الإثنين: 18/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

أسير محرر يكتب عن تجربته في رعاية الأسرى الأطفال

نشر بتاريخ: 20/11/2019 ( آخر تحديث: 03/04/2020 الساعة: 05:11 )
أسير محرر يكتب عن تجربته في رعاية الأسرى الأطفال
كتب: الأسير المحرر عبد الفتاح دولة عن تجربته في رعاية الأسرى الأطفال بمعتقل "عوفر" على مدار عامين ونصف.
تُحيي دول العالم يوم الطفل العالمي، فيقودني الحدث إلى قسم المعتقلين الأطفال (13) في سجن "عوفر" الاحتلالي، بكل ما تتعرض له هذه الطفولة الأسيرة من ظلم وقهر و جرائم تخالف بمجملها كل قيم وأعراف وأخلاق البشر، وبنود نصوص القانون الدولي، التي ما وُضعت إلا من اجل حماية هذه الطفولة المستهدفة بإجراءات وسياسات احتلالية مبرمجة، وكأن أطفال فلسطين ليسوا جزءً من أطفال العالم، وكأن هذا القانون وضع لحماية أطفال دون غيرهم، ومحاسبة دول دون غيرها، وبما يُخرج دولة الاحتلال من مربع المساءلة والمحاسبة.
قسم المعتقلين الأطفال (13) سجن "عوفر".
على مدار عامين ونصف العام، أشرفت فيها على رعاية أطفال "المعتقل" في سجن "عوفر" الاحتلالي، وبعد أن استجابت إدارة سجون الاحتلال لإلحاح ومطلب الحركة الأسيرة المستمر على إيفاد معتقلين كبار إلى أقسام "الأطفال" لرعايتهم، وحمايتهم من استفراد إدارة سجون الاحتلال بطفولتهم المعذبة الأسيرة؛ التقيت فيها بمئات الأطفال ممن أُوقف وأُعدم ما تبقّى من طفولتهم داخل أقبية هذه السجون، عايشت أوجاعهم، ومآسيهم، وحكاياتهم، ورحلة العذاب والانتهاك التي تعرضوا لها نتيجة الاحتلال، وسياسة الاعتقال منذ لحظته الأولى، مرورا بمراكز التحقيق والتوقيف، وقاعات "المحاكم" الجائرة التي يُرتكب في أقبيتها واحدة من أبشع الجرائم بحق الإنسانية، ألا وهي اعتقال وتعذيب ومحاكمة الطفولة الفلسطينية، وصولا لإعدامها.
قانون دولي شكلي:
على غفلة أو غمضة عين مقصودة، أم منحازة، أو مغلوب على قرارها من منظومة دولية، وقانون إنساني، يعيش أطفال فلسطين والمعتقلين منهم على وجه الخصوص، نكسة وسقطة أخلاقية وقانونية وإنسانية، نتاج صمتهم على هذه الجرائم بحق هؤلاء الأطفال، الذين يحيي ذات العالم ومنظومته القانونية يوم طفولتهم. وهو ما يُفرغ هذا اليوم من مضمونه وقيمته الإنسانية، طالما بقي هذا الصمت والعمى الدولي على حاله.
وتذكيرا للعالم في هذا اليوم وبتجربة حيّة عايشتها وجها لوجه، ولحظة بلحظة، وحكاية بحكاية مع هؤلاء الأطفال؛ أعيد على مسامعكم، واضع أمام ناظركم شيئا يسيرا من هذه الجرائم التي تخالف "معتقداتكم" و"قوانينكم" الإنسانية.
سياسة ممنهجة لإعدام الطفولة:
جلست لحظة دخولي الأولى لقسم الأطفال (13) في سجن "عوفر" الاحتلالي أمام باب القسم مشدوها ممقوتا أراقب بصمت ساحة محاطة بجدران شاهقة من كل اتجاه، مسقوفة صوب السماء، متنفسها الوحيد للحياة، بطبقات متراكمة من السياج والأسلاك الشائكة التي حولتها لقفص كبير لم يكد يتسع لحركات وقفزات وأحلام أطفال، لم يجدوا أي لعبة طفولية تليق بأعمارهم، تبعث ضحكاتهم أو تعينهم على قتل الوقت الذي يقتل طفولتهم؛ فأدركت أني جئت إلى عالم خارج حدود الأخلاق والإنسانية وسلوك البشر، بل ما كان خلف هذا المشهد الأولي، اشد فظاعة وبشاعة.
مئة طفل موزعين على عشرة غرف هي سعة هذا القسم، من أصل ثلاثة أقسام موزعة على عدة سجون خصصت للمعتقلين الأطفال _بذات مواصفات وإجراءات أقسام البالغين الكبار إلى ابعد حد_ لم ينخفض فيه العدد على مدار كل الفترة الزمنية التي أمضيتها من فترة أسري هناك في هذا القسم، حيث بلغت نسبة الاعتقال ما معدله طفل في كل يوم، ترتفع في أحيان.
جيش يعتقل طفلا:
يصل الطفل القسم (13) محملا بأصناف العذابات والانتهاكات، يعيرها لحظة اعتقاله الأولى في أجواء من الاعتداء والترهيب والمساومة والابتزاز؛ ضرب بالهراوات وأعقاب البنادق، و"بساطير" الجند، وعضات الكلاب، بل وإصابات بالرصاص الحي.
أجساد معطوبة بالرصاص الحي، وأيدي معلقة في الرقاب، وأقدام مبتورة، وزرقة كدمات، وعضات كلاب هي الأشكال المرسومة على أجساد الطفولة الأسيرة. اعتداءات في أقبية التحقيق لليالي وأيام طوال، وشتم للطفل ووالدته وأخواته، وتهديد بالاغتصاب، وابتزاز "بالعمالة" وإسقاط لكل الحقوق وقوانين التعامل مع الأطفال، يخرج منها الطفل مرعوبا يرتجف من هول الموقف الذي يمتد إلى محاكمات لا تحصل إلا في دولة الاحتلال.
قضاة كبار تخلوا عن إنسانيتهم، يجلسون أمام طفل انتزع من أحضان والديه وأحلامه ومقعد دراسته، يتلون حكمهم الجائر وقيمة الغرامة المالية التي تفوق الخيال، بحق طفولة لم تنضج بعد، وقرار بإعدام ما تبقى من طفولته قبل أن يُحياها بعد، فينهي مدة حكمه مغادرا إلى مستقبل معطوب لا يُعرف ولا يُحمد عقباه؛ بينما ازداد وأنا أراقبهم كفرا بهذا المجتمع الدولي، وقوانينه التي لا توفر أي حماية لهؤلاء الأطفال.ويحتفل هذا العالم كاذبا مزيفا بيوم خصص لهؤلاء الأطفال.
حق بالحماية:
"يتضمن حق الحماية (وفقا لاتفاقية حقوق الطفل) حق الحماية للطفل حمايته جسديا، حماية صحته ونموه، حماية حقوقه، وحمايته نفسيا وعقليا، وتوفير السبل التي تحمي عقليته، وحمايته اجتماعيا عن طريق حفظ حقه في الازدهار بوصفه جزءا مهما من المجتمع، ويشمل حق حماية الطفل جزأين رئيسيين، هما القرارات التي تم انجازها يجب أن تأخذ بعين الاعتبار المصلحة العليا للطفل ومستقبله، وكذلك القرارات التي يتم اتخاذها نيابة عن الطفل يجب أن تتضمن حصوله على حقوقه، وتطبيق حق حماية الطفل يجب ضمان وجوده في بيئة عائلية صحية، ودولة آمنه توفر نظام حماية شاملا له.
يتضح جليا من عدم إعمال هذا القانون، انه لا يشمل الطفل الفلسطيني، فكل مادة منه، وفي كل هذه الحقوق، لا يطبق مع أطفال فلسطين الذين تتعرض طفولتهم لانتهاك في كل بنوده، بسبب الاحتلال وسياسة الاعتقال. فلمن وضع هذا القانون يا واضعيه، وكيف لكم السكوت عن كل هذه الجرائم؟! تمنيت أن أرى حقا واحدا مكفولا لأطفال المعتقل من هذه الحقوق المنتهكة بكاملها.
مسلسل جرائم مستمر:
وأنا أعايش هؤلاء الأطفال، شهدت في كل طفل حكاية، وفي كل حكاية وجع وانتهاك لطفولته التي ما أن يصل موعد تحرره من هذا الظلم، ألا وخرج دونها إلى مستقبل مجهول، لم يُترك له حق ولا حماية ولا خيار يعينه على ولوج مستقبله وأحلامه وتعليمه، ولا حتى هواياته؛ بينما نجد عالمًا يحتفي بهذا الطفل.
في اليوم العالمي للطفل _عدا الطفل الفلسطيني_ لا أجد احتفاء إلا بفقدان هذا العالم لإنسانيته، بل وبشراكته، وشراكة قانونه الإنساني _العاجز_ في كل هذه الجرائم التي ترتكب بحق الطفل الفلسطيني، والمعتقل على وجه التحديد، وبالتالي ما من احتفاء بحق طفل في هذا العالم، طالما حقوق الطفل الفلسطيني تعتقل وتحاكم بالإعدام.