|
لو عادت أمي إلى الحياة
نشر بتاريخ: 03/08/2019 ( آخر تحديث: 03/08/2019 الساعة: 14:26 )
بقلم الأستاذة سناء زكارنة
في قديم الزمان قرأنا قصصا عن الرابط الأزلي وشعور الموصول نحو الألم في ذات الإنسان، واتصاله بالعقل الباطني والروح المخفية كتبت قصصا وبالفعل بيني وبين ذاتي كنت احسبها بعض من صور الخيال الأبدية، وعبارات خطّت لتجعل للرواية بريقها ولمعان تضاف إلى حروفها، كنت أحسب أن الكاتب يُبحر في محض الأحلام ويرحل على بساط علاء الدين ويحمل فانوسه معه أينما رحل وارتحل. كنت أحسب وأحسب ولكن تبدّلت تلك النظرة حينما حل شقيق روحي في ذاك الألم وتلك المحنة التي ازداد معها ذلك الرابط الذي سكن روحي حينما كان نطفة في أحشائي وكبر بين ريعان فؤادي وصار جنينا والرابط امتد وترسخ في ثنايا العقل، وامتد إلى أن أصبح غلافا يحيط جسدي ويلامس العصب أينما كان. في ذاك اليوم التي كانت محاكمة ولدي بتهمة جديدة وهو مازال أسيرا وإخضاعه للتحقيق مرة أخرى لطفل لم يتجاوز الثامنة عشر، دخلت روحي في قفص وأغلقت نوافذه فلا بات شمس بنهاري ولا بالمنام ليلي وبات الألم يلف جسدي وحمى باتت تسيطر على إنحائه. وبعد شهر من تلك المعاناة وحضور الجلسة الواحدة والثلاثون حينما حضر فلذة كبدي إلى محكمة القانون لا يسودها ولا الأمل، رأيت أنني كنت أمام خيال وطيف فقد النصف من وزنه ،وعينان أصبحتا في تجويف آخر ووقفة مائلة. بدأت الرجفة في يدي وأجبرت نفسي على الابتسام محاولة أن أُخرج كلمات من داخلي لعلها تشحن من همته، وفي تلك اللحظات كان امامي وحينما انتبه ذاك السجان إلى أنني أشاهده غيّر من وقفته لكي لا يظهر امامي، ويزيد من حرارة الفقدان اكثر فما سمعت الا صرخته محاولا أن يعرف نتيجة أخته في الثانوية العامة التي كانت قد ظهرت قبل ذلك باسبوع وعلم الجميع بها وهو الغائب، فأخبرته بها وهنا ازداد الالم اكثر بداخلي وانتهى الموقف وغادر المكان، ولكن روحي بقيت هناك ولم ادر ما حل بي هل هي غيبوبة العشق التائه ام روح أُمٍ أذابها الحرمان حد الموت، فقدت كل أحاسيسي وغادرت روحي الوعي أكثر واستيقظت بعد ساعتين والأجهزة الطبية من حولي وأيقنت أنني ما زلت على قيد الحياة لعلي احمل بعض من الالم واستزيد منه أكثر واكثر. تم تأجيل محاكمته الى اسبوع آخر وتمديد فترة الاحتجاز والتحقيق وهنا توقف الوقت وتجمدت عقارب الساعة فلا زمن يمر ولا الم ينتهي، وخفقان القلب يزداد حدته. وحل اليوم الموعود وبدأنا بساعات الانتظار أمام المحكمة وشمس ذاك النهار تسطع في رأسي وكأنه عبارة عن موقد ناري يزداد مونته كل لحظه وأتى موعد اللقاء فبادرنا هو بالابتسامه وفقدان الوزن أكثر، وكانت ابتسامته فيها من التحدي والفرح حينما أبلغنا أن فترة التحقيق انتهت، وبادرني بالسؤال عني وعن حالي وهنا اخبرني انهم في فترة التحقيق اعلموه انني قيد الاعتقال وانني جارته بالزنزانه المقابلة ليمضي ليله بالنداء علي وبُح ذاك الصوت وغاب عن الوعي في تلك الليلة، هنا علمت أن فترة التحقيق كانت هي الالم ذاته، ولكنه ابتسم وقال بذات الصوت المبحوح انني مغادر الى النقب لالتقي باصحابي هناك. لكنني بالرغم من ابتسامته الا أنني اجتاحني الالم اكثر وازدادت الحمى علي وكنت كمن أُدلي في بئر لا هو وصل إلى قعره ولا هو نجى وارتفع الى سطحه. غادرت وغادر ولكن روحي لم تغادر الالم والوجع الذي حل بي. وما أن وصلت إلى البيت لأبدأ خوفا من نوع آخر وخوف من مجهول قادم وقيدت يداي ولم تستطيعا حتى لارتشاف بعض من الماء، فما هي إلا ساعة حينما تابعت الأخبار لأجد خبر الحادث اعتلى صفحات الأخبار وهنا ترجمت ذاك الخوف أن ولدي هناك حيث المكان الذي بات يتوشح بالدماء ليفاجئني اتصال أن ابنك مصاب وهو قيد الاعتقال... هنا خرجت عن طور التفكير والعقلانية الى طور الطفولة واليتم والألم المجبول بشريط الذكريات وصدح صوتي ليصل اعماق البحار وبت في حقبة أخرى لا هي موت ولا هي الحياة. في لحظة تشعر بشق الفؤاد وجرح بذات الكبد دون دماء .. حينما تستذكره جنينا وطفلا عاشقا وتتيقن أن صلة ما زالت بالرغم من قطع حبله السري وانفصاله عني تجد أن بعضا منه يحتويك، وان جُلّه معك وطاقة مخفية تشعر ما يعتريه ويؤلمك كثيرا ما يمر به من بعض الألم. هنا أتمنى لو ترجع أمي للحياة واحصل على حذائها لاستخرج بعض من عرقه وأصنع منه اصنص عطر ليحل على جسدي ويرافقني إلى قبري عند الممات. تمنيت لو أن أمي تعود وأُقبّل حذاءها صباح مساء. تمنيت لو عادت أمي إلى الحياة. |