فيلم "طريقي" الكوري.. يُعَرّي الحربَ ويلعَنُها
نشر بتاريخ: 29/02/2020 ( آخر تحديث: 29/02/2020 الساعة: 16:33 )
الكاتب: المتوكل طه
يتناول فيلم "طريقي" (My Way) الكوري الجنوبي، للمخرج كانغ جي كيو، والمُنتَج في العام 2011، قصةَ كوري وياباني تبدأ منذ العام 1928، بينما كانت طوكيو تحتل سيئول وتقبض على عُنُقِ كوريا.. وهي قصةٌ بل قصصٌ تتواصل خلال الحرب العالمية الثانية، وفي جغرافياتٍ عدّة.
والحكاية من أوّلها أن الفتى الكوري "يانغ كيون جونغ"، وهو ابن رجلٍ كان يخدم عند جنرالٍ يابانيٍّ في كوريا، يلتقي بحفيد الجنرال، وهو مُجايلٌ له، في سباق جَرْيٍ أو بمعنى أدق "ماراثون". وتبدأ نقطة التحوّل الأولى في الفيلم حين يعلن القائمون على المسابقة فوز "حفيد الجنرال" الياباني مع أن الكوري "يانغ" هو الفائز الفعلي، ما أحدث شغباً واحتجاجاتٍ تستنكر هذا "الغش" الياباني المعلن والظالم!
ومع توالي الأحداث، يرفض "حفيد الجنرال" الياباني الحاكم والمحتل لكوريا الجنوبية دراسة الطب، ويتجه إلى الخدمة في الجيش الإمبراطوري متحصّلاً على رتبة عقيد، وهو المتعصب لمجد بلاده و"إمبراطورها العظيم"، في وقتٍ تحكم المحكمة اليابانية على الشاب الكوري "يانغ"، مع مَن أثاروا الشغب مستنكرين الحادثة، بتجنيدهم عنوةً في الجيش الإمبراطوري تحت إمرة الكولونيل المتعصب.
ونرى بجلاءٍ كيف يمتهن اليابانيون المحتلون الكوريين، ويدفعونهم ليكونوا رأس الحربة المُواجِهة في أي معارك عسكرية، وكان أن اتُّفِقَ على توجُّه الجيش الإمبراطوري لمجابهة الجيش السوفييتي إبّان الحرب العالمية الثانية، فاستمات اليابانيون في صد الهجوم السوفييتي الحاسم والمباغت.
وتظهر هنا حصافة وكرامة وحسن تدبير الكوري "يانغ"، الذي تم أسْرُهُ برفقة الكونيل الياباني من قِبَل الروس، فيتمّ حملهما مع بقية الأسرى إلى جبال الثلج في "أورال"، حيث يموت معظم الأسرى، فتُحْرَق جثثهم لاستخدامها وقوداً للتدفئة.
وسرعان ما يحتاج الروس إلى هؤلاء ليكونوا جنوداً يدفعون بهم إلى مواجهة الجيش النازي، فيهلك معظمهم، إلا القليل من بينهم الكولونيل الياباني و"يانغ" الكوري، اللذان تدفعهما الظروف ليصبحا صديقين يدعم كل منهما الآخر في مواجهة هذه التحوّلات الحادة والعجيبة ، وهما في حمأة حروب فاجرة بشعة ، لا قوانين لها سوى الإبادة الماحقة !
ويتم أسْر الاثنين من قبل النازيين، الذين يحملهما جيشه مع الأسرى الآخرين ليُصبِحا جنوداً في هذا الجيش الذي يخوض معركة "نورماندي" الشهيرة في مواجهة جيش الحلفاء على حدود فرنسا، إلى أن ينتهي بسقوط "يانغ" قتيلاً في حضن الكولونيل "حفيد الجنرال" الياباني، الذي ينتهي به المطاف أسيراً في يد الحلفاء.
وفي تضاعيف الفيلم، يلتقي "يانغ"، خلال فترة خدمته القسرية في الجيش الإمبراطوري، بأسيرةٍ صينيةٍ كانت تقاتل الجيش الياباني المحتلّ لبلادها، ويدرك كيف انتهك اليابانيون إنسانيتها وكرامتها بأشكالٍ عدّة، بل يذهبون بعيداً في تعذيبها بشكلٍ ساديّ، فتغلبه إنسانيته، ويساعدها في التخلص من أسرها.
لعل هذا الفيلم يُكَثّف المفارقة المفجعة، وحالات الدمار والتقتيل العنيف، ويُبرز مدى الكراهية وشهوة الإبادة التي طبَعَت كل الجيوش من كل الجنسيات، وكأن الفيلم يؤكد على أن أي حربٍ ستكون عمياء بالضرورة، وأن لا مجال فيها لأي هامشٍ إنساني، إلا ما نَدُر، فالرغبة في البقاء على قيد الحياة، والتعصب الأعمى للوطن والقائد يكون، في مثل هذه الحالات، الدليلَ الأول والنهائي والرئيس لدى البشر من كافة القوميات والطوائف.
إن انحياز الإنسان للخير والتسامح والعدالة والحق، لا يجد متّسعاً حينما تكون الحياة على محك الموت، أو في مواجهة الفناء، إلا من رحم الله، بمعنى أن الغرائز والشهوات هي أكثر حضوراً وسطوعاً وتجلّياً ونفاذاً وقوةً من تلك القيم المطلقة البيضاء التي نحتاجها في أشد اللحظات حلكةً وصعوبةً.
ثم إن الفيلم يُعَرّي الحرب ويلعَنُها، ويُقَدِّم مرافعةً بصريةً مبهرةً ومعمّقةً وحقيقيةً تقول إن البشر ليسوا أكثر من هباءٍ لا قيمة له في لحظات الحروب الطويلة لدى الحكام والمسؤولين والجنرالات، وإن أحداً لا يلتفت إلى القيمة التي يحملها الإنسان باعتباره إنساناً، عندما تقذف المدافع حمولتها المجنونة، أو يُغطّي العجاجُ هذه الأرض أو تلك.
ويقول الفيلم إن الإنسان ابن ظروفه، وإنه يبحث دوماً عن آلياتٍ تُبقيه على قيد الحياة، مهما كان الثمن، للضرورة، وإنه لا عداءٌ مستحكمٌ ودائمٌ ولا صداقةٌ باقيةٌ أزليةٌ، فالعلاقات عُرْضَة للتحوّل والتبدّل تبعاً للمصلحة ولِلَّحظة وموازينها.
إن هذا الفيلم صرخةٌ كبيرةٌ ومدوّية، ونداءٌ لا يبلُغُهُ نداء، يضرب بيده الحديدية النارية على طاولة الحياة، ليقول للمسؤولين والحكّام والجنرالات؛ إن حروبكم مجانيةٌ ولا طائل منها، وإن الضحية فيها هم البسطاء من الناس الذين يحلمون بتكوين أُسرةٍ دافئةٍ، أو يتطلّعون إلى ممارسة هواياتهم دون فذلكةٍ واستعراض، بكرامةٍ وعدالةٍ وهدوء.
وأعتقد أن هذا الفيلم الذي جعلنا نصدّق كلّ مشاهده الحقيقية، ما يجعل منه فيلماً استثنائياً من حيث صناعة التصديق، وتوفير كل العناصر التي تجعل منه واقعياً بل وثائقياً في ثوبٍ روائيٍّ مُحْكَم.
وأظن أن ما يعمِّق عبقرية هذا الفيلم هو قدرته على الحياد، وعدم وقوعه في الاصطفاف الإثْني، كما لم يَسْعَ إلى تنقية التاريخ أو تمليحه أو اقتطاعه.. إنه نصٌّ مرئيٌّ راسخٌ وثقيلٌ وممتلئٌ وفيّاضٌ، يؤكِّدُ قدرة وريادة السينما الكورية الجنوبية وحرفيّتها العالية، دون السقوط في التنظير أو الوعظ أو المبالغة، فهي سينما تنتصر للحياة، وتخلع أثواب الزيف عن كل ما يدمّر البشر والمستقبل.
إن فيلم "طريقي"، الذي ينتمي إلى أفلام الحروب ذات الصبغة التاريخية، يشير بوضوحٍ إلى أن السينما الكورية الجنوبية قدَّمَت، ومنذ سنواتٍ، ولا تزال، نموذجاً جعلها في الصف الأول، بحيث تنافس أعتى وأضخم السينمات العالمية، وبينها "هوليوود" و"بوليوود" وسينما أوروبا وأمريكا اللاتينية وغيرها. فالفيلم شكَّلَ نقطةً متقدمةً في خط السينما الكورية ضِمْنَ مساراتها العالمية.
وما فوز فيلم "باراسايت" الكوري بجائزة أوسكار أفضل فيلم، وأفضل فيلم أجنبي، والعدد الكبير من الجوائز العالمية، إلا تأكيداً على ما نذهب إليه، وإضاءةً لضرورة العودة لما أُنتِجَ من أفلامٍ وما سَيُنْتَجُ في كوريا الجنوبية.