|
ثيمة المقاومة في قصيدة (ونحن سواء)
نشر بتاريخ: 04/11/2019 ( آخر تحديث: 04/11/2019 الساعة: 18:54 )
بقلم: د. نڤين عزيز طينه
*** تجيشُ قصيدةُ (ونحنُ سواء) للمتوكل طه بدلالات رمزية تعبّرُ عن مشاعر العصيان والمقاومة تجاه الاحتلال الصهيوني الغاشم؛ حيث وجَّه الشاعرُ قصيدته على هيئة رسالة دعم وتأييد من سجن (أنصار- 3) إلى المناضِلات في معتقل (نفي ترتسيا) النسائي، بهدف إحياء الأمل في أرواحهنَّ وبعث الصبر في نفوسهنَّ، والتأكيد على رفعة وسمو ما يقمْنَ به من ممارسات المقاومة والصمود والتحدي. وفي هذا المقال، سنلقي الضوء على الإشارات السيميائية التي تحملُ تيمة المقاومة، ثم نبيِّن معانيها ومدلولاتها للتعرف إلى جانب من جوانب الشعرية الثورية في الأدب الفلسطيني الحديث. يبدأ الشاعرُ قصيدتَه بالترجي (لعلَّ)، وهو ترقُّب حصول شيء مع بذل الجهد في تحقيقه؛ واستهلال الشاعر برغبته في بذل الجهد يحيلنا إلى أولى بصمات المقاومة في النص الذي بين أيدينا؛ حيث يرجو الشاعر الأسير من الله أن تكون الأسيرات الفلسطينيات بخير، مؤكدا أن الأسرى والأسيرات سواء في المعاناة والتضحيات: (يا أختَ روحي). كما وصَفَ هؤلاء الأسيرات بحبهنَّ للحياة والعيش بحرية، ولم يتباكَ على حالهنَّ المؤسف في سجون الاحتلال: (لعل جميعَ اللواتي عشقنَ الحياةَ بخير، لعلَّ الجميعَ بخير)، وهاته إشارة مقاومة أخرى. يُتابعُ الشاعرُ رسالتَه/ قصيدته بالأمل والتفاؤل؛ فهو يكتبُ بالعطر والشذى من قلبه الذي شبّهه بحديقة نرجس تضوع حبًّا وأملا: (أكتبُ من نرجس القلب). ثم يتساءل قلِقًا عن حال الأسيرات مشبّها الأسيرة بالمهرة، في إشارة إلى عنفوانها وشبابها ووفائها وأصالتها: (وأسألُ عن مُهرةٍ قيّدوها)؛ فهوَ يصرُّ على أن تمتلئ سطور رسالته/ قصيدته بنفحات المقاومة على الرغم مما يعتري قلبه من شجون وأسى على حال الأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال. يُظهِرُ الشاعرُ بعضَ ملامح الألم والمعاناة التي يجابهها الأسرى والأسيرات، مُشبّها عيني الأسيرة بالغيوم التي تهطل بالدموع الغزيرة في المساء، فتحجب عنها رؤية الحرية كما تحجب الغيوم رؤية الشمس: (وعن غيم عينيك أسأل، عن دمعة في المساء)؛ ولأن الشاعر يكتب بمداد الأمل والصمود، فهو يرسم صورة تلك الأسيرة المكلومة وهي تمسحُ حزنها ودمعوعها، وتغني للفجر والفرج على الرغم من جراحات الأسر ولهيب القيد وعصافير الحزن: (وأسأل كيف السجين يغنّي؟). يعبِّر الشاعرُ عن الإرادة القوية التي يتمتع بها الأسرى في سجونهم، ويجسّد كيفية مواجهتهم لظلم الاحتلال وقهره دون أن تنحني جباههم أمام غطرسته وعنجهيته؛ فهم يتصدون لممارسات الاحتلال القمعية بالأغاني والألحان والأناشيد والرقصات الشعبية الفلسطينية، وهاته إشارة سيميائية يؤكد الشاعر من خلالها على تمسك الفلسطيني بتراثه الذي يحاول الاحتلال طمسه عبر التاريخ؛ ذلك الاحتلال الذي يشبهه الشاعر بوحش الصحراء الذي يكتم على أنفاس أصحاب الأرض ويغتصب حقوقهم بلا شفقة: (فنحن (نواجه رملَ المعسكرِ بالأوفِ، نكسرُ وحشَ الصحارى بُعرس انتفاضتنا، لا نكفّ عن الدَبكاتِ، ونغمرُ هذا المدى بالغناءْ). تستمر معاني التحدي التي يعبر الشاعر من خلالها عن إباء الشعب الفلسطيني، ويرسم بها لوحته النابضة بالأمل والمقاومة والثبات؛ فعلى الرغم من الأساليب القمعية جميعها التي يبتدعها الاحتلال في تعذيب الأسرى، فإن الشاعر يرى في المرأة الفلسطينية الأسيرة ابتسامة جميلة تورق عشبا أخضر وعطاء وماءً: (أحبُّ أراك ابتسامًا، ليورق "أنصارُ" عُشباً وماءْ). وهذا يشير إلى استمرار الحياة والفرح، وعدم استسلام الأسرى الفلسطينيين لغياهب القيد والسجن والعذاب. يعود المتوكل طه مجدَّدا إلى إبراز شدة الألم الذي يكابده الأسرى في السجون، لكنه لا يكشف عن جراح الأسر إلا ليؤكد صمود الفلسطينيين وصبرهم في وجه الاحتلال الغاصب، ويظهَرُ ذلك من خلال صور فنية ذات أبعاد رمزية يعرضُ فيها الشاعر جانبَ الألم والقهر من جهة، وتعامل الفلسطيني مع ذاك الحزن من جهة أخرى، لتبرز صورة الأسير/ة الصامد/ة الصابر/ة المتحدي/ة. فعلى سبيل الألم، يكشف الشاعرُ الستارَ عن وجه السجن البشع، ويبوح بما يعانيه الأسرى والأسيرات من تجويع وترهيب وتعذيب يندى له جبين الإنسانية؛ حيث تحوّلت السجون إلى ساحات للقمع والاعتداءات والقتل البطيء، ومجمّعات للإهانة والإذلال والتعذيب الممنهج وزرع الأمراض: (يا أختَ روحي، أأسأل جوعَكِ كيف يُشقِقُ فيك الجبال، وكيف البلابلُ في شفتيكِ تنادي البحار، وكيف الزنازينُ تصحو على الصرخات، ونحن سواء؟). وفي صورة أخرى، يشبه الشاعرُ السجنَ بغاز يتسلل إلى قلبه فيكاد يفجّره: (أأسأل، والسجنُ غازٌ يفجّر قلبَ الهواء؟)، ثم يصف قساوة القيود التي تمتد من سجن النقب الصحراوي حتى تصل لأكف الأسيرات في سجونهن المظلمة، وهنا يسلط الشاعر الضوء على الانتهاكات الإنسانية بحق الأسرى والأسيرات الفلسطينيين، والمعاملة البشعة التي يتعرضون لها في السجون، إلا أن ذلك القيد يشكّل حلقة وصل بينهم لا تنفصل أبدا، تزيدهم جَلَدًا وعزيمة وقوة: (أأسأل، والقيدُ يبدأ من رسغِ كفيَّ، في "كتسيعوت"، ويمتدّ حتى يعانقَ كفيكِ في عتمات سجونِ النساءْ؟). وعلى سبيل الأمل، يُجسّدُ الشاعرُ اختلاف السجن في نظر الفلسطيني المقاوِم عن غيره من الأسرى في بقاع العالم المختلفة؛ فهو يستقبل الموت بعزة وشرف، ويقف على بساط الإعدام ومقصلة الظلم بشموخ وأنفة، ولا يخشى الموت فداء الحق والوطن والكرامة، بل إنه يتلقى مصيرَه بزغاريد الانتماء الوطني: (ونحن بدون العوالم، ندفنُ مَنْ مات منّا، نشيّع مَنْ راح للسجنِ، أو للوقوف شموخا على النطعِ، أو مَنْ تدلى بأنشوطة الرعبِ بزغرودة الانتماءْ). وفي صورة أخرى، يفصح الشاعر عن كون السجن قبرا في العصور كلها، بينما هو روضة في أعين الفلسطينيين؛ وفي هذا إشارة سيميائية تدل على صبر الفلسطيني على الصعاب والمظالم، وعدم استسلامه للذل والهوان، ولا انصياعه لقوى البطش والعدوان: (والسجنُ قبرٌ بكلِ العصورِ، وفي عصرنا روضةٌ للصغار الذين أتوا في زوايا الإناء). وفي صورة ثالثة، يؤكد الشاعر على تفرّد الشعب الفلسطيني وتميزه عن غيره؛ فهو شعب لا يغلبه الموت، ولا تهلكه الصراعات والحروب، شعب لا يعرف الاستسلام أو الخنوع، يطلق أطفالَه لنداء الأرض متحديا غطرسة السجّان وجبروته، وكأنما يقول للمحتل إنا ها هنا مرابطون صامدون لا نخشى الموت أو التعرض للأسر أو الإصابة في ساحات النضال والمقاومة، فموتُنا شهادة وأسْرنا انتصارٌ وجراحُنا ثمنٌ بخسٌ أمام وطننا الذي لا غنى عنه أو بديل: (فنحن -دون السماوات والأرض- نكبر بالموت، نولد في كل حربٍ وسجنٍ، ونُطلق أطفالنا في براري النداء). ويؤكد الشاعر أنّ التعرض للأسر في سبيل الحق ليس انتقاصا ولا إساءة، ويستحضرُ في ذلك النبيَّ يوسف عليه السلام الذي سُجن ظلما وبهتانا وزورا، في سبيل دفاعه عن مبادئه وأخلاقه بعدم انصياعه لإغراء زليخة ومراودتها له، وكان السجن أحبُّ إليه من الوقوع في الخطيئة؛ وبهذا الاستحضار يفصح الشاعر عن رضا الأسيرات في (نفي ترتسيا) بقضاء أسرهِنَّ دفاعًا عن وطنهِنَّ فلسطين، وتضحيةً لأجل تحريرها من قبضة الاحتلال الصهيوني وممارساته البشعة؛ فالشاعر يرى في أمرِ السجن نجاة من الرضوخ للذل، وسبيلا لإعلاء كلمة الحق ومحاولة لإزهاق الباطل: (والسجنُ...، حتى النبيّ الذي راودتهُ زليخةُ، حتى "نفي ترتسيا" أوجدوه، لحرق البساتين في الصدرِ، أو لاحتواء العواصف والأنبياءْ). ويتأكد المعنى في قول الشاعر: (لا بأس! فالسجنُ... يكتبنا سورةً للإباء)؛ أي على الرغم من كل ما في السجن من مكابدَة وضيق ومعاناة، فالأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال الصهيوني متمسكون بمواقفهم ومبادئهم التي أُسروا من أجلها، تملأهم العزة والأنفة والكبرياء. وختاما، يظهر لنا كيف اعتصم الشاعر بحبل الأمل والصمود على الرغم من المعاناة والضنك المفروض على الأسرى في سجون الاحتلال، كما تعكس لنا القصيدة كيف يتساوى الأسرى والأسيرات في تقديم الغالي والنفيس فداء الأرض والكرامة؛ فالفلسطينيون رجالا ونساء مصممون على تحقيق حلم الحرية، ويملكون العزيمة ذاتها في الصبر على انتهاكات الاحتلال، تلك الوحدة بين الأسرى والأسيرات حوّلت السجون إلى قلاع تنتشر في فضائها شمس الحرية، لتملأ السجن أملا يجعل من صحراء السجن أرضا خضراء تكسوها الحرية وتضج بالنور والمجد والعزة والإباء: (ولكننا قد جعلنا السجونَ قلاعا تضّجُّ شموسا). هذا كله ليقول الشاعر إنه ما زال حيا، وكله شوق وحنين لكي ينال حريته وينعم بسماع صوت طائر الهزار الجميل، وإنه سيظل وفيا لبلاده وأرضه قابضا على العهد ما دام على قيد الحياة: (وكلي شوقٌ لعيني هَزار، وكلي وفاءْ). |