|
ليتني كنت اعمى لوليد الشرفا
نشر بتاريخ: 31/07/2019 ( آخر تحديث: 31/07/2019 الساعة: 22:30 )
ليتني كنت اعمى لوليد الشرفا حقيبة ذاكرة ما نتمنى رؤيته وما لانتمنى رؤيته
المثنى الشيخ عطية كما لو أنّهما صندوق باندورا الذي يحتجز شرورَ البشر، تنفتح حقيبةُ صورِ مصوّرٍ صحفيّ فلسطيني عائدٍ إلى نابلس، مع ذاكرةِ مثقّف فلسطيني من مخيّم جنين، في رواية الفلسطيني وليد الشُّرَفا الجديدة ” ليتني كنتُ أعمى”؛ لا لكي تُطلِقا تحت الشمس شرورَ مجازر المحتل، التي تتجاوز سرقة الأرض إلى ذبح المقاومين من أهلها، وشرورَ فسادِ مَن عقدوا اتفاقيات السلام معه في مدريد، وشرورَ النفس عندما تُخادع نفسها فحسب، وإنّما أيضاً لتُطْلِقا مخاوفَ وتعاطفَ ومآثرَ البشر في مواجهة المصير الذي يبلغ ذرى قسوتِه بمعرفة حتميّة الموت. “أخذتهما إلى زاوية الزقاق، سلّما عليّ، رتّبا الحزامين؛ أشرفُ على وسطه العلوي تحت إبطيه، وعبد الحليم في حقيبةٍ بين ملابسه وبعض السكاكر والحلوى، عندما رأى محمود الحذاء الرياضي الجديد الذي اشتراه عبد الحليم، قال له: أعطني البوت الجديد وخذ هذا القديم، مش فارقة معك فوق بالجنة، وأنا خاطب جديد. ضحك عبد الحليم وخلع حذاءه، ارتداه محمود، احدودب نحو الأسفل، ظل مطأطئاً رأسه أكثر من الوقت اللازم لربط الحذاء، انتظرناه أن يرفع رأسه، لم يفعل، نظرتُ إلى الرماد والرمل تحت قدميه، كانت دموعه تتقاطر، وكان هسيس شهقته التي أعرفها. أبعدت أشرف وعبد الحليم عنه، قلت لهما: انتظرا معنا، قالا: كلها موتة، خلينا نخفف الضغط. ولأن ّالإطلاق يرتبط بغاية محورية في العادة، لغاياتٍ ظاهرة وباطنة، تكشف عنها العناصر الفنية التي يستخدمها أو يبتكرها الروائي، في البنية الظاهرة والعميقة والمنظومة السّردية التي تتخللها بخاصة؛ يستمرّ الشُّرَفا في هذه الرواية، كما في روايتيه السابقتين لها: “العائد من القيامة”، و “وارث الشواهد”، في محاولة حقن الذاكرة بما يجدّد حياتها، كي لا تفنى حياة البشر بسكاكين جزاّري كشط الذاكرة. وهو يفعل هذا سواء بلملمة شظايا الذاكرة التي تبعثرت بين المنفى والوطن الضائع برياح الاحتلال، أو بطهرانية نزع روح المكان من دنس مراحيض الاحتلال، أو بتظهير صور ما مرّ تحت طواحين رمال زمن الاحتلال، ودائماً بتوريط القارئ في شراكة كتابة الرواية عبر فتح قنوات التواصل الجمالي البالغة التأثير في المشاركة. في هذه الرواية، وتحت مبدأ فواق الواقع على الخيال، في محاولة إحياء الذاكرة وتوليد التأثير بالاعتماد على شهادات أبطال الواقع، يَخلق الشُّرَفا سيناريو متخيّلاً، لا يبتعد عما يحدث في الواقع إن لم يكن قاصراً عنه، وفقاً لتجارب البشر مع غرابات الواقع. وفي هذا السيناريو الذي يجري على غير الطريقة الكلاسيكية في السّرد، يجمع الشُّرَفا طرَفيْ روايته الحامليْن لها، معاً، في لحظة مأساوية هي جَزْر الإسرائيليين للمقاومين الفلسطينيين في نابلس وجنين خلال انتفاضتهم عام 2002، وفي مكانٍ أول هو سيارة الإسعاف التي يقودها سائق متذمّر وتنقل الشخصيةَ الأولى ياسر الزرعيني، المثقف الذي لم يسافر لإكمال الدكتوراه في الأدب الإنكليزي، والمشارك بالمعركة في جنين، مصاباً بساقيه في انفجار. الشخصية الثانية هو علي الطوق، المصور الصحفي الفدائي العائد إلى فلسطين بعد اتفاقات أوسلو، والذي أصيب في عينيه إثر محاولته تصوير ما يحدث في نابلس. كلاهما معاً في مجرى حركة الرواية. هذا الجمع الجمالي يقود الرواية بنجاح، بين كسيح يوجّه، وأعمى يجرّ على كرسي متحرك، داخل أروقة المستشفى الذي تتكدس فيه الجثث، وفي الشارع الذي يسخرُ فيه المارة من أحمقين يسيران عكس السير. وفي ستوديو تظهير الصور يجري رافدا الرواية ويتوحدان نهراً يتدفق عكس السير أيضاً إلى منبعه، ببنية ظاهرة تتسلسل بواحدٍ وعشرين فصلاً تحت عناوين تُبرز سردَ الروائي، عن سردِ حاملَيْ روايته، مثل: عندما رأى المصور صورته الأولى ـــ علي الطوق يستبدل الفيلم الأخير ـــ ياسر الزرعيني لا يرى عظامه ـــ علي الطوق يرى ولا يرى عظام ياسر الزرعيني. ويفتتحُ الفصولَ في هذه البنية سردُ الكسيح عن الأعمى الذي يتولّى سردَ عشرة فصول يستخرجها من حقيبة صوره، التي تضم الصور التي تمنّى أن لا يلتقطها لفرط مأساويتها، والصورَ التي تمنّى التقاطها وتولّت ذاكرتُه التقاطَها ذهنياً عنه. هي أيضاً تروي أحداثَ دخول الإسرائيليين إلى بيروت لطرد المقاومة منها عام 1982، ومعركة بيروت في مقاومتهم، ومجزرة صبرا وشاتيلا، التي ذُبحت فيها زوجته، بعد خروجهم، واتفاقيات أوسلو ومؤتمر السلام في مدريد، وعودته إلى الضفة الغربية التي يعيش فيها ضياعَ الذات، ومآزق فساد السلطة الفلسطينية، وآثار السلام الزائف أو وهم السلام، على الذين يشهدون ضياعَ الثورة، وموت حلم العودة أمام أعينهم على يد الذين أصبحوا يبرّرون مشاريع فسادهم بـ: “لكل زمان دولة ورجال، حاربنا ومن حقّنا الاسترخاء. نحن أوْلى”. ويصوّر الشُّرَفا، داخل البنية العميقة للرواية، ضياعَ الذات في التحولات الجارية بعد وهم العودة، بحساسيةٍ سيكولوجية متقَنة، تتمحور حول إدمان أفلام البورنو، دون الوقوع في فخاخ الشرح، وبتشويق روائيّ يتمثل في هديّة يتلقاها المصوّر من إسرائيلي خلال مؤتمر السلام في مدريد، ويبقيها في حقيبة الصور متجنباً فتحها، تماماً كما تجنّب معظمُ العائدين مناقشة السلام بينهم وبين أنفسهم. وغرقَ الكثيرون منهم في مشاريع الثراء والمحسوبيات والفساد. وتبدي الهديّة دلالاتها الظاهرة في تمثّلها بفيلم بورنو عن الممثلة الإباحية نيكول روسل، واعتزالها، مع تكشّف دلالاتها العميقة في التماثل مع وهْم السلام، بمشاعرِ الإحباط والإحساس بالقذارة، وعدم الإشباع، مع رفع مماهاتها بترهّل السلام إلى عيش كوابيس ترهّل الممثلة وتشوّه صورتها. في إكماله للبنية الظاهرة، يوالي الشُّرَفا إيراد عشرةِ فصول، بسردِ الحامل الثاني ياسر الزرعيني، عن إدخال الأعمى معه في سيارة الإسعاف، واستياء سائق السيارة من يوم النّحس هذا الذي يبدأ فيه يومه الأول كسائق، بعد طلبه تغيير وضعه. إضافة إلى سردِ مجازر الإسرائيليين في تقويض مخيّم جنين، وبطولات المقاومة، والتعاطف الإنساني الغامر بين الأهالي والمقاومين، وبين المقاومين خلال معركتهم ومواجهتهم لقسوة المصير. ويرفع الشرفا في البنية العميقة لهذه الفصول، ومن خلال معالجة شخصية سائق سيارة الإسعاف بشكل خاص، سويّة الحدث إلى التأثير العميق في القارئ، الذي سوف يغريه هول المأساة بالتزام الحياد، واغتنام السلامة. وفي رسالة السائق المتذمّر إلى المصابيْن اللذيْن نقلهما، في فصل ختام الرواية الناجح والمؤثّر، تتجلّى قوة التشابك الروائي، وقوة التأثير في توليد مشاعر الاستياء والغضب من الذين خذلوا الثورة، ومشاعر الأسى والتعاطف مع الضحايا، ومشاعر الإعجاب والرضى عن ختام التشابك المقلق في الرواية: “الأخ ياسر المحترم والأخ علي الكبير، بداية، أنا آسف على الطريقة التي لا قيتكم بها، لكن والله كان من القهر عليكم، يا إخوان أنا من قرية جبل العالي، ما كملت تعليمي، انسجنت آخر الانتفاضة الأولى، كنت طالب بجامعة بير زيت انحكمت سبع سنين، ما قدرت أكمل تعليم، الإخوان وفروا لي شغل سائق لأحد “الألوية”، بتعرفوا احنا ما كنا نعرف الرتب، كنا نقول: مناضل وجاسوس، قبل هلوقت اللي زي الزفت. اشتغلت معه تقريباً سنتين، كل يوم أروح مقهور، سيارة مرسيدس ومرافقين، مشوار على الغدا، ومشوار على الجيم، روح جيب البنت من النادي، روح ابعث المدام للصالون… في المساء، عندما أعود للبلد وأرى الحواجز وقهر الناس والشهداء والجوع، كنت أحس حالي بعالمين ما بشبهوا بعض، قهر في النهار من غنى اللواء، وقهر في الليل من فقر الناس، لا يمكن تكون هيك الثورات، بير دم وبير ذهب”…. في هذا السيناريو المتماسك والبنية العميقة الغامرة بالتعاطف، والموضوع الذي يسهل فيه الوقوع بفخاخ المباشرة والسقوط الفني، لم ينسَ الشُّرَفا إغناء روايته بالتحليل النفسي العميق، ومشابكة النص بما لا يكون بقعاً غريبة أو لطخات نافرة من الثقافة في جسده. وكل هذا بما يجعلُه ممتعاً أكثر لمن مرّ عليه غريب ألبير كامو، وعجوزُ أرنست هيمنغواي، وحديقةُ مباهج هيرونيموس بوش، مع عوالم أساطير بروميثيوس، ميدوزا، وأغاني فيروز وعبد الحليم حافظ، وأغاني المقاومة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، إضافة إلى المتنبي، والكثير الذي يُداخل عالمَ الرواية وعالمَ القراءة، بما يثري معرفة القارئ. عن القدس العربي وليد الشّرَفا: “ليتني كنت أعمى” الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان 2019 |