة الخوف التي يعيشها المحتلّ من اختفاء أيّ فتى أو فقدانه، إذ يعدّونه إرهابيّا يريد تنفيذ عمليّة ضدّهم، وسياسة احتجاز أهل المطلوب حتى يحضر هذا المطلوب. وغيرها الكثير من التفاصيل. ووثّقت الكاتبة من خلال هذه الأحداث أسماء الكثير من الشوارع والأحياء والأسواق والمساجد والمعالم العمرانيّة القائمة، أو التي هدمها المحتل من مثل حيّ الشرف والمغاربة وسوق الشّاي وسوق البطيخ، حاولت الكاتبة أن تربط بين المخيم وهذين الحيين الشرف والمغاربة، فسكان المخيم هم من هجّروا قسرا من هذين الحيّين. فكان حضور المكان في الرواية واضحا ومؤثّرا ومقصودا بتفاصيله وبعثت فيه الحياة من خلال الأحداث، أو الذاكرة والذكريات، " ناداهم سوق العطّارين، تغلغل عبقه في أعماق تامر فشمّ رائحة جدّه بائع البهارات الذي رحل منذ سنين، حطّت أقدامهم في سوق اللحامين، وتنقّلت ما بين سوق الخواجات والقطّانين، استدرجهم سوق الحصر، وأفضى بهم إلى سوق البازار والباشورة... عصفت الأمكنة بخيالات الزائرين". امتازت شخصيات القصّة بالبساطة والعفويّة، وكلّها تحمل العفويّة الشعبيّة والألم، وصراعها الوحيد البارز الممتدّ والذي ظلّ محتدما هو مع المحتلّ. وهكذا، بالأحداث والمكان والشخصيات، استطاعت الكاتبة أن تغوص بروايتها في بحر من الواقعيّة الثوثيقيّة الفنّيّة اللافتة. فبدت في غاية الحرص على نقل حقيقة الحياة في القدس في ظلّ هذا الاحتلال الجاثم على صدرها، بل ربّما جاء حرصها على حساب بعض الجوانب الفنّيّة، إذ كانت الأحداث متدافعة، آخذا بعضها بأعناق بعض، فغلبت عليها التقريرية. العنوان: وَسَمَت الكاتبة روايتها بـ (كرنفال المدينة)، وكلمة (كرنفال) إيطاليّة بمعنى الابتعاد عن اللحوم، وتطلق على احتفال دينيّ يسبق الصيام الكبير عند بعض الطوائف المسيحيّة، أو هي يونانيّة اسم للعربة التي كانت تحمل الصّنم أبولو وتطوف به بين الناس، ثمّ شاعت التسمية لتكون بمعنى احتفال واستعراض شعبيّ، يجمع بين السيرك والاحتفالات الشعبيّة التي تجوب الشوارع، وعادًة ما تكون هذه الاستعراضات في موسم الكرنفال. وتمنّيت لو استخدمت كلمة (مهرجان) مع أنّها أيضا ليست عربيّة بل هي فارسيّة أو هنديّة، أو غيرها من الكلمات العربيّة. على أيّة حال اتّخذت الكلمة في الرواية بعدا شعبيّا وتراجيديّا ولها دلالة دينيّة. وأظنّ أنّ الكاتبة قد وفّقت في اختيار العنوان من جهتين: الأولى الواقعيّة، إذا سرى العنوان في عروق روايتها من البداية إلى النهاية، فهناك احتفالات ممتدّة عبر القصّة: إذ تحوّل منع الاحتلال الناس من دخول المدينة وإغلاقه للحاجز إلى احتفال انتهى بقمع وغاز وجرحى، ثمّ كان هناك احتفال برأس السنة الهجريّة وكشافة وطبول وهتاف وحشود في داخل المدينة في شارع صلاح الدين انتهى بالقمع والتفريق، وفي مقابل ذلك كان هناك احتفال دينيّ لدى اليهود في السّاحة الغربيّة من حائط البراق وكان محروسا محفودا آمنا مطمئنا، وكان الاحتفال الأعظم هو تجمّع الناس غير المنتهي في كلّ أنحاء المدينة لأداء الصلوات في الشوارع احتجاجا على وضع المحتلّ البوابات الإلكترونيّة لدى أبواب المسجد الأقصى، فهذا احتفال أيضا؛ لكون الاحتفال في اللغة هو الحشد الكبير من الناس بغض النظر عن القصد. وتنهي القصّة باحتفال لعودة تامر سالما من المدينة، ولعقد قرانه على زينة والذي أوحت الكاتبة بأنّه لم يتمّ، فهذه كلّها أحداث حقيقيّة تكاد تكون يوميّة . الجهة الثانية من نجاح العنوان أنّ المعاناة التي يصحبها الإصرار والتحدّي، يمكن أن يصنع منها الفرح والبهجة المؤقّتة، ففي الاحتفال تحدّ ومقاومة، وفي الوقت نفسه تؤول الأفراح إلى أحزان وآلام، فالمدينة في واقع الأمر حزينة ولا مكان للأفراح، تقول الكاتبة: " ساعات الإغلاق لا زالت قائمة هناك، الموت يدبّ بينهم، فناء جماعيّ للأفراح، في طقوس غريبة تباد" ... وتختم: " ثمّة مواسم لأعياد آتية، لا تليق أفراحها بعيدا عن المدينة". فالأفراح في نظر الكاتبة هي أفراح المدينة يوم خلاصها من هذا المحتلّ. ولا يفوتنا هنا الدلالة الدينيّة لكلمة (كرنفال) التي تتناسب ومقام المدينة الديني. اللغة: استخدمت الكاتبة لغة فصيحة بسيطة، تخلّلتها بعض العبارات العامّيّة في الحوارات، وكان الجانب التصويريّ الفنيّ فيها واضحا وبخاصّة في المواطن التوصيفيّة، كقولها:" كتبت عشقها على الستائر، سلام على من رقّ له قلبي وآثر المغيب، فتحتُ كتاب شوقي، فوجدتك بين دفّتيه قمرا يضيء بطلعته الكلمات، يسابقني بدفء عطفه، ويسكب في قلبي سكونا بهيّا". ورغم هذا يغلب على لغتها الأسلوب التقريريّ، الذي كثيرا ما كانت تقوم بها الكاتبة نفسها. يلاحظ في هذه اللغة، بغض النظر عن بعض الأخطاء النحويّة والإملائية، وجود أخطاء تركيبيّة تشترك فيها الكاتبة مع كثيرين، مثل: (مريضة زهايمر)، كأنّها ترجمة من لغة أخرى، فالأصل مصابة بالخرف. حذف حرف الجرّ في فعل لا يتعدّى إلا به، مثال: (وانتهى به المطاف جانب وهيب) الأصل: إلى جانب وهيب،. (أوغل نظره لأعماق النافذة) الأصل في أعماق النافذة. (لتضيء في وجهه اسوداد الحياة) الأصل: لتمحو من وجهه اسوداد الحياة أو تبدّده. (ينظر وجوه الجنود) الأصل: في وجوه الجنود. (يعرفون بعضهم البعض) الأصل يعرف بعضهم بعضا. فلا تكون واو الجماعة ولا تعرّف بعض بأل. (واستند جذع شجرة) الأصل: استند على أو إلى جذع... (استبدلت ثيابه الأنيقة بكيس أسود) والصواب أن تدخل الباء على المتروك: استبدل بثيابه الأنيقة كيسا أسود. (تنفّس الصعداء) لا تعني أنّه استراح وأخذ نفسا عميقا بعد إرهاق، بل العكس، معناها أنّه يتنفّس بصعوبة وفي ضيق. ويلاحظ وجود لازمات لفظيّة متكرّرة في الرواية بشكل غير مقصود من مثل: استند جذع، يستند حائط السّور، تستند الحائط وغيرها كثير... ومنها عبارة في دواخله، وعبارة بصق في وجه أو أرسل بصاقا... تخلو لغة الكاتبة من الإيحائية، التي تترك للقارئ التفكّر والاحتماليّة، فكانت لغة تقريرية مباشرة. ما يؤخذ على أحداث القصّة: تقصّدت الكاتبة أن تجمع أكبر عدد من الأحداث التي تبرز همجيّة الاحتلال ومعاناة الناس في المدينة، وذلك من خلال رحلة التسلّل التي قام بها تامر إلى المدينة، وهذه لم تتسلسل في الوقت بشكل منطقيّ ومناسب، فمن هروبه من بيت أبي باسم إلى لجوئه لبيت أبي فؤاد بعد أن جلبه فؤاد من المسجد، وقعت أحداث كثيرة جدا في وقت قصير هو بعض ليلة ويوم وجزء من ليلة أخرى، فهذا تكثيف للأحداث لا يتناسب مع الوقت، ربّما كان لا بدّ من سعة زمنيّة تتفرّق فيها الأحداث. هناك أحداث تبدو غير مناسبة منطقيّا، أو تتناقض مع الحالة النفسيّة لبعض الشخصيات، من مثل مرور تامر بحديقة المستوطنة وهو في حالة من الخوف، ويرى بأمّ عينه الدوريّات تجوب المكان، ولكنّه يتمدّد على العشب ويتقلّب، " ضحك ثمّ كتم الضحكة، خاف أن تفضحه؛ فيأتيه الجنود، أخذ ينتقل من لعبة إلى أخرى، جلس على أرجوحة طار بجسده بالهواء ... أحسّ أنّه ملك الدنيا" . والحقّ أنّ كلّ هذه الملاحظات لا تبخس الكاتبة جهدها وعملها الجليل هذا. فقد وضعت بين يديّ القارئ رواية توثيقيّة مقدسيّة بامتياز. |