الثلاثاء: 26/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

الدكتور حسن عبد الله في دراسته: "ثقافة الإرادة وإرادة الثقافة"

نشر بتاريخ: 04/02/2020 ( آخر تحديث: 04/02/2020 الساعة: 19:00 )
الدكتور حسن عبد الله في دراسته: "ثقافة الإرادة وإرادة الثقافة"
كتب: جهاد أحمد صالح
الثقافة بمفهومها العام، هي نتاج إرادة تؤسس لثقافة أكثر تطوراً من مرحلة إلى أخرى، فعندما صار بمقدور الإرادة الثقافية تقديم نتاجات ثقافية وإبداعية أنتجت ما يمكن تسميته بثقافة الإرادة لتنتج بدورها إرادة متجددة في إطار ثقافة عميقة ممنهجة.
يقول الدكتور حسن عبد الله في مقدمته للدراسة: "نحن أمام مشهدين أنتجتهما التجربة الفلسطينية: الأول أن الإرادة الفردية والجماعية جسّدت ثقافة. والثاني أن الثقافة التي تجسدت شحذت الإرادة من جديد وجعلتها إرادة لا تستند إلى القوة فقط، وإنما أيضاً إلى التخطيط والرؤية بعيدة المدى التي لا يمكن أن تتجلى فعلاً تطويرياً بمعزل عن ثقافة عميقة".
ولأن ما تحقق كنتاج لجدلية العلاقة التفاعلية بين الذاتي والموضوعي، بين الذات والوجود الاجتماعي في التجربة، هذه الرؤية والذات، هي ما دفع وزارة الثقافة الفلسطينية إلى تبني هذه التجربة بكل أبعادها: النضالية، والفكرية والثقافية، والإبداعية، والإجتماعية، والأخلاقية والأمنية، بما قدّمه الدكتور حسن عبد الله من التاريخ والتوثيق والتحليل حول تجربة رائدة في إطار منهجي نقدي، من حقنا أن نفاخر بها في تاريخ نضالنا الفلسطيني، فأصدرت الوزارة هذا الكتاب في بداية هذا العام فيما يقارب الخمسمائة صفحة، لمجموعة من الدراسات الأكاديمية المنهجية لتجربة بعيدة كل البعد عن الانحياز العاطفي التضامني مع قضية الأسرى العامة، ليضع لنا رؤية نقدية أكاديمية أبرز من خلالها الإيجابيات كما سلط الضوء على الثغرات ليصل إلى توصيات في نهاية كل دراسة فرعية.
قسم المؤلف إصداره بخمسة أقسام، تتفرع إلى عدّة عناوين، لم يجر التطرق لها، من قبل الباحثين والمحللين لهذه الظاهرة النضالية من قبل.
حيث تناول القسم الأول "الرسالة في تجربة المعتقلين" عائداً إلى عدّة سنوات يُمحّص خلالها، ويدقق رسائل المعتلقين ويصنفها بين الاجتماعي والتنظيمي والنضالي والأدبي الابداعي والتربوي والأخلاقي في إطار التعامل مع السياق التاريخي، لتطور الرسالة وميادينها، مصنفاً إياها الأولى من نوعها على الصعيد الفلسطيني.
وتناول القسم الثاني "تجربة التعليم الذاتي للمعتقلين الفلسطينيين – إصدار المجلات والنشرات – أنموذجاً"، مؤكداً أن المعتقلين قد شقوا تجربة تعليمية فريدة من نوعها تراوحت بين المنهجي والثقافي العام من خلال "المشاركة الجماعية الحوارية" على رأي الباحث الاجتماعي "باولو فريري" تخرّج من هذه التجربة مئات؛ بل آلاف من المثقفين والمتخصصين، فمنهم من دخل المعتقل أمياً لا يعرف القراءة والكتابة، وخضع لبرنامج محو الأمية في الاعتقال ثم إلى منهاج التعليم الابتدائي والاعدادي والثانوي، كما حصل مع المعتقل "فهد أبو الحاج" الذي أتقن بعد ذلك كتابة المقال ثم البحث، وعندما تحرر من الاعتقال التحق بالجامعة ليكمل دراسته إلى رسالة الدكتوراه.
ويعدّ القسم الثالث "الصحافة العبرية في تجربة المعتقلين الفلسطينيين" من هذا الإصدار من الدراسات شديدة الأهمية؛ بل أشدّها، لعدّة أسباب منها:
أولاً: لأنه تناول تجربة لم يتطرق إليها أي باحث من قبل.
الثاني: لأنه بحث في قضية ونقيضها، إذ، كيف يمكن لمعتقل فلسطيني أن يستخدم صحيفة سجّانه لمعرفة ما يدور حوله، بعد ترجمة وتحليل وغربلة، من تطورات وأحداث.
وقد أجاب الباحث من خلال تجربته الاعتقالية الطويلة، وإخضاعها لعملية بحث نقدي منهجي دقيق، على هذا التساؤل آخذاً بعين الاهتمام عاملين أساسيين: الأول، أن المعتقلين انتزعوا الموافقة على إدخال الصحف العبرية، كمطلب أساسي من مطالبهم في إضراب معتقل "نفحة" في العام 1980م، الذي استشهد خلاله ثلاثة مناضلين؛ أي بمعنى أن الاستجابة لهذا المطلب، نظراً لأهميته، قد تم تحقيقه في إضراب طويل، وبنضال وكفاح وتصميم المعتقلين، والثاني. أن الباحث قد تعامل مع هذه القضية، مع أدوات بحثية علمية، أخضع التفاعل معها من خلال استبانه وزّعها على مجموعة من المعتلقين الذين أتقنوا اللغة العبرية في الاعتقال، وعملوا في الترجمة عنها، مبرزاً النتائج التي كانت في غالبيتها تؤكد الاستفادة من هذه الصحف، ودراستها، وغربلتها، على اعتبار أنها وسيلة من وسائل المعرفة.
ويبدو أن الباحث الدكتور حسن عبد الله، قد وطّد نفسه لإغناء هذه التجربة، وتعامل مع أدوات بحثية علمية، مكّنته من التقدّم بها لنيل درجة الماجستير من جامعة القدس، وحصل على تقدير امتياز لهذا الجهد الفريد والمبذول فيها.
وتناول في القسم الرابع من دراسته موضوعاً مهماً جاء بعنوان "علاقة الفرد مع الجماعة في تجربة المعتقلين" والتي يمكن اعتبارها دراسة نقدية بامتياز، لأنها تناولت في أساسها موضوعاً مهماً وحساساً.
فقد بيّن الباحث كيف تشكلت الجماعة في الاعتقال، حيث كان الفصيل أو مجموعة الفصائل تحتضن الفرد الجديد، المرتبك، المتردد، لا يعرف أين يتجه في علاقاته، فيتقدّم من الجماعة المعنيين ويقدّمون له الحماية، والدعم النفسي والاجتماعي، كما تقوم بتثقيفه وتطويره، وتقوم الجماعة بتأطيره وإخضاعه إلى قوانينها وتوجيهاتها، وتحذيره من الاختراقات الأمنية، حيث يبقى الفرد تحت رقابة دائمة من الجماعة، حتى تطمئن له فيدخل دون أن يدري إلى عالم الجماعة.
وفي الشواهد الكثيرة التي قدّمها الباحث في هذا المجال، يمكننا القول إن الجماعة شكّلت للفرد حضناً دافئاً، وعصا غليظة في آن، فهي تحتضن الفرد وتحميه، وتقمع بقوة حالات الاختراق الأمني.
أما القسم الخامس، والأخير من الدراسة فقد جاء بعنوان "أعلى درجات الاستثمار في الاعتقال وبعد التحرر" سلّط خلالها الضوء على عدد من الإصدارات التي كتبها معتلقون، خلال فترة الاعتقال وبعد التحرر، شملت الغالبية العظمى من النتاجات في فروع الأدب والفنون، مستعرضاً العناوين وتحليل المعطيات وتدعيمها بالأمثلة والاقتباسات على مدى سنوات الاعتقال، اتّسمت بالمعطيات التالية:
أولاً: شهدت العلاقة المعقّدة بين معاناة الاعتقال وتقييد الحريات للفرد والجماعة على حد سواء، مع السياسة العامة بإدارة الاعتقال الممثل "بإدارة السجون".
ثانياً: أثبت أنه كلّما ارتفع المنسوب الثقافي للجماعة، خفف من ضغوطها على الفرد.
ثالثاً: اختلف تأثير الفرد المعقّد على الجماعة، فمن ناحية فإن ارتفاع المستوى الثقافي والفكري والسياسي والتنظيمي يؤدي إلى نواح إيجابية، وهناك أيضاً من لهم حسابات فردية تمسكوا بالقوانين والأنظمة المطلقة لتأكيد حضورهم، وهذا يعدّ من النواحي السلبية.
رابعاً: تجربة الديمقراطية في المعتقل، أفضل مما ساد في الفصائل خارج الاعتقال.
خامساً: لم تخلُ حياة الاعتقال من امتيازات شخصية، تؤدي بالبعض إلى الظهور بقوتهم البدنية، أو ثقافتهم العالية، وهذه الناحية انعكست على الأفراد العاديين فيه.
سادساً: ضغط الهاجس الأمني، وإبقاء الأفراد تحت المراقبة، الأمر الذي وقف حجر عثرة في عطائهم الفكري والثقافي والتنظيمي.
سابعاً: أوجدت الخلافات بين الفصائل والتعبئة الفكرية الفصائلية نوعاً من التوتر بين الأفراد وشكلت الشخصية الفردية والنرجسيّة حالة من الحضور.
ثامناً: أدى إغلاق الأبواب أمام المعتقلين المنتسبين إلى الفصائل للانفتاح على الآخرين ومحاورتهم، قد حدّ من دورهم وأجبر نسبة غير قليلة من روّاد التجربة على الالتحاق بفصائلهم بلا قناعه، ما أثر على عطائهم الفكري والسياسي والاجتماعي.
تاسعاً: إن من تمتع بامتيازات معنوية وثقافية في المعتقلات استندوا إلى تراثهم وتجربتهم، فتسنى لهم تحقيق مراكز وفعالية وحضورٍ بعد تحررهم.
هذه المعطيات التي حددها المؤلف، جعلت مهمته البحثية غاية في الصعوبة؛ لكنه في الوقت ذاته جعلته يحدد مفهومة ورؤيته في كتابه "ثقافة الإرادة وإرداة الثقافة" من خلال سيرته الاعتقالية التي جعلته يختزن مفهومه للثقافة، فكتب الكثير من الكتب والمقالات الصحفية والمحاضرات والمذكرات التي جعلته مرجعاً أساسياً في هذا المجال، وكأنه قد خطا نفس الخطوات التي خطاها المفكر الايطالي الكبير "أنطونيو غرامشي" الذي سجن، غير أن سنوات السجن (1926 – 1937م) على الرغم من صعوبة الظروف والمرض الذي داهمه وانعدام المراجع التي احتاجتها أبحاثه، كانت مثمرة في تأصيل الموضوعات والأفكار عن الثقافة والمثقفين وصاغ مفهومه للمثقف العضوي في كتابه "كراسات السجن".
وإذا كان "غرامشي" قد ضاغ مفهومه عن الثقافة بشكل عام، من خلف قضبان السجن، فإن باحثنا الدكتور حسن عبد الله قد صاغ مفهومه عن ثقافة السجن وإرادتها من خلال سيرته الاعتقالية، ومن خلال حسه النقدي الذي اتّبع لأول مرّة في أدب السجون، متحرراً من العاطفة والانشداد للتجربة، والتي أصبحت تؤسس لعملية نقدية موضوعية تواكب ما ينتجه المعتقلون من إبداعات متعددة، وما تنتجه تجربتهم من أبحاث.
وأخيراً، اسمحوا لي، بأنني على ثقة تامه، أن هذا الإصدار سيشكل إضافة نوعية للمكتبتين الفلسطينية والعربية، ولوسائل البحث الأجنبية، لا سيّما أن الباحث قد واكب هذه التجربة بعدد من الإصدارات البحثية الإبداعية خلال فترة اعتقاله في ثمانينيات القرن الماضي منها: حمامة عسقلان، وعاشق الزيتون، وصحف في الصحراء، وعروسان في الثلج.