الأحد: 17/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

المعنى والعدم في ديوان "كتابة الصمت" للشاعرة نداء يونس

نشر بتاريخ: 12/01/2020 ( آخر تحديث: 12/01/2020 الساعة: 16:37 )
المعنى والعدم في ديوان "كتابة الصمت" للشاعرة نداء يونس
بقلم: الاسير كميل ابو حنيش
محكوم 9 مؤبدات...

الاسير الفلسطيني الكاتب كميل ابو حنيش يكتب من داخل زنزانته في السجون الاسرائيلية: قبل خمسة سنوات طالعت الديوان الأول للشاعرة الفلسطينية نداء يونس والذي حمل الاسم "أن تكون أكثر" فاستوقفتني الكثير من نصوص هذا الديوان التي امتازت بعمقها ومضمونها وتساؤلاتها الكبيرة، وقبل شهرين تسنى لي الاطلاع على ديوانها الجديد "كتابة الصمت"، والذي طالعته عدة مرات، إذ ليس بوسع أي قارئ مُتذوق للشعر إلا أن يتوقف ويتأمل هذه النصوص، فالشاعرة جريئة في طرح الأسئلة الكبيرة ومُقاربتها ولا تحفل بالتابوهات، كما أن نصوصها تعكس نُضجًا وثقافةً ووعيًا، كما أنها تمتاز بقوة الحدس والاحساس العميق والقُدرة على تمثُل الأزمنة والتاريخ الإنساني والثقافي.

وهذا الديوان "كتابة الصمت" هو في الواقع ديوانين جعلتهما الشاعرة في كتابٍ واحد حيثُ اختارت اسم "أنائيل" للديوان الأول، أي "أنا هو" وأنائيل كلمة مُركبة تتكون من ضمير المُتكلم بالعربية وضمير الغائب بالفرنسية "IL" فيما أطلقت اسم "بروفايل للسيد هو" على الديوان الثاني، وربما آثرت الشاعرة ضم الديوانين في كتابٍ واحد لتماهي اللغة الشعرية في الديوانين وانطوائهما على ذات الفلسفة والرسالة والوسيلة، فلهذا فإننا وأثناء مُقاربتنا للنصوص الشعرية في الديوانين لن نلجأ الى مُسمى الديوان الأول أو الثاني وإنما سنتعامل معها كنصوص لديوان واحد مثلما اختارته الشاعرة (كتابة الصمت)، وقد جاء اختيار المُسمى مُوفقاً لما تضمنته النصوص من لغة واحساس وبوح صامت لكنه صمتٌ يضِجُ بالكلام.

للشاعرة فلسفتها الخاصة التي انطلقت من الذات لسبر الوجود، واختارت الجسد ليُشكلَ مُنطلقاً أو مُختبراً في بحث الشاعرة عن معنى الوجود وأسراره، هذا الجسد برغباته الحسية ولغته الباطنية ونداءه السري وأحاسيسه وشيفراته يروي حكاية وجودية ويطرح أسئلة فلسفية، فتأملته كعالم صغير يحوي في داخله اسرار العالم الأكبر.

واذا اختصرنا الديوان بكلمات، فهو نصٌ يمشي الهوينى على حدِ سكينٍ ويشقُ طريقاً وعرة بين المعنى والعدم، فالشاعرة تتسائل وتبحثُ وتتقصى وتنفعل وتُجيب وتصرخ وتصمت وتكر وتفر وتُقاتل وتهرب وتظهر وتختفي، ونصوصها لا تشوبها الضحالة والسطحية ولا تبتذل ذاتها باستحضار واستشراف الرغبات الحسية بصورةٍ مُباشرة، بل تبحث عما هو كامن وعميق وما هو دائم وليس ما هو عارض.

ونداء يونس المُندهشة كطفلة أمام الاكتشاف نجدها تغذ خُطاها سعياً وراء ما تُنبئ به النصوص من إشارات، وكلما فكَّتْ لغزاً أو طلسماً نراها تحتفي ثم لا تلبثُ أن تلهث وراء اكتشافٍ آخر، فنصوصها لا تعرفُ الشبع والاكتفاء والارتواء.

وإذا كان الديوان قد حمل عنوان كتابة الصمت إلا أنه صمتُ المُتأملين والمُستغرقين في حياتهم الباطنية الذين يتحدثون لغة باطنية فالصمتُ لغة وكُل صمتٍ نحياهُ ما هو إلا صمتٌ يضِجُ بالكلام.

وبهذا الصمت ثمة حوار مُستعر بين الـ"أنا" وظلها، وجرياً على عادة الشعراء العرب منذُ امرؤ القيس (قفا نبك..)، والشعر العربي وفيٌّ لذلك التراث ولعل أبلغ عبارةٍ قيلت في هذا الشأن كانت بقلم الرِوائي العربي الياس خوري في رواية "أولاد الغيتو" حين أنشأ يقول: "علمني امرؤ القيس المُثنى حين تنقسم أنا الشاعر الى نصفين، وتصيرُ الأنا هي مرآة الذات المُنكسرة على ظلال الشاعر في الصحراء، ويصيرُ الحوار بين الأنا والـ أنا هو بداية العلاقة بين الكلمات والموسيقى"، ثُمَ يُضيف في ذات الرواية: :"لا شيء يُعادل الشعر سوى فواصل الصمت التي تضبط ايقاعاته على إيقاع الروح".

ليس اسمه مُصادفةً، كما أنه ليسَ مُصادفةً أن يحمل في جزئه الأول منحوتة: (أنا هو) الأمر الذي يعكس العلاقة بين الأنا وظلها على طريقة الشعر العربي أو ينطوي على لغة التصوف الحلولية على مذهب الحلاج (أنا هو وهو أنا)، لنجد الشاعرة قد أهدت ديوانها بهذه الصيغة "إليه الذي أراه في مرآة لا أحملها"، فمن هو ذلك الذي تراه في مرآة لا تحملها؟ هل هو أناها الآخر؟ قرينها؟ معشوقها المُترائي في مخيالها؟ المعنى الكامن في وجدانها؟ ظلها الشفيف اللامرئي، إلخ، ومن هنا فإن نصوصها ما هي إلا مُحاولة دؤوبة لتُرينا ما يترائى لها في تلك المرآة التي تجهل الشاعرة مكانها.

الصمتُ كلام ولكن من نوعٍ آخر، إنه الصمت الذي ينطوي على ما يُمكن أن يُقال أو ما لا يُقال أو ما ينبغي أن يُقال، إنه الصمت الحُر والشجاع، ففي حضرة الصمت، لا نختبئ وراء الأقنعة والستائر، في الصمت بوسعنا أن نتحدث بصراحة ونكون أكثر شجاعة وشفافية، وبمقدورنا أن نقول بصوتٍ مرتفع أن الملك عارٍ، وفي مرآة الصمت نكون أكثر وضوحاً وعُريِّاً في الظاهر والباطن.

وبهذه التأمُلات تُتحِفُنا نداء بعد أن جعلت الجسد مرآةً تعكسُ الوجود، وجعلت الوجود مُكثفاً في الجسد، ومثلما قال قطب الصوفية الأكبر ابن عربي: "الإنسان كونٌ صغير والكونُ انسانٌ كبير"، أو كما تقول إحدى عبارات الصوفية "إنك العالم والراصد والمرصود".

لنتأمل هذه النصوص الجريئة في رحلة بحث الشاعرة عن المعنى في قلب العدم وعن الحقيقة وسط السراب وعن الحضور في رحم الغياب من خلال المحاور الستة التالية:

أولاً: البحثُ عن المعنى

كانت رحلة الانسان منذ أن بدأ يُدركُ وجوده في الطبيعة هي رحلة البحث عن المعنى، وقد تبدت هذه الرحلة فيما تركه لنا الانسان القديم من رسوماتٍ على جدران كهوفه والمنحوتات والنقوش على الصخور والألواح الطينية التي حملت لنا أساطيره وملاحمه الشعرية وآثاره وأبراجه وأهراماته ومُعتقداته، ضمن اشارات أخرى، وكلها شاهدةٌ على تلك الرحلة الروحية، فالعقل الإنساني لا يُصدق ولا يستوعب فكرة العدم الذي يُؤرق الشاعرة كما يؤرق أي انسانٍ عاقل وتستحضره من خلال أسئلة تتجاوز الذات الإنسانية والعالم الفيزيائي، فانهمكت بالبحث بدءً بذاتها جسداً وروحاً، وسبرت أغوار دهاليزها الباطنية ورغباتها وهواجسها وأحزانها وأفراحها ومواطن قوتها وضعفها واتساعاتها وانكماشاتها، لذا نجدها في قصيدة "نشيد" في افتتاحية الديوان تقول:

لي جارانِ في بدني/ هما قلبي ونجواه
ولي نهران يصطخبان/ من صمتٍ ومعناه (ص10)

إن هذا الحوار تُجريه الشاعرة بين الـأنا وظلها وهي تختبئ تحت قوقعة الصمت بحثاً عن المعنى في ثُنائية الروح والحس، الانسان والطبيعة، الفيزيائي والميتافيزيائي، الوجود والعدم، ثم نجدها تهتف:

فهل حقاً ستُدركهُ/ وتأتينا بمعناهُ (ص11)

وهذه الأبيات في قصيدة "نشيد" العمودية الايقاعية هي القصيدة الايقاعية الوحيدة في هذا الديوان، ورُبما تُشكِّل أبياتُها مفاتيحًا لنصوصها اللاحقة، لتشرع بعدها في نظم نصوصها النثرية في محاولةً لسبر أغوار معنى الوجود، فالشاعرة ظمأى للحقيقة ونجدها تلهث ورائها في الصحراء فتتراءى لها ثم لا تلبث أن تنطفئ الصورة ولا يتبقى سوى ما يُخلفه السراب بعد أن يتراءى.
وفي أحد نصوصها تهتف الشاعرة:

الدمع أسود
الليل أسود
الحلم أسود
لا أعرفُ لوناً آخر
خارج حدود الشمعة (ص14)

هذا التشاؤم من الظلام الوجودي يأتي على شكل احتجاج، والشمعة هي الوعي الإنساني غير المُتاح له أن يُدرك خارج حدوده، وليس بوسعه أن يتجاوز حدود وعيه وحواسه، وفي حال انطفاء الوعي أو الادراك، عندها سيسود الظلام. هذا نصٌ ينطوي على الاحتجاج على غياب المعنى أو بالأحرى هاجس غياب المعنى، عندها ستتشابه الألوان كلها في ظلام العدم، فالشاعرة تتوق لرؤية الألوان خارج حدود الشمعةـ وترى المُتجاوز منها، وهو بعكس ما تمناه أبو علاء المعري -ضرير البصر- الذي يود أن يرى الأشياء في قلب ظلام العدم، حين يقول:

يود أن ظلام الليل دام له/ وزيد فيه سواد القلب والبصر

يتمنى هذا الشاعر أن تزداد حلكة ظلام الليل وشدة سواد القلب والبصر لأن في الظلام الدامس بوسع الإنسان أن يُفعل خياله، فتكون الرؤية أكثر وضوحاً لا سيما حين نستحضر للمخيلة المشاهد والصور والأحداث. تواصل الشاعرة في نصٍ آخر:

‏أ‏دور ‏مع المريدينَ
‏ليس ‏ليحملنِي الهذيانُ
‏أ‏و ‏أ‏رى على ‏‏أطرافِ تنورةٍ
‏ما يقرؤُه ‏العارفون،
‏بل لأرى صورتَك
‏في مرآةٍ؛ ‏
‏لا ‏أ‏حمِلها‏ (ص42)

هي أيضاً تبحثُ عن الصورة المتجاوزة للحواس، تُجرب الطرق الصوفية ليس لأغراض الوصول الى نشوة الهذيان أو حالة الانخطاف الصوفية بل لترى الحقيقة وإدراك المعنى، ولربما يكون بوسعها أثناء تأملاتها أن ترى ما لم يره غيرها، والمرآة التي لا تحملها هي حدسٌ خارج الحواس والادراك المُباشر، ربما الهام أو إشارة يلتقطه/ها مخيالها من عالمٍ آخر مُتجاوزة الطبيعة، يأتيها على شكل ومضة حلم، ثُم نجدها تستدرك بالقول:

لا أقولُ أن الانعكاس ضرورةٌ
بل أن الظل اثباتٌ على نجاة الكائناتِ
لا من الحبِ
بل
من العدم (ص42)

لا تلمس الشاعرة الصورة في تجليها الكامل كما تنعكسُ في المرآة، إنها مُجردُ ايماءةٍ أو اشارةٍ أو دليلٍ يُنقذها من الوقوع في هاوية العدم، بل تلمس ظلالاً مُتحركة أو ثابتة، لأن الظلَ اثباتٌ على وجود شيء مادي، ومجرد وجود الظل كافٍ للنجاة من اليأس والعدمية واللامعنى، فالكائنات تنجو بالحب لكنها لا تنجو من العدم، لذا هي تنشُد النجاة لا من الحب بل من العدم، لأن الحب ينطوي على المعنى وموازٍ للعدم.

وربما تستبطن الشاعرة فلسفة أفلاطون ونموذجه في المُثُل الأزلية المُترائية كظلالٍ على جدران الكهف، وهذه الفلسفة نجد لها صدى في العديد من الفلسفات، كما في هذا البيت الذي جاء على لسان أحد الشُعراء المُتصوفين:

كُلُ ما في الكونِ وهمٌ أو خيال
أو عكوس في المرايا أو ظلال

وهذا البيت يُناقض نفسه إذ يجمع الوهم بالحقيقة والمعنى بالعدم، فالانعكاس دلالة على وجود شيء، والظلال أيضاً تدل على الوجود المادي للأشياء وما دون ذلك فإنه لن يكون سوى الوهم والخيال والعدم، وفي نصٍ آخر تقول الشاعرة:

للبحرِ حكايةٌ أُخرى
غير التي يرويها الموجُ،
لو تسأل الصَدَفةَ (ص52)

البحر هو الوجود وشساعته وعمقه ومياهه وأسماكه وحيتانه ونباتاته وشواطئه وتاريخه.. إلخ ولا يُمكن اختصاره بالأمواج التي تتكسر على صخور الشاطئ، ثمة حقيقة أكبر وأعمق وأطول مدى من الموج، أما الصَدَفَةَ التي تخرج من صوت البحر وذاكرته، فانها ليست مُجرد قشرة صماء، لقد كانت تحوي في داخلها بذرة الحياة قبل أن تتحول الى قشرةٍ مُهملة على الشاطئ، والصَدَفَةُ ليست اختصارا للبحر، ثمة ما هو أعمق من الموجة والصَدَفَةِ، فالبحرُ بتفاصيله وتاريخه يختزن عالماً شاسعاً، وبهذا تُحاول الشاعرة البحث عما يحويه عمق البحر أي الوجود ولا تكتفي بالسطح، وما يظهر من البحر: أمواجه وأصدافه.
انها تواصل في نصٍ آخر:

أُنكرُ صوت المُغني
ولا أُنكرُ صوت النشيد (ص58)

فالشاعرةُ لا تكتفي بما تحمله من المعارف والثقافات والمُعتقدات التي حاولت تفسير الوجود وأن تضفي المعنى عليه، تُريدُ ما هو أعمق، هي تؤمن بالمعنى أي النشيد الخالد الذي حاول الانسان مُنذُ القِدم الاصغاء اليه وكشف النقاب عن غموضه، فاخترع الاساطير والمُعتقدات والأديان وبهذا فهي تُعلن عن عدم اكتفائها بما حملته ولا تُنكر المعنى الكامن وراء الوجود، وكأنها تستبطن ما قاله سقراط: "لستُ ضدَ آلهة الجمهور، بل ضد فكرة الجمهور عن الآلهة"، ثم نجد الشاعرة تعود الى الجسد الإنساني لاستنطاقه والبحث عن ما هو كامن في أعماقه حين تهتف:

الطين‏؛ ‏ليس سرا فقط،
بل سريرًا،
لكنما‏؛ عيناهُ معصوبتا‏نِ
و‏قنديلٌ في يدِه‏؛
‏هكذا علمتهُ المسالك.

يُغطي الوشمَ
بالآياتِ التي على حجرٍ،
ويمضي فيَّ‏؛
‏مثلَ الدُّخانِ
في فضاءٍ أَعمى (ص60)

الطين الذي حمل في أعماقه الخلية الحية، التي أنتجت الكائنات، ووصلت ذروتها في الانسان العاقل، ذلك الكائن الذي صار بوسعه أن يعي ويُدرك ويُفكر ويبتكر ويُنتج، علاوةً على أن هذا الكائن يمتلكُ جسداً مُعقداً يحوي بداخله أسراراً عظيمة تستدعي الاكتشاف، هذا الجسد ليس سراً فحسب وإنما هو سرير تسكن فيه الروح وتجد لها مُستقراً بداخله، اذاً هذا الجسد بغرائزه العمياء والشريرة، ينطوي على روحٍ عاقلة وواعية خيرة تُضيء لنا الطريق وتصوب لنا انحرافاتنا.

إن هذا النص مُتأثر بأفكار فلسفية وأُخرى دينية، ولعل أبلغ عبارةٍ فلسفية جاءت على لسان شوبنهاور تحدثت عن الإرادة في الطبيعة وفي الكائنات الحية عموماً وفي الانسان بشكل خاص "الإرادة رغبةٌ مُلحة لا تهدئ، وقوةٌ عمياء غير ناطقة، أو اندفاع أعمى يُحركُ كل شيء، وبه يتحقق الهدف وتستمر الحياة". ويُضيف شوبنهاور: "الإرادة هي الرجُل الأعمى القوي الذي يحمل على كتفيه الرجُلُ الأعرج - أي العقلي الذي يستطيع أن يرى"، لكن شوبنهاور أحد رواد فلسفة التشاؤم يقول أيضاً: "الوجود جوهره إرادة عمياء قاسية وأن العالم المرئي ما هو إلا وهم". على ما يبدو تأثرت الشاعرة بالتراث الديني، لاسيما النصوص الصوفية التي تتحدث عن ثُنائية الروح والجسد، وحسب المسالك الصوفية فإن الجسد ماديٌ أعمى خاضعٌ لغرائزه المُظلمة، أما الروح فإنها إلاهية وميتافيزيائية، تكشف وتُنير الظلام، وتُهذب الجسد ،كما في هذا النص "النفس العاقلة هي خيال الله في الجسم"، فالنفس العاقلة هي الروح التي تُنير ظلمة الجسد، وتُصوب مساره، وتُلجم اندفاعات غرائزه العمياء.

والشاعرة لا تكف عن البحث في الطريق الدامس الظُلمة، وتعود الى ذات الفكرة في نصٍ آخر:

رأيتهُ حين حملتُ مصباح
ديوجين
ودرتُ في أرض اللهِ
وحين تعلمتُ الكلامَ
وحين نسيتُه
وحين ظننتُ أنني عرفتُ
الطريقَ
وحين فقدتُهُ،
وحين أكتبُ، الآن، هذا النصَّ
الذي لا يعني سوى أنني
أحملُ مصباحي
لأقتفي أثرَهُ ص210

لا زالت تبحثُ في عتمات النفس وظُلمة الغرائز على الطريق، وتقودها الروح في هذه العتمة الدامسة، لعل وعسى أن تكشف لها الطريق، وتصلها بالحقيقة، فيما لا تزال تائهة تتلمس خُطاها، وتتشعب طرقاتها، تتعثر، تُصيب، تُخطئ، تُلمِّعُ شذرات المعنى في عتمة العدم الدامس، وفي هذه الأثناء تهتف من أعماقها:

دُلني يا وليٌ دُلني
دُلَ الطريق إليَّ (ص85)

ثمة قولٌ للبسطامي "غِب عن الطريق تصِلُ إليها"، وتعيد الشاعرة في الطرقات ضياعها، لكنها تستنجد وتُخاطب المعنى أن يدُلها على الطريق، أو الطريق أن تأتي إليها، وكأنها تُكمل مُناجاة البسطامي حين يهتف "إذا قلتُ: يا رب أين الطريق إليك؟ جاءك النداءُ: خلِ نفسك وتعال!"، لكنها تغلبها الحيرة، وهي تتلمس الطريق، وتقول:

لا أعرفُ الطريق إلى البحر
الذي فيَّ (ص224)

تبدو كمن يعجزُ عن الوصول الى الطريق الى الأسرار الكامنة في أعماق النفس، تعتريها الحيرة والهواجس، ثمَ لا تلبثُ أن تهتف:

المشكلة في الطريق
التي نسلكها
مرةً واحدةً،
وفي الحياة التي نعيشها
مرةً واحدةً،
وفي الحب الذي نعرفُه
مرةً واحدةً
ولكنه لم يزلْ. (ص245)

إنها إشكالية الحياة الوجودية الكُبرى، مسارُ الانسان وقدرهُ في الحياة التي ليس بوسعه أن يحيد عنها، تلك الحياة القصيرة والموت المُتربص بها في كل حين، وذلك الحب الذي يُشعِلُ النفس فيُنيرها ويُمثل إحدى أوجه المعنى في الوجود، الأمر الذي ينطوي على المأساوية والعبث والحيرة.

وهذه الشاعرة -المسكونة في البحثِ والتقصي عن الدرب الموصلِ- لاتزال تستنطقُ وتستفسر:

لم يسألْ عن الطريقِ
لكنه كان يضعُ علاماتٍ
كي تستَدلَ الغيبوبةُ
إليها. (ص258)

فما هي تلك العلامات؟ وما هي تلك الغيبوبة؟ هل هي الاستنتاجات والانطباعات والإلهامات، أم غيبوبة الصوفي وانبهاره وانخطافه؟ أم أنها تلك العلامات والاشارات الموصلة الى النشوة الجسدية والوصول الى الميتافيزيائي عبر الفيزيائي الحسي؟
ولا تكف الشاعرة عن البحث وطرح الأسئلة في المسافة بين الـأنا وظلها:

أين أنتَ؟
(في كلِ مكانٍ لستُ) فيه (ص67)

إن هذا السؤال يُلخص البحث الدؤوب عن الذات الضائعة والمُستغرقة في صحراء تيهها، إنها في كل مكان وبلا مكان وفي قلب الوجود وفي قلب العدم، وقد اختارت الشاعرة الإجابة عن السؤال بجملة بين قوسين بحيث إذا حذفنا الجملة بين الأقواس فإن الإجابة على سؤال (أين أنتِ؟) تكون (فيه) أي في معنى الوجود المُقدس الأمر الذي ينطوي على المعنى، وإذا أبقينا الجُملة فإن الإجابة عن السؤال تُصبح (في كلِ مكان لستُ فيه) الأمر الذي ينطوي على العدم والتلاشي، وصيغة الإجابة على أيةِ حالٍ هي إجابة صوفية وفقاً لمذهب الحلول (أنا فيه) حلول (أنا لستُ فيه) أي الـلا حلول وبالتالي العدم.
ثم نجدها تهتف في نصٍ آخر:
أبحثُ عن هو ؛
وحين لا يعودُ بإمكاني أن أَرى سوى عينيكَ،
أجدُه. (ص129)

انها تبحثُ عن "هو" أي الآخر، وإذا كان للأنا ظلٌ في الذات، فإن الوجود له ظل فاعل قرين معنى لا يُمكن أن يكون عبثاً، إذاً أين "هو"؟ ينبغي البحثُ عنه في كافة الظواهر المُتجسدة وفي قلب هذه الحيرة والارتباك تجدهُ في الحب، إذاً ثمةَ معنى للحياة يتنفسُ الحب، كما أن هذا النص يحمل في طياته فكرة التصوف الحلولي، وفي أثناء البحث عن المعنى يتعين البحثُ عنه في كل الظواهر والأشياء، إنه كامنٌ في كل شيء، في الطبيعة والجمال الحُب والسماء والأرض والأزهار وبراءة الأطفال، وهذا يُشبه ما قاله الحلاج:

وأيّ أرض تخلو منك حتّى
تعالوا يطلبونك في السمـاء
تَراهُم يُنظُرونَ إِلَيكَ جَهراً
وَهُم لا يُبصِرونَ مِنَ العَماءِ

بيد أن الشاعرة لا تهدأ، ولم تصل الى اليقين، انها لاتزال تائهة في صحراء الحيرة والارتباك، ونجدها تُعبر عن هذه الحيرة بالنص التالي:

‏تحملُني القوافلُ؛
‏في يد الصحراءِ بوابةٌ زرْ‏قاء
‏و‏صوتٌ‏
يُرتبُ اللاجهةَ،
‏أينَ سُرّتك؛
‏لأرتبَ هذا ‏الليل. (ص72)
ثمة ضياع في صحراء الوجود الشاسعة، وما السماء إلا بوابة أو طريق في رحلة البحثِ عن المعنى في الوجود، تلك البوابة مُنطلق الأديان والمُعتقدات التي حاولت تفسير الوجود، ولكن ثمة حدس، صوت، قبس، إحساس يهتف في أعماق العدم والفوضى والظلام، ولكن أين "هو"؟ أين البداية، المركز، الحقيقة، أين سُرة الوجود، سرة ايثاكا، او سرة الأرض، في قلب هذا العماء؟
ثُم تواصل في نصٍ آخر:

كلما نقصت تميمة
حضر السؤال (ص92)

وكلما فُكت عُقدة أو فُسِر لغز أو سرٌ من أسرار الوجود، كلما بقي السؤال الأكبر ماثلاً ومُتحدياً ومُعلقاً، ولم تصِل حدود معارفنا بعد الى سبر أغواره، والاجابة الشافية عنه، فهو سؤال الأسئلة وعلة الوجود وبه يكمن المعنى، ولم يتسن لنا بعد سوى المُحاولات في الإجابة.
وتُعبر الشاعرة عن هذا العجز بالإجابة، بالحيرة وقلة الرؤية، من خلال هذا النص:

في عينِي،
الغبارُ الذي لن يراهُ أحدٌ. ص217

إنه السديم الذي يحجبُ الرؤية مثلما عبّر عن ذلك جلال الدين الرومي بقوله: "الشعرة في العين تكون كالجبل العظيم".

وهذه الشعرةُ المُزعجة هي بمثابة الجبل الجاثم أمام رؤية الحقائق كما هي، ولايزال يعوزنا الكثير حتى يكون بوسعنا الرؤية الواضحة، ثم تنتقل الشاعرة في تأمل ما حولها في مُحاولةٍ للإجابة عن هذا السؤال، ولكن هذه المُحاولات تأتي في صيغة أسئلة، كما في النص التالي:

الحنينُ الذي ينام
كقطٍ أليفٍ على شرفةِ الوقَتُ
والصدى الذي يجرح،
والزمنُ الذي يستلقي جثةً
مُتفسخةً،
والظلُّ الذي يُزاحمنِي جسداً،
والصلواتُ الهَذرُ؛
كيمياءٌ
لهذا الغياب. (ص180)

كل هذه الأسئلة تنطوي على الحيرة والارتباك وأيضاً المأساة الإنسانية التي تنتهي بالغياب الأبدي، لكن هذه الحيرة يكمُن في داخلها الأمل والعزاء، وكما قال الحلاج: "ربِ زدني بكَ حيرةً"، وهذه الحيرة منبعها الشك، ويبقى هذا السؤال مُعلقاً بانتظار الإجابة، لذا نجد الشاعرة تُعبر عن ذلك بالقول:

ببساطة هذا الانتظار الأعمى
أعيش (ص218)

تحيا ببساطة كالانتظار الأعمى الذي لم يوصلها بعد الى الحقيقة، ثُم نجدها في نصٍ آخر تُحدثُنا عن لوعة هذا الانتظار:

الانتظار؛
إجابةٌ للأسئلةِ التي تطرَحُها
الحياةُ،
وهي تحاولُ أن تحجزَ لنا موعداً
مع العدمِ
أو شيءٍ آخر ندَّعى بأننا نعرفه؛
أو هكذا يبدو. (ص248)

وفي قلب هذا الانتظار الأعمى، تنبثقُ الأسئلة، أو بالأحرى لا إجاباتٍ على أسئلة الوجود سوى مُعطى الحياة، ولكنها ليست حياة سعيدة على أي حال، طالما نحنُ ذاهبون في نهاية المطاف الى العدم، أو ربما الانبعاثُ في حياةٍ أُخرى أكثرُ جمالاً وسعادةً كما جاءت به الأديان والمُعتقدات، لكننا لا نملكُ أيَ يقين، ولازلنا في حيرة، التي نجد الشاعرة تُعبر عنها وعن الهواجس بالقول:

- علّمْني: كيف؟!
أو أعطني تعريفاً آخر للعدم!
غير أن يكون ** ص236

لا يُمكن لهذا العدم إلا أن يكون إشارةً سيئةً أو هو المصير الوجودي الإنساني النهائي، ولكن ما العمل؟ إما الاستسلام للعبث أو التشبُث بالحياة وإضفاء المعنى عليها، لذا نجد الشاعرة تتساءل عن جدوى الحياة أو العمل الذي يتعين فعله إزاء هذا المصير:

ماذا أفعلُ كي لا تستمر
الفقاعاتِ في اصطيادي
ومنحِ الحياةِ
مادةً دسمةً للضحك.ص251

وهذه الفُقاعات هي ساعات العُمر المُنقضية، هي الهموم والهواجس والمشاكل والمُنزلقات في رحلة الحياة، ونحنُ البشر والكائنات نُشبه الفُقاعات التي ستنطفئ في أية لحظة وتنتهي في العدم وكأنها لم تكُن، إن "هو" لهُوَ المعنى من الحياة في قلب هذه الكوميديا أو التراجيديا، ثم تهتف الشاعرة:

ما كتَبَهُ لا أعرفُ كيف أمحُوه،
فأين ستكتبُ
يا مِسمارَ الأبَد؟! ص268

وبهذا فإن الشاعرة تصِل الى حافة العدم ولم تُدرك المعنى من الوجود، فهذا النص يُعبرُ عن احباط ويأس ازاء الإجابة عن سؤال الوجود.


ثانياً: لُغةُ الصمتْ

الشاعرة يستهويها عالمُ الصمت، فيه السكون والسكينة والهدوء، وهناك في هذا العالم تكمُن الحقائق عارية، تلك الحقائق التي ليس بوسعنا التعبير عنها في غابة الضجيج لأنه ربما تعوزنا الشجاعة وربما نخشى التعرضُ للقمع أو نخجل أو تستعصي لغتنا الدارجة عن التعبير عما يجول في دواخلنا، أما في الصمت فإننا نرى ذواتنا مُجردة من أيِ كِسَاء، ونرى كل ما هو حولنا بصورة مُختلفة، وتوسوس لنا نفوسنا بما لا نجرُؤ على البوح به، لهذا اختارت الشاعرة الصمت عنواناً لكتابها، لتكتُبَ صمتها وتبوح، ففي الصمتِ بوُسْعِ نفسها أن تنقسم لتُحاور ذاتها وتتسلح بالشجاعة الكافية التي رُبما تفتقدها في الواقع، فتقولُ ما لا يُقال وما هو محظورٌ عليها قوله، وتُحاور الآخرين وتستنطق الحياة ولحظاتها، وهناك في عالم الصمت سينبثقُ الكلام، وبوسعها أن تقول وتتحدى وتصرخ وتتحدث عن العُري وتفاهة الوجود وعبثية الزمن وطغيان التعاليم وانحطاط القيم، وهناك بوسعها أن تبحث عن أسرار الجسد والرغبات بعيداً عن سطوة الذكور وحراس القبيلة، وهناك بوسعها أن تُصغي الى كلمات تصلُ الى عالم آخر، لهذا سيكون صمتها أكثر وكلامها أقل ومثلما قال محمود درويش: "لو أَرهفنا السمع إلى صوت الصمت ... لصار كلامنا أَقل!".
فكيف يُمكننا تفكيك طلاسم لغة الصمت في نصوص الشاعرة، حيثُ تقول:

كي تتركَ غابةً عليك أن تحرقها
كي تترك اللغة عليك ألا تصمت (ص18)

هذا النص حمال لعدة أوجه، تختبئ من خلاله الشاعرة خلف ستارٍ كثيفٍ من الاستعارات والتناقضات، فنحنُ لا نحرق الغابة حين نهجرها إلا إذا كُنا طُغاةٌ أو غزاة، أو باتت الغابة تعجُ بالوحوش أو الجفاف أو لم تعُد ملاذاً لنا، أما اللغة التي ينبغي تركها والإحجام عن التحدُث بها، إما لأنها باتت لغةٌ ميتة أو انها أصبحت جافة أو قديمة، الأمر الذي يقتضي البحث عن لغةٍ أُخرى، وبهذا فإن اللغة الجديدة لا تنطوي على الصمت وإنما الحديثُ والجهرُ ، وبالتالي فإن ترك اللغة يعني القطع مع فكرة أو مُعتقد أو رأي أو فلسفة سابقة، وهذه اللغة بما تحمله من تاريخ وثقافة وتراث ومُعتقدات، كانت أشبهُ بالغابة التي يستدعي حرقُها، والانتقال الى غابة أُخرى أو مكان آخر، لئلا يبقى في الذاكرة ما يُذكرك بحياتك السابقة، ولكي يكون بوسعك أن تبدأ من جديد.

إن هذا النص يحمل في طياته الحُزن والأسف والغضب والثورة وفي ذات الوقت يحملُ الشغف والأمل والاقبال على حياة جديدة، ويحملُ النقائض كافة: الحزنُ والفرح، المُتعةُ والعذاب، الأصالة والحداثة، الكلامُ والصمت.. إلخ.

أما الحُب فإن يعكس عالمنا الجواني، ويقذفنا الحُب بالنشوة والسعادة وبالأحاسيس، بوسعنا قياس مدى سعادتنا الداخلية كأسمى قيمةٍ إنسانية لا يوازيها أية امتيازات ومكاسب في الحياة، لهذا نجد الشاعرة تقول:

الصمتُ تمرينٌ في الحب ص54

والحُب، ما لا يُمكننا الإحساس به إلا أثناء الصمت والسكون، وليس بوسع اللغة أن تُعبِّر عن ذلك الاله الصامت الذي يزيدُ جمالاً واشراقاً وضياءً في النفس الإنسانية، فالعاشقُ صامتٌ والصمتُ هو أحد علامات الحُب، والحُب هو أحد تجليات المعنى الذي يُشرق في عتمة النفس في كنف الصمت. إذاً ثمة علاقة جدلية بين الحُب والصمت الأمر الذي ينطوي على شذرات أو بذور للمعنى في صمت العدم المُطبق.

بيد أن الشاعرة في ديوانها الثاني ستكون أكثر وضوحاً في الصمت، وكأنما اختارت الصمت لغةً لتبثنا ما تود قوله:

الصَمت
يرتدِي قوقَعَتهُ،
والحنينُ تَوقِيعٌ على
جثَّةِ الحبِ
بالأحْرفِ الأولى. (ص166)

وتنتقل الشاعرة الى حالة أكثر تجريداً وغموضاً وهي تستغرق في الصمت، كلما تقدمت النصوص بالكلام، يغدو الصمتُ أشبه بالقرين أو الصديق أو الـأنا الآخر للشاعرة، ويحاورها، ولكن بلغةٍ مُختلفة:

بِلغةٍ غريبةٍ يُتمتمُ الصمت في رأسي ص205

فما هي هذه اللغة الغريبة المُستعصية على فهم الشاعرة غير لغة الاعتراض والتيه والضياع والغموض والانفصال عن الواقع، إنها لغة غير مألوفة تنطوي على آراء مُختلفة ومُخالفة لما هو دارج في المُجتمع والثقافة والعادات والتقاليد والدين، وهذا القرين أي الـأنا الآخر الذي ينبثِقُ في عالم الصمت غير مفهوم وغريب، ويُقدم استشارات غريبة للشاعرة، ثمة طُرق أُخرى وعواطف أُخرى ودعوات وتحفيز للتجرد مما اعتادت عليه الذات، وربما تحفيز على التجرد من الذاكرة والانفصال عن الواقع والتماهي مع واقعٍ آخر واعتناق أفكار ورؤى جديدة، ولأنها تعيشُ العزلة والواقع في ذات الوقت، تُحاولُ البوح بما يعتملُ في داخلها لمن حولها ولكن سُرعان ما يبدأ الضجيج:

أُكلّمُ ضفدعاً فتمتلئُ الغابةُ
بالنقِيقِ.(ص206)

لا أحد إذاً يفهمُ الشاعرة ولغتها الغريبة التي تعلمت أبجديتها في مدرسة الصمت، ولن يفهمها سوى أناها الآخر القابع هناك في عالم الصمت، ذلك الذي دأب على مُحاورتها والاصغاء لها وتفسير ما و مُستعص على فهمها، ولكن بلغةٍ غريبة وغير مألوفة، حيث تُضيف:

لا أعلمُ علاقةُ هذا بك،
لكنّ الصمتَ ينظرُ إليّ؛ ويتمتم.ص206

وهذه المرةَ لم يعُد الصمت في رأس الشاعرة بل بات يتجلى أمامها وكأنما تنظر إليه في المرآة ويواصلُ الحديثَ بلغته الغريبة التي كانت مُجرد فكرة جنينية أو خاطر، وإذا به يتخلق في رحم الصمت ويتجسد في مخيالها ويتراءى لها كحقيقة، انها تواصل في نصٍ آخر:

الحَجَرُ؛
نردٌ يَكْتُبُ زمناً،
والكلماتُ تأْتي من الأَزلِ الصامتِ. ص223

إن الكلمات أي اللغة التي تحمل الثقافة والدين والأفكار والآراء تأتي من عالم آخر، وهنا تبدو الشاعرة مُتأثرة بالفلسفات المثالية وربما تستبطن الفلسفة الأفلاطونية، لاسيما عالم المُثل الأزلية المُتجلية في الظواهر المادية، وربما تستبطن الصراع الفكري في التاريخ الإسلامي حول القضية المعروفة بقضية خلق القرآن ما بين التيارين الأشعري والمُعتزلي، وقد تكون تقصد بالأزل الصامت الحقيقة الأزلية التي تتراءى على سطح الصمت المُعتم.
ولأن هذا الصمت يجذب الشاعرة وتجد فيه ملاذها ومُتعتها وسكينتها وصفاء ذهنها نجدها تقول:

في داخلِي أُصلي
إلى جهةِ الصمت.
الأبديةُ
تمثالٌ في متحفٍ،
وحدهُ الحارسُ يعرفُ
ماذا تقولُ لنفسها
في الظلام. ص223

لقد حولت الصمت الى قِبلة تُيمم وجهها شطرها، وهذه الجهة تجدُ فيها الراحة والسكينة والهدوء بعيداً، عن عالم الضوضاء ونقيق الضفادع.

ثالثاً: الحبُ والرغبة

لا تكُف الشاعرة في الحفر على كل ما من شأنه أن يُنبؤها بأن ثمة معنىً للوجود، وقد اختارت الذات والجسد لاختبار هذا البحث ومُقاربة المعنى في الحُب والرغبات الحسية، وفي هذا السياق تُحاول الشاعرة بين الحُب كقيمة إنسانية وجودية وبين الرغبات الحسية والغرائز الجسدية، وإذا كانت أجسادُنا التي تختزنُ تلك الغرائز والرغبات ومنبعُها الطبيعة التي تشترك فيها مع سائر الحيوانات، فمن أين يأتي الحُب؟ وما هو ذلك الإحساس الغريب والجميل الذي يملأ عالمُنا بالسعادة والنشوة والجمال، وحين نفتقده ونشعُر أننا تائهون ونحس بالهشاشة والضعف وافتقاد المعنى؟
وفي هذه الأثناء تُحاول الشاعرة اختبار الجسد والروح، هذا العالم الصغير الذي يصدقها وبوسعها أن تستنطقه لإدراك ماهية أحاسيسه ورغباته وحاجاته وهواجسه، وتهتفُ في أحد النصوص:

المسألةُ ليست فيزيالًا ،
لكنها اللغةُ؛
سريرٌ غيرُ معشبٍ،
لهذا يمكنني أن أصرخَ:
خذيني أيتها الرغبةُ
فأنا بحاجة إلى
سيّدٍ. (ص22)

الرغبة، اللذة، النشوة، السعادة الغامرة تجتاح الجسد، لكن هذه الرغبة يعوزها الاكتمال والدوام، تلك السيدةُ المُوقرة التي اسمها "الرغبة" تحتاجُ الى نصفها الآخر، إلى سيد من شأنه أن يرفع منسوب هذه الرغبة الغامضة التي تشتعل ثُم لا تلبثُ أن تنطفئ، وهذا الظمأ الكبير وتلك النشوة الصغيرة كيف يُمكن تحويل لحظاتها الى أبد أي إلى ديمومة، رُبما يكمُن المعنى بتلك الومضات والدفقات القصيرة التي تأتي على شكل اشاراتٍ أو علامات تُنبئ بعالمٍ آخر خارج العالم الطبيعي. تقولُ الشاعرة في نصٍ آخر:

يلقِي ا‏لحبُ خطبةً
‏حول أحقيَّةِ الجسدِ
‏بأن يكون له
مرفأ. (ص32)

ثمة ما هو أوسع من الرغبات الجسدية المُباشرة، إن الجسد يختزن في أعماقه عالماً أكثر شساعةً من الرغبات الحسية المُباشرة التي تحتاج إلى استكشاف، ويستبطن النص أيضاً حالة القمع الاجتماعي للرغبات الحسية ومُحاولات ضبطها وهو ما من شأنه أن يُعطِلَ إمكانية الاكتشاف لكن ثمة ما هو أعمق من الرغبات إنه الحُب كما تقول الشاعرة:
الحب تميمة تحمي (لا من الخُرافة) ص35

الحُب إذاً تميمة تحمي ليس من السحر والشعوذة ولا من الكائنات الخُرافية بل يحمي من الأمراض بشتى أنواعها، إنهُ التعبير الإنساني والاجتماعي والأخلاقي والجمالي المُتجلي في الطبيعة، تلك القيمة التي شكلت عُنصراً للحماية من القسوة والأنانية والحروب الابادية والحد منها ومن تفاقمها، وهو النقيض للغرائز المادية والمشاعر السلبية ومُناقض للأنانية والجشع والعُنف والاستغلال، وهو الذي يحمي الأُسرة من التفكك ويصون الذات من الانهيار ويمنع المُجتمعات من الاستغراق في القسوة والأمراض الاجتماعية، هذا الحُب الإنساني الموازي للغرائز الحيوانية المُنفلتة من عِقالها، هو تميمةٌ روحية مُغايرة وهو معيار إنسانيتنا وتفردُنا في الطبيعة كما تعتقد الشاعرة، وتواصل القول في نصٍ آخر:

الحب كأسٌ ينكسرُ
‏ليس قبل الثمالةِ
‏بل قبل الامتلاء.(ص44)

إن هذا النص يحملُ في طياته الظمأ والشغف لما هو أعمق وأبعد من رغبات الجسد ونيرانه التي تذوي وتنطفئ بعد أن ترتوي فيما الحُب لا يعرفُ الارتواءَ والشبع، يصِلُ الجسد الى حالة الشبع لكن الحُب لا يعرف الارتواء، لذا فهو قيمة روحية معنوية وليست جسدية ومادية، الحُبُ يصبو إلى ما هو أعمق وأوسع وأشمل وأبعد وأكثر ديمومة، إنه الظمأ الذي لا يكتفي ولا يعرفُ كيف يصل الى الثُمالة والذروة مثلما يصِلُها الجسد، فالحُب هو الزمن، ولذا نجد الشاعرة تصفه بالمُستعصي على الادراك:

لم تستطع أن تُدرك عمره
لأنه الزمن
هذا الحُب (ص49)

الحُبُ هو الزمن بأزليته وأبديته، ليس لهُ عمرٌ لأنه خارق وغير اعتيادي ويُشبه الزمن في استعصاء فهمه سبر أغواره وتقلباته وتقلباته، هو مثلُ الزمن غير ملموس ويسري في الكائنات، ومثلما هو الزمن مُلازم للمكان فإن الحب هو ما يجذب الوجود وسمةٌ من سماته، وتُحاول الشاعرة ادراكه من خلال الذوبان فيه والبحثِ عن عمقٍ في اللذة المُتجاوزة للحواس كما في هذا النص:

أُريدُ أن أكون التفاحة والسهم
وهذا التداخل يحدث. (ص65)

كيف يُمكننا أن نكون السهم والتفاحة في ذات الوقت، الفاعلُ والمفعولُ به، الذكر والأُنثى، السالب والموجب.. إلخ، بهدف الوصول الى النشوة المُضاعفة التي رُبما تصِلُ بنا الى محطةٍ أسمى لحظةٍ زمنةٍ عابرة، تود الشاعرة لو تُخلدها لتدومَ أبداً، وفي لُغة التصوف: الراح والروح، الكأس والخمر، الروح والجسد، كما يقولُ الحلاج: “

أنا من أهوى من أهوى أنا.. نحنُ روحان حللنا بدنا”.

إن رغبة الشاعرة في أن تكون السهم والتفاحة تنطوي على الرغبة في الالتحام الدائم، وإلغاء الثُنائيات والذوبان في اللحظة، وهي تُشبه ذوبان روح الصوفي بالمُطلق، وربما يعكسُ هذا النص في الـلاوعي الحنين للعودة الى الرحم، حيثُ الدفء وعدم الإحساس بالزمن والانطفاء التام للوعي، فهو يُشبه الموت الجميل الذي يكونُ أشبه بالغيبوبة المُنطوية على النشوة والسعادة.

لكن الشاعرة التي تحيا في مُجتمعٍ محافظٍ وتخشى التعبير عن أحاسيسها علانيةً تقول:

التعاليمُ ‏فزاعاتٌ
لدمِي،
‏لجسدِي،
‏لروحِي؛
‏لكنه الحب.
‏الذي يحرسُ السّرَ
يعرفُ الباب.‏ (ص72)

التعاليم أي الموروث التاريخي، الدين، العادات، التقاليد، المُجتمع الأبوي الذكوري.. إلخ، كلها عناصر رعبٍ للمرأة والرجُل على حدٍ سواء ولكنها أكثرَ قسوة على المرأة، التي تخشى التعبير عن ذاتها، ورغباتها وتصِلُ الى حد القمع والعُنف الجسدي وحتى القتل، غيرَ أن الحُب مسألةٌ لا يُمكن قمعها، فهي خارجة عن سُلطة التعليمات، إنه عالمُ المرأة ومُتنفسها الداخلي، حيثُ يكون بوسعها أن تكون حرةً بمشاعرها وأحاسيسها التي تتدفق في داخلها، فمن خلال الحُب، تعرف المرأة كيف تتمرد وتعيش سعادتها ولو في الخيال، بعيداً عن القمع والمُلاحقة، تعرفُ الحب وبواباته ودهاليزه السرية التي توصلها الى البهجة والنشوة والسعادة، وتُعيد التأكيد في نصٍ آخر على أن:

الجسدُ قشٌ مبللٌ؛
يُعلمنا الأنبياء
والحبُّ شَجرةُ كسْتناءٍ
تنبُتُ على غَفْلَةٍ من البُسْتانِيّ؛
يعلّمني جسدي
فكيف أُقدّمُ رغيفي للبحرِ؛ وأنْجو؟! (ص171)

الجسدُ خطيئةٌ كما يقول الأنبياء، وينبغي الزهد برغباته، وتجفيف غرائزه، والحد منها، والقش المُبلل كناية عن الغرائز الحسية التي تُعذب الجسد وتحرمه من النوم والراحة، غير أن الحُب خارجٌ عن السيطرة، وإذا كان الجسد يُمكن ضبطه وكبح غرائزه ليُلائم المُجتمع والثقافة والتعاليم، فكيف يُمكنُ ضبط الحُب الذي ينمو ولا يُمكن للبُستانِ (المُجتمع الذكوري) الذي يُقلم الرغبات ويجزُ الزهور والرقاب أن يقمعَ الحُب والمشاعر، وتُعبر الشاعرة عن هذا الخوف في نصٍ آخر:

ذئبٌ في خزانتِي؛ هو الحب
والمفتاحُ
ليس معي. (ص267)

الحُب هو ذئبٌ شرس، سيفٌ ذو حدين ذلك الذئبُ القابع في القلب والجسد، إنه جارحٌ ومُتوحش ومُتحفز للخروج والتعبير عن ذاته، غير أن الخزانة المُقفلة أي التعاليم والعادات والتقاليد التي تمنعه من الانطلاق، والشاعرة لا تملك الجُرأة على فتح الخزانة للذئب حتى لو تيسر لها ذلك، إنه الخوف الكامن وراء مُغامرة الحب، فهي تُدركُ أن الحُب قاتل وينطوي على المخاطر والمهالك، وليس من زاوية القمع الاجتماعي فحسب، وإنما هو أيضاً ينطوي على الخطر إذا أُطلق له العنان بلا أي ضبط، لأنه حساس ومؤلم، وفي حالة الفشل والأذى والدمار الذي يُخلفه الحُب فالمُفتاح كناية عن الخوف من القمع الاجتماعي والخوف من الأذى ونيران الحُب المُلتهبة التي تحرق الأخضر واليابس، وتترك الانسان في حالةٍ من الضياع.

ثم تأتي الشاعرة في نصٍ آخر لتُخبرنا أن الحُب مسألة مُستعصية على الادراك والاستحواذ والاحاطة، بعد أن خاضت تجربته ووجدته مستحيلاً:

أمسكتُ الحبَ واستعصى عليَّ (ص79)

بعد تجربة الحُب الحافلة بالاثارة، ذاقت الشاعرة طعمه وخبرته فوجدته كاسحاً مُمكناً جميلاً جامحاً شاهقاً، لكنه استعصى على البقاء، واستعصى عن القُدرة على الاشباع التام، حبٌ مُستعصٍ لا يعرفُ الارتواء.

وتُعبر الشاعرة عن الأسف والحزن والإحباط وهي تشهد تلاشي الحُب وموته وكأنه بات أثراً بعد عين حين تقول:

يمُر الحب هكذا بلا أثرٍ
كأنما الهواء (ص)272

هكذا ينتهي الحُب وكأنه هواء لا يُخلفُ أية أثر، كيفَ يُمكن لهذا الحُب الشائك والجميل الذي كان يجعلُ معنى للحياة، وبعد أن أشعل تلك الحرائق أن يخبو ويموت، كأنه لم يكن.
وتختتم الشاعرة ديوانها بهذا النص:

أيها الحبُ،
يندرُ أن تكونَ غائبًا
إلى هذا الحدّ عن قصيدتي
لكنك خلفَ كل كلمةٍ،
فليجربِ القارئُ
أن يقلبَ أحجارَ هذا النصّ
أو أن يسحبَ حجرَك
من هذا البناء. (ص274)

الحُب هو المُفردة الذهبية والكلمة السحرية الكامنة في نصوص الديوان، وهذا الحُب يُشبه حجر سنِّمار، الذي إذاً سُحبَ من البناء فإنه سينهار، وهذا الحُب يكمنُ في حروف كل كلمةٍ ويُشكل الروح لجسد هذا النص.

رابعاً: الزمن والاحساس بالوجود

تُحاول الشاعرة كما يبدو من نصوصها تأمُل الزمن، وذلك بهدف تعميق احساسها بالوجود، مُتجاوزةً التاريخ والثقافات والمُعتقدات، مكتفية بالزمن المُجرد، انها تتساءل في ذاتها عن معنى سرمدية الزمن، أي أزليته وأبديته، الأمر الذي يوصلها الى حافة العدم، لكنها تُعلن أنها لا تتقبل فكرة العدم إذ لا بد من معنى للوجود، فالعالمُ ليس سرمدياً، وإنما لا بد له من بداية، أي أنه حادثٌ بلغةِ الفلسفة، فنجدها تهتف:

ليست الهاوية إلا زمناً (ص13)

إن هذا النص ينطوي على فلسفات تُناقض بعضها بعضاً، فالهاوية أي الأبدية هي زمنٌ سحيق ليس له بداية أو نهاية، وفي ذات الوقت فإن للهاوية زمنٌ أي بداية ونهاية، وهذا النص الذي يأتي بصيغته اليقينية، يتحول إلى تساؤل بعبارةٍ أُخرى تنطوي على الشك، ولكنه أقرب الى الأمل في أن يكون للهاوية قعرٌ نهائي، الأمر الذي يعني ثمة معنى لهذا الوجود، وتقولُ في نصٍ آخر:

الحجرُ نردٌ يكتُب زمناً ص223

حجر النرد الساكن لا يكتُبُ زمناً إلا إذا تحرك، فتأمُلات الشاعرة ترفض فكرة الأزلية والأبدية وتُحاول أن تبدأ من الحركة كشكلٍ من أشكال المادة، والمادةُ هي مكانٌ وزمان، فلا مكانٌ بلا زمان ولا زمانٌ بلا مكان، والحركةُ ملازمة للزمان والمكان ولكن الحركة هي بداية أي زمن أي مجموعة أنوات، إذاً ثمة بداية لكل شيء.
ثُم تنتقل الشاعرة الى مُقاربةٍ أُخرى للزمن والوجود إذ تقول:

ليس في الجُّبَّة
بل فيه؛
يسيرُ في الزَّمن
كما يَقطعُ شارعاً،
يتحركُ تحت سماءٍ
والملكوت؛
هوَ. (ص175)

والشاعرةُ تستبطن ما قالهُ الحلاج: "ما في الجبة إلا الله"، وحسب هذا النص الحلولي لا يُمكن التمييز بين الظاهر والباطن وبين الذات والموضوع، فماذا قصدت الشاعرة حين كتبت هذا النص؟ ومن هو الذي يسير فيه الزمن أهو الجسد أو الوجود أو المُطلق، وربما أرادت تنزيه المُطلق من سريان الزمن واقتصار سريانه في الموجودات بما فيها الانسان.
ثم تنتقل خطوة أُخرى في مُقاربة الزمن حين تقول:

الزمنُ نيازكٌ تُقسمُ عليَ أن أتعرى مثلها ص213

الزمنُ في هذه الحالة عامل مُحايد وشفاف وليس تاريخاً بشرياً يرتدي الأقنعة والأكاذيب، فالزمن الكوني مُحايد ولا يحفل بنا وبتصوراتنا ومشاعرنا، والنيازك هي إحدى مُفردات الكون المُحايدة، التي تمضي بتلقائية وبلا مُبالاة وحيادية، لها بداية ونهاية، وهنا تُضيف الشاعرة:

الزمن ممحاةٌ،
من يمسكْها
يكتُبْ. (ص225)

الزمن بسرمديته وعبثيته زمنٌ بارد ومُحايد ليس له بِداية ولا نهاية، ولا يكتُبُ تاريخاً، وبالتالي فهو فراغٌ شاسع، ووحدها الطبيعة بكائناتها الحية بما فيها الانسان من استلت لحظات من الزمن لتكتُب تاريخاً، ولتضفي معنىً على الوجود، فحركة الكون كتابة، النيازك كتابة، تصادُم الكون، الثقوب السوداء، تَشَكُّل الطبيعة، امتشاقُ الحياة من العدم، تطورُ النباتات والحيوانات والإنسان.. إلخ، كلها تكتُب تاريخها على صفحة الزمن البيضاء.
وفي نصٍ آخر تقول الشاعرة:

فقاعاتٌ
تقدمُ تقريرًا للعدم؛
الزمن. (ص247)

الفُقاعاتُ تظهرُ على سطح الماء، ولا تلبثُ أن تنطفئ، فالفقاعاتُ تنطوي على زمن ولها عمرٌ قصير يذهبُ سُدى في الهواء ثم تستحيل الى عدم، فالكائنات الحية في الطبيعة أشبه بالفُقاعات التي لن يكون مصيرها سوى العدم، وهو ما يُذكرنا بما قاله الشاعر العربي ابن الحداد الأندلُسي:

الناس مثل حُباب والدهر لجة ماء
فعالم في طفو وعالم في انطفاء

والحُباب هي فُقاعات الماء، والدهر يُشبه النهر أو البحر، ثمة كائنات تولد وكائنات أُخرى تموت وتنطفئ كفُقاعات الماء، ثم تقترب الشاعرة خطوة لتأمُل الزمن البشري وزمن الكائنات وتقول:

الزمن نورسٌ يحلقُ فوق
صحراء،
إما أنه لا يرى،
أو أنه يقضي عقوبةً بالعدم.
وبعدين؟!
لا أرى من جثةِ الحياةِ
سوى يدِها
المتفسخةِ. (ص233)

الزمنُ أشبهُ بنورسٍ يُحلقُ فوق صحراءٍ شاسعة، زمنٌ إما أنه أعمى سرمدي ليس له بداية أو نهاية وبلا أية أهداف أو غايات، وإما أنه دائري يقضي عقوبةً في العدم كما في اسطورة سيزيف الذي يقضي عقوبة عدمية بعدما حكمت عليه الآلهة بحمل صخرةٍ والصعود بها الى قمة الجبل وما أن يُشارف على الوصول الى القمة حتى تتدحرج الصخرة وتهوي الى الوادي، فيعود سيزيف ويحملها ويصعد بها من جديد لتتكرر هذه العملية بلا نهاية وبلا أي طائلة، الأمر الذي يبعثُ على التشاؤم لدى الشاعرة التي لا ترى في الحياة سوى العبث والموت، وربما النهاية الحتمية في الطبيعة، واستحالتها الى جُثةٍ مُتحللة، ومن هنا لا ترى الحياة سوى عقمها وعبثيتها.

والشاعرة تتأمل الزمن البشري بماضيه وحاضره ومُستقبله، وفي النصوص التالية تُعبر عن الحيرة والتردد والشك:

غدًا هو الأمس،
لكنه بلا أبوابٍ ‏و‏بلا سقفٍ
أيضا،
لنقلْ أن ‏للغيبِ
عملًا دائِماً‏. (ص64)

ينضوي هذا النص على فكرة دائرية الزمن، فالغد والأمس والماضي هو الحاضر والحاضر هو المُستقبل، لكن المُستقبل لا يُمكن ادراكه وسيظلُ مشرعاً على كل الاحتمالات ولكن في اطار دائرية الزمن مثلما قال الشاعر: طيظلُ يجيء الذي قد مضى.. لأن الذي سوف يأتي ذهب".

لكن الشاعرة ليست قدرية في هذه الرؤية، وإن كانت في هذا النص تبدو مُؤمنةً بجبرية الوجود، ونجدها تُعبر في نصٍ آخر عن هامش للحرية في رفض هذه القدرية حين تقول:

المستقبلُ كاذبٌ كالماضي،
ما أعرفُه
أنني ما زلتُ
استجوبُ الحاضرَ
عن الخطأ الذي اقْتَرفَهُ الغيبُ
حين أجرَى قِسمتَهُ
وهو يرتدي
عصابَة.(ص 119)

يأتي هذا النص تحديدا بعد نصٍ في ذات القصيدة يتحدث عن الظلم الذي تتعرض له النساء في التاريخ، وهو بالتالي يأتي بصيغة احتجاج على استمرار هذا الظلم الذي بات قدراً على النساء وحدهن، ثمة لحظة تاريخية انقلابية اجحفت بحقوق المرأة وحملت الثقافات والمُعتقدات، وكلُ ما من شأنه أن يُعزز هذا الاجحاف، إذاً الماضي كاذب والمُستقبل هو استمرارٌ لذات الكذب، فالشاعرة تتأمل الحاضر وما حمله من موروث مُتخلف جرى إلفاقه بقسمة الغيب أو الشرع أو سُنة الله في كونه، فعقلُ الشاعرة وضميرها لا يستوعب هذا الاجحاف وهذه القسمة الظالمة، وبهذا فهي تُخالف النص السابق في قدريته وتحتج على هذا الاجحاف وهذا الخطأ الذي صورته الشاعرة وكأنه اختيارٌ عشوائيٌ عبثي، بعبارة أُخرى ترفض الشاعرة من ناحية منطقية وعقلية وضميرية التسليم بأن الغيب هو صاحب هذه القسمة الظالمة، ولا بد أن الخطأ وقع بفعل عوامل تاريخية.
ثُم نجدها في نصٍ آخر تُعبر عن احباطها من الزمن الحاضر حين تقول:

وليمةٌ منذُ أيامٍ
على طاولةِ عجوزٍ أدرد؛
هذا الوقتُ
الأشجارُ تهاجِرُ بلا أقدَامٍ،
والحاضرُ ثُقبٌ أسودٌ؛
علَّمنِي الزمن. (ص169)

زمن الحاضر هو الفوضى واللهاث وراء الأضواء والرغبات، إنه زمن العولمة المُتوحشة الذي تعيشه الشاعرة بملئ حواسها وما ينطوي عليه هذا الحاضر من فوضى وسرعة وعشوائية، الكبير يبتلع الصغير، السريع يبتلع البطيء، والقوي يأُكل الضعيف، إنه عصرُ الاستهلاك والنهم وجشع والاستغلال، حاضرٌ أشبه بالثقب الأسود الذي يبتلع كل شيء، الماضي والموروث والقيم والتاريخ وربما يبتلع المُستقبل، فهو حاضرٌ أعمى والبشر يلهثون وراء المكاسب والشهرة والأمجاد والثروات، ثُم تواصل هذا التشاؤم بالقول:

نأيتُ،
لكنني لا أستطيعُ أن أغيّرَ
الحاضرَ
أو أُصرِّفَ الزمانَ الآتي.
الماضي كرةُ اللّهبِ
التي لم تزلْ ...
تعبتِ السيدةُ التي تكتبُ
على ظهرِ الفراغِ
أغنيةً؛
لا يحفظها. (ص227)

ليس بالوسع الإمساك أو التحكم بزمام الحاضر الجامح والمُنفلت من عقاله، والانسان يعيش في هذا الحاضر ويغرق في دوامته ويذوب في ثُقبه الأسود، ولا شيء غير الاستسلام لهذا المصير، والمُستقبل غامض يبعثُ على التشاؤم لأن الزمن الماضي هو كرة النار أي أنه هو الذي حمل شرارة النار التي تُشعلُ الحاضر وستحرق المُستقبل، وكأنها تقول أن الواقع البشري يحمل في أعماقه بذور فنائه.
وتصل الشاعرة الى قمة تشاؤمها حين تقول:

الجسدُ الذي يُغطى
ينطفئ،
والماءُ الذي في قِربَتي
لم يعتدِ الظلامَ.
أَوراقٌ خضراءٌ في حُلُمِي
والمستقبلُ جنينٌ ميت. (ص216)

رغم الأحلام الخضراء والوردية، إلا أن المُستقبل يبعثُ على التشاؤم وهذا العصر الذي نعيشه سيقود البشرية الى الاندحار والموت، وفي نصٍ آخر تُعبر عن تشاؤمها من الوجود إذ تقول:

الرغبَةُ
قاربٌ يبحرُ في صحراءَ،
والعتمةُ تشُدنِي من ياقتِي
لتقنِعني
أن ‏الطحالبَ‏ ‏والأصدافَ ‏والرملَ
‏والأسماكَ الميتةَ
‏ذاكرةٍ؛
أيضًا.(ص33)

إن الرغبات الذاتية وإرادة الحياة والتوق الدائم لتحقيقها وبالتالي الهروب الى الذات لا يحل الإشكالية الوجودية، لأن هذه الرحلة أشبه بقارب يُبحر في صحراء من العبث، لأن من يتأمل الوجود والحياة على الأرض بنباتاتها وحيواناتها واسماكها وبشرها كلها كانت لها حياة وذاكرة وتاريخ ورغبات ولكنها انتهت وتحولت الى تراب، وهذا النص يُشبه ما قاله عُمر الخيام في إحدى رُباعياته:

كل ذرَّاتِ هذه الأرضِ ... كانتْ أَوْجهاً كالشموس ذاتَ بهاءِ
إجلُ عن وجهكَ الغُبار برفقٍ ... فَهْوَ خَدٌّ لكاعبٍ حسناءِ

وفي النص التالي تتمثل الشاعرة الأزمنة الإنسانية الماضية في محاولةٍ لتعميق احساسها في الوجود فتقول:

على جدرانِ كهوفِ تاسيلي
طبعتُ يدي
التي تسلمُ عليك
الآن. (ص213)

وكهوف تاسيلي هي سلسلة كهوف على الحدود الجزائرية الليبية وُجدت على جدرانها مجموعة من النقوش لحضارة قديمة قبل حوالي 30 ألف سنة، وتمثلت الشاعرة الكف المطبوعة على جدران هذه الكهوف والتي هي كفُ امرأة، وكأنها إشارة أو رسالة أو محاولة لمصافحة يد في المُستقبل البعيد، والشاعرة من خلال هذه المُقاربة تُحاول ان تختزل الزمن فهي التي كانت الان في الماضي هي التي طبعت يدها كبصمةٍ أو اشارةٍ أو رسالةٍ للمُستقبل الذي هي فيه الان إلخ. كل هذه الاحتمالات دارت في خلد الشاعرة، فكانت الان هي تلك اليد التي من الأزمنة السحيقة، وفي ذات الوقت ينطوي هذا النص على مأساوية الحياة وربما على المعنى الكامن في تلك الإشارة.

خامساً: المعنى

يمكننا القول أن نصوص هذا الديوان هي بمثابة البحث والتقصي وسبر أغوار الوجود بحثاً عن المعنى الكامن في الظواهر، وفي أثناء هذا البحث تسعى الشاعرة لأن تحيد عن الوقوع في هاوية العدم، لذا نجدها تقول:

‏تقتضِي الحكمةُ أن تحملَ إلهك
معك،
‏و‏حقيبتُك ‏لا تتسعُ
‏إلا لمنفَاك. (ص48)

تقتضي الحياة أن نؤمن بالمعنى، لأن الوجود لن يكون عبثاً، هذا من زاوية، ومن زاوية أخرى لا يمكن للحياة الإنسانية أن تستمر بلا غايات وأهداف نبيلة، ينبع الإيمان من معنى الحياة، وإلا فإن عبثية الحياة تقتضي العدم، الأمر الذي يحيل الإنسان إلى الشعور بالمأساة الدائمة.
إن حمل فكرة الإله - أي المعنى - من شأنها أن تحدث استقراراً في الحياة الإنسانية، فالحقيبة هي رحلة العمر الّتي لا يمكن أن تنتهي في العدم والمنفى الأبدي، والايمان بالإله يعني أن ثمة عدم للوجود.

والشاعرة أثناء تأملها في الوجود لا ترى غير الدائرة: الحزن، الزمان، المكان، السماء، المساء.. الخ كما في النص التالي:

كل شيء دائري سواك (ص76)

اذا كل شيء دائري سوى الله أي المقدس أو المطلق والتصور الدائري للوجود نجده في الفلسفة والتصوف وفي بعض الأديان وأيضاً في لغة الشعر وفي المعتقدات الطاوية وعلى لسان لاوتسي الذي يقول: "الامتداد بلا نهاية يعني العودة إلى نقطة البدء"، وفي التصوف الاسلامي لدينا العديد من العبارات الصوفية التي تعتقد بدائرية الوجود، حيث يقول ابن عربي: "دائرة الوجود أولها حب واحتراق وآخرها حب وتلاق"، وأيضا يقول: "الكل يخرج من المركز والكل يعود إليه" أما الجيلي فيقول: "واعلم أن أبده هو عين أزله وأزله عين أبده"، وهذا ما تعتقده الشاعرة في كل شيء الاه.
وفي نص اخر تقول:

أرني وجهكَ كيما تنجوَ
من الصحوِ؛
سكرتُنا.
مروركَ يكفي كي أصدقَ
خرافتي، وأنجو
ربما،
من فكرةِ العدم. (ص102)

إن ما يخالج الشاعرة من شكوك وما يخطر بذهنها من تصورات يكاد يخالج كل إنسان يسعى دائماً لمعرفة المزيد من الحقائق والدلائل التي من شأنها أن تقضي على شكوكه وهواجسه، فالإيمان يشبه سكرة الصوفي وان الإيمان من شأنه أن يبعث العزاء والأمل والنجاة من العدم، والشاعرة في هذا النص تبدو متأثرة ومستبطنة لعدد من الآيات القرآنية كما في الآية (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) البقرة 260،وأيضاً كما في الآية التالية (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ)الأعراف 143.

في محاولةٍ للتّحايلِ على
ما أعرفُهُ
ولا أريدُ أن أقولَهُ
أخلقُ تناظراً بين الفراغِ والعبثِ
ومن أجل الكثيرِ من الإيقاعِ
أَرمي حجراً في بئرِ العدمِ
لأقيسَ آخرَهُ. (ص178)

إن هذا النص يلخص كل محاولة انسانية في التاريخ لإضفاء المعنى على الوجود، فالكتابة عن المجهول تنطوي على المُقاربة بين المطلق والمقدس وإعادة إنتاجها من جديد، والشاعرة تريد التحايل على المعتقدات والمعارف والالتفاف على ما هو أعمق وأبعد، لكنها تخشى التصريح بهذه الرغبة بصورة علنية، فهي ترغب بقواها الفردية ووعيها الذاتي بالوصول الى الحقائق المجردة، وخلق التناظر هو البدء من البداية أي التجرد بماهية المعارف أو المعتقدات، لأنها ربما بغموض بعض احكامها ومقارباتها لم تقنع الشاعرة بل وعززت لديها الشك، وبهذا تريد ان تجرب وتضع الفراغ والعبث في ذات الكفة، وتجرب فكرة العدم للوصول الى المعنى والسقوط الى الهاوية لبلوغ القمة، وتجربة المدنس للوصول الى المقدس ..الخ، لذا فهي تسعى الى التجربة، ولا تخاف الاختبار والاستغراق في التجربة والتأمل، والبحث عن المعنى في الـلامعنى، والحقيقة في العدم، والحضور في الغياب، وبالتالي معرفة الشيء من خلال نقيضه.
انها تُضيف قائلةً في نصٍ آخر:

لم أغلقْ سرّتَي بالماء كالبحيراتِ
ولا قطعتُ الحبلَ السُّريّ
مع الفَراغ.
أعرفُ الجذورَ
لا الأغصان. (ص212)

والشاعرة التي لا تزال مستغرقة في تأملاتها، لم تكتفِ، ولم تُطفئ نار ظمئها ما جاءت به الأديان والمعتقدات، ولم تقطع شكوكها باليقين، لكن احساسها الوجودي ينبئها بأن ثمة للوجود بداية ولحظة خلق، والكون أكبر وأعظم من معتقداتنا ومعارفنا المحدودة، فهي تعرف الجذور والبدايات السحيقة، ولا يهمها الظاهر، بل كل ما هو كامن وغير مرئي.
لكن الشاعرة لا تزال في حيرة وتعتريها الشكوك كما في النص التالي:

أردتُ أن أكتُبَ: ورقة جافة ،
فكتبتُ: زرقة جافة ،
الكثيرُ من الأشياءِ الصحيحةِ
تحدُثُ مصادفة
أو؛ لا أدري. ( ص215)

تبدو الشاعرة مختبئة وراء المجاز، وخلف ستار كثيف من الدخان، فالزرقة تعني السماء التي لم تنبئ بالحقائق الشافية، وأن ثمة كثير من المصادفات تحدث كما الحياة وتطورها في الطبيعة، لكنها تشعر بالعجز عن المعرفة التامة والحسم، ثم تستدرك بالقول:

الجسدُ الذي يُغطى
ينطفئ،
والماءُ الذي في قِربَتي
لم يعتدِ الظلامَ. (ص215)

إن ما أرادته الشاعرة في هذا النص هو التعبير عن إرادتها الواعية والحرة التي تبحث عن الحقائق ولا تعرف الاختباء، فهي تمتلك الجرأة على قول ما تعتقده، انها حرة التفكير والاعتقاد، وهو ما يذكرنا ببيت الشعر الذي يقول: "دنياك نوراً ولكنه ظلام يحار**"
والشاعرة لا تكف ... كما في هذا النص:

عليك أن تستجوِبَ الوقتَ إذاً،
أو أن تُقِرَّ أنها طريقةُ الله
في أن يدفع هذا الكوكبَ
إلى الدوران،
بينما الأشياءُ تسقُطً! (ص257)
ونحن، اما ان نبحث ونتقصى وندرس للوصول الى الحقيقة، واما ان نستسلم بصورة قدرية لما تنتهي به الظواهر الكونية، لأنه يمكن الا تنطوي على المعنى وراء هذه الظواهر.

سادساً: العدم

أما الوجه الآخر للمعنى فهو العدم. عبرت الشاعرة في نصوصها عن بعض مظاهر العدم لكنها لم تسمح لنفسها الوقوع في هاويته، حيث أبقت نفسها على الحافة ومع ذلك نراها ترفع صوتها في الأسئلة، وتبحث عن إجابات شافية، تقول الشاعرة:

‏الزَّقورةُ خاليةٌ؛
الإلهُ خارجَ بيتهِ دائما.(ص52)

والزقورة هي معبد سومري له درجات ترمز للصعود الى السماء، وكأن الشاعره في هذا النص تعبر عن عدم اكتفائها بما جاءت به المعتقدات والأديان، فهذه الزقورة تختصر بيوت الالهة في الديانات والثقافات، والتي في كثير من الأحيان كانت مكانًا لاقتراف الآثام وتكرير المخالفات باسم الالهة، وهذه البيوت التي كان من المفترض ان تحوي في داخلها كل ما حملت الالهة من سمات خيرة، تجدها خالية من الاخلاق والرحمة والمصداقية وهي التي يفترض ان تُعبر عن المُقدس، فالشاعرة تبحث عما هو أعمق من مجرد معابد وهياكل وكنائس ومساجد وطقوس وصلوات وشعائر.

ثم لا تلبث الشاعرة ان تنطلق في نصوصها لسبر الوجود الشاسع الذي ينطوي على العدم، ما لم يجرِ تفكيك ألغازه، وتقول في أحد النصوص:

‏ليس للغابةِ بابٌ، (ص62)

إن الغابة هي العالم والكون، عالم يفتقد للبوابة الزمانية والمكانية، انه عالم سرمدي من حيث الزمن وشاسع لا تحده حدود في المكان والحيز، وقد تكون الشاعرة قصدت بالغابة المجتمع الإنساني الذي يستعصي عليه إيجاد الحلول المفاتيح الروحية والأخلاقية بإشكالياته الكبرى، وبقيت القيم والمبادئ معطلة، ولم تصل بعد لقيم العدل والمساواة والحب، وبقي مرتعاً للذئاب كما في النص الذي يليه:

‏و‏الذئبُ الذي يغادرها
‏يحُّكُ بالأشجارِ
‏جسدَه.(ص62)
والذئب هو كناية عن الظلم المتفشي في المجتمع الإنساني، وكم عرف التاريخ من ذئاب ارتكبت الموبقات والشرور والجرائم وغادرت الحياة من دون أي حساب وكانت هي المنتصرة دائماً بعد ما خلفته من جرائم وحروب ومذابح، وكأن قدر عالم الإنسان أن يظل غابة تردع فيها الذئاب الأمر الذي ينطوي على عبثية الوجود الإنساني وافتقاده للمعنى.
وتواصل الشاعرة إلى مربع آخر حين تهتف:

‏المسافاتُ‏؛
بقعةُ حبرٍ ‏تتفشَى
‏أو لوحٌ يعومُ‏
في لحظة.(ص62)

وهنا تبدو الشاعرة متأثرة بالفلسفات المادية والعلوم الطبيعية، فهذا الكون الشاسع الذي ينطوي على المسافات ويعوم في الفراغ ويتسع على الدوام وليس له بداية ولا نهاية، وهذا الكون الواسع يعوم في الزمن السرمدي وليس بوسعنا سبر اغواره، ومعارفنا ستظل محدودة بادراكه، فكوكبنا مجرد ذرة رمل في هذا الكون وشمسنا مجرد نجم بين مليارات النجوم في المجرة ومجرتنا واحدة من بين مليارات المجرات في الكون وكوننا واحد من اكوان لا حصر لهاـ اما نحن فلسنا أكثر من ذرة من غبار في صحراء الكون، الامر الذي ينطوي على عبثية حياتنا ومعتقداتنا القاصرة وتصوراتنا الساذجة.
ثم تستدرك في نص اخر:

المسافاتُ(‏وحدها)
لم تعدْ (تقرر). (ص69)

وهذا النص الذي وضعت الشاعرة بعض كلماته بين اقواس يحمل اوجهاً مختلفة ومتعارضة، فإما أن المسافات وحدها تقرر أن ثمة معنى للوجود ام انه يفتقد للمعنى واما ان هذه المسافات لم تعد وحدها تقرر وبالتالي فان ثمة ما هو ميتافيزيائي يقرر ويحدد المعايير الوجودية في هذا الكون.
وتقول في نص اخر:

بحرٌ؛
‏لا يستطيعُ ‏أ‏ن يغادر(‏كأسه)‏؛
‏(‏و‏أنا).(ص68)

هذا البحر كناية عن الجسد، الإنسان، الذات الإنسانية، الوعي، كوكب الأرض.. الخ، لا يملك القدرة على تجاوز ذاته وبلوغ أكثر من حدوده، وفي هذا النص- حيث تبدو الذات موضوعاً والموضوع ذات الذات والإجابة تكمن في السؤال والسؤال يغدو اجابةً غامضة- فإن الذات التي تأتي بصيغة أنا هي (سؤال الأسئلة)، وبكل ما تنطوي عليه من غرائز ورغبات وأحلام وتمنيات وهواجس واشكاليات واحساس ووعي وهذه الذات الحية والميتة التي تختصر الذات الإنسانية عموماً وادراكها لذاتها ومأساوية وجودها واغترابها وهو ما يذكرنا بما قاله جلال الدين الرومي: "لست أدري من أنا"، وهذه الذات الضائعة والمغتربة لا تملك القدرة على الإجابة عن سؤال الوجود كما عبر عن ذلك الشاعر عمر الخيام بالقول: "ليس لهذا العالم ابتداء يبدو ولا غايه وحد ولم اجد من يقول حقا من اين جئنا وأين نغدوا"
ونجد الشاعرة تعبر عن هذه الحيرة والاغتراب وربما التشاؤم كما في النص التالي:

لم يذهبْ أحدٌ إلى الصّحراءِ
سوى السَّرابِ،
ولم يَعدْ منْها
سواي.(ص145)

وكأن الوجود الإنساني في هذا الكون مجرد وهم او حلم او سراب، وكلما تعمق الانسان في بحثه عن المعنى، كلما زاد حيرةً واغتراباً وشقاءً، وكما يقول الشاعر مظفر النواب: "ويزيدك عمق الكشف غموضاً.. فالكشف طريق عدمي".

كما اننا نجد الشاعرة تعبر عن هذا الارتباك مقاربة الذات بالموضوع ومواصلة الإشارة على الابهام والغموض الذي يكتنف الوجود كما في النصوص التالية:

‏في الليلِ،
‏لا سبيلَ لتمييزِ البحرِ من
اليابسةِ
‏هكذا ‏(يبررُ واحدُنا)‏ الغرق. (ص68)

في الليل يتعانق جسد اليابسة مع جسد البحر وجسد الذكورة بالأنوثة، وفي عتمة الليل الدامس، يصعب التمييز بين الأشياء، فالألوان تتشابه كلها في الظلام، ووحده نور الحقيقة من يعيد التأكيد على الوجود والتمييز بين الظواهر، أما في الليل والظلام والعماء انما ينطوي على الأبدية والعدم.
ثم نجد الشاعرة تستدرك قائلة:

لو كان الأبدُ امرأَةً
ربّما يكفَّ الكونُ
أن يكونَ اكواريوماً صَغيراً
تسبحُ فيه أسماكٌ ميتَةٌ
ومياهٌ عمياء! (ص170)

ان هذا النص يعكس اهم الهواجس الإنسانية المرتبطة بالفناء والموت والجدوى من الحياة طالما تنتهي بالموت الابدي، وهذه الأبدية المنطوية على العدم لو كانت انثى، لكان بوسع الوجود أن يبقى حياً وينطق بلغة القلوب، ولكان بوسع الأنثى أن تواصل الولادة ونثر بذور الحياة في هذا الكون، غير ان الابد لا يعني سوى الموت، فنجد الشاعرة تهتف بالقول:
الأَبَدُ فيها،
لهذا تَتَفَسَّخُ الكَائِنَات (ص224)

وتعيد التأكيد على هذا التشاؤم بالقول:

لا أرى من جثةِ الحياةِ
سوى يدِها
المتفسخةِ. (ص243)

اذاً لا شيء سوى الفناء والعدم ولا شيء ينجو من الأبدية كما في هذا النص:

الدخانُ الذي يصعدُ من
سيجارةِ صديقي،
وجبةٌ للعدم.ص270

وتبلغ ذروة هذا التشاؤم والشعور بعبثية الوجود كما في هذا النص:

أنا الفراغُ الذي يمتلئُ
بذاتِه. (ص224)

وكأن الشاعرة تقول أن الوجود يحمل بذور فناءه، في ذاته وان العبث والعدم هو الوجود الذي يفتقد الى أي معنى، غير أن ثمة من ينجو من الموت في هذا الوجود، انه الزمن وحده الخالد ولا يعرف الفناء كما في النص التالي:

يحفرُ جذعَ الزمنِ،
لكنه بلا منقارٍ
طائرُ العدم. (ص271)

هذا الزمن السرمدي هو المستعصي على الموت والفناء، انه يشبه الدولاب الذي يتقلب كل شيء فيه، ويتغير ويمضي ويلد ويموت، ويبقى الزمن وحده الخالد في هذا الوجود.

وتعود الشاعرة لذاتها وهي تستشعر هذه المأساوية الوجودية لكنها تحيا وتمتلك الحرية وفعل السخرية في قلب هذه التراجيديا حين تقول:

لمْ أترُكْ ضفيرتي ليدِ العدمِ
بل قصصتُها.
لمْ أتعلمِ الكتابةَ،
بل المَحْو. (ص211)

لا تمتلك الشاعرة الا التحايل على الحياة وعبثتيها بالسخرية ومجاراتها والاستمرار في تفاصيلها والانهماك في لعبتها وهي تغذ خطاها نحو الغياب الابدي، فتهتف مثقلة بالأسف والحزن والسخرية:

مساءٌ آخرٌ أيتها اللحظةُ،
هناك مسافرٌ أخيرٌ
لحافةِ الغياب. (ص272)

مساء آخر يوم آخر عام آخر نحياه ونحن نغذ خطانا الى عالم الغياب الابدي، ولا نملك ادنى احتجاج او قدرة على تغيير هذا القدر، غير ان الشاعرة حافظت على ذاتها من الوقوع في هاوية العدم، ولا تزال تتشبث بالأمل، لأن ثمة ضوء في نهاية النفق المظلم، ولا تملك الا الاحتجاج على غياب المعنى، فنجدها تعبر عن ذلك كما في هذا النص:

أن العبثَ الذي أراهُ وأكتُبهُ؛
غيابك .....124

وبهذا فان الشاعرة تعلن عن احتجاجها على غياب المعنى وفي ذات الوقت تستشعر في اعماقها ليس الحاجة إلى وجود المعنى فحسب وانما واجب وجوده.

********

كانت لنا هذه الوقفة المطولة مع ديوان (كتابة في الصمت) للشاعرة" نداء يونس" الذي يحمل في طياته الكثير من النصوص التي تحتاج الى الدراسة من زوايا مختلفة.

ان هذا الديوان هو تحفة أدبية يمتاز بالعمق وتحمل نصوصه بذوراً واعده لتطور الشعر العربي بالشكل العام، والفلسطيني على نحو خاص، الأمر الذي يستدعي الاهتمام بهذه الشاعرة وبغيرها، من زاوية نشر هذه الكتابات على نحو واسع، لتحظى بالنقد الملائم الذي يليق بهذه النصوص، لاسيما ونحن نواجه ثقافة احتلالية عنصرية تسعى الى طمس ابداعنا ومبدعينا، واعاقة أي تطور من شانه ان يضيف الى مسيرتنا التحررية.

واذا كانت هذه النصوص لا تعكس الواقع الذي يعيشه الانسان الفلسطيني تحت الاحتلال، الا انها تبرز وجها جميلاً في الادب فلسطيني الذي يتحدى ويمتلك القدرة على الابداع رغم ما يواجهه من تحديات على كافة الأصعدة.

ونداء يونس هي شاعرة بالفطرة، لكنها ليست مُتفرغة للشعر وإلا لكان بوسعها أن تُتحفنا منذُ مُدةٍ طويلة بمزيد من القصائد والاصدارات الشعرية ولكانت نصوصها منظومة بالحلقات في سلسلة شهرية مُكتملة.

لا نملك الا توجيه التحية لهذه الشاعرة المُبدعة ونتمنى لها المزيد من التقدم والابداع.