نشر بتاريخ: 06/03/2020 ( آخر تحديث: 06/03/2020 الساعة: 21:46 )
أصدر الرئيس محمود عباس بتاريخ 5 آذار 2020 مرسوما يقضي بإعلان حالة الطوارئ لمدة شهر، لمواجهة انتشار فيروس كورونا المستجد، بعد اكتشاف حالات إصابة موجبة منه في بيت لحم. وتنفيذا لذلك، قامت حكومة الدكتور محمد اشتية بالإعلان عن البدء بإجراءات تنفيذ حالة الطوارئ ابتداء من تاريخ 6 آذار، وتتضمن الاجراءات، فيما تتضمنه، إغلاق كافة المرافق التعليمية من مدارس ورياض أطفال وجامعات ومعاهد وغيره، ومنع أية مظاهر للتجمهر والتجمع والاحتفالات والتظاهرات والإضرابات والمؤتمرات الوطنية او الدولية في كامل أراضي دولة فلسطين، وإغلاق كامل المناطق السياحية والدينية، وإلغاء كامل الحجوزات للسياح الأجانب في الفنادق عامة، وان يكون جميع الأطباء على رأس عملهم في جميع المرافق الطبية وأخذ كامل الاحتياطات لحماية شعبنا وسلامته، ونشر قوى الأمن بكافة تجهيزاتها في كافة المحافظات للقيام بواجباتها ومهامها التي تقتضيها حالة الطوارئ.
وللأسف استخف البعض بالمرسوم والإجراءات، ورفضتها "حماس" بحجة أن قطاع غزة يخلو من إصابات مؤكدة بالفايروس، وراح البعض، حتى من كتاب الرأي المؤثرين، ينتقد سلبا المرسوم والإجراءات، معتبرا إياها إما تهويلا للوضع أو اخفاء للحقيقة او قرارات ارتجالية!!!
من الواضح أن ثمة استهتار واستخفاف من هؤلاء بالأمن الصحي للناس، وربما جهل وعدم معرفة بمخاطر التهديدات الأمنية الصحية، وبمبادي وأحكام وقواعد التعامل معها، ومسؤولية الدول والحكومات في مواجهتها والوقاية منها، وكيفية التصرف في حال تحول انتشار الفايروسات والأمراض إلى أوبئة عابرة للحدود.
إن أقل ما يمكن ان يقال عن المرسوم الرئاسي وإجراءات الحكومة الفلسطينية، أنها تعبر عن مسؤولية وطنية ترتقي الى مستوى الواجب المفروض عليها بموجب القانون الفلسطيني والقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الانسان، في ظل تهديد خطير للأمن الصحي في فلسطين، يمثله خطر داهم لفايروس كورونا المستجد (COVID – 19)، الذي لمّا يكتشف علاج شاف له بعد، والذي انتشر بشكل واسع في العالم (72 دولة)، ووصل إلى المغرب وتونس والعراق والسعودية ومصر ولبنان والأردن ودولة الاحتلال وفلسطين، وتسبب حتى تاريخ 6/ آذار، حسب الموقع المختص "Worldometer" بإصابة (100,270) حالة، ووفاة (3,408) حالات. وقد اكدت وزارة الصحة الفلسطينية وجود (7) حالات أكيدة، كما أعلنت وزارة الصحة الإسرائيلية ان عدد المصابين حتى يوم الخميس 5 آذار وصل إلى (17) حالة. وقد أدرجت منظمة الصحة العالمية البلدان المذكورة، وجميع البلدان التي وصل اليها الفايروس في قواعد بياناتها. ولذا كان من الطبيعي جدا، والواجب الوطني، أن يصدر المرسوم الرئاسي وأن يعلن عن البدء بإجراءات تنفيذ حالة الطوارئ، منعا لانتشار أوسع الفايروس، واستنفار القدرات والطاقات اللازمة لمواجهته، كتهديد قائم لصحة وحياة الإنسان الفلسطيني وللأفراد المقيمين على الأرض الفلسطينية او الزائرين لها. وقبل الإعلان عن حالة الطوارئ يستطيع المتابع لبيانات وزارة الصحة الفلسطينية وتعليماتها، أن يلحظ بكل يسر وسهولة، أن الإجراءات في مواجهة تهديد الفايروس تدرجت من الرصد الى الحجر الصحي وطلب الإبلاغ عن المخاطر المحتملة، وقد خصصت مراكز حكومية للحجر الصحي والعلاج. وعليه فإن اعلان حالة الطوارئ قد جاء تتويجا لتلك الإجراءات وارتقاء الى مستوى المسؤولية تجاه التهديد بعد أن تبين أنه قائم بالفعل من خلال اكتشاف الحالات المرضية السبعة وادراج ذلك في بيانات منظمة الصحة العالمية.
ويقضي الواجب الوطني، والإنساني القيمي والأخلاقي، والحالة هذه، من الجميع، أن يحترم ما يصدر عن الجهات الرسمية بهذا الخصوص، وان يتبع التعليمات وان لا يشكك فيها، وان يشجع الناس على احترامها واتباعها، لا ان يبهت من الأمر، او يهول منه، أو يساهم بخلق حالة هلع او يأس وإحباط، أو يستهتر بالتهديد ويعتبر نفسه بمنأى عنه. وعلى الجميع أيضا ان يعي بأن سبيل النجاح في مواجهة تهديد هذا الفايروس الخطير، يكمن في مدى التماسك والتوحد والقدرة على خلق حالة من الانضباط الذي تفترضه إجراءات الطوارئ.
أما بالنسبة لحماس، فإن أقل ما يمكن ان يقال عن الموقف الذي صدر عنها، أنه غير مسؤول، يعبر عن استهتار مشين بصحة وأرواح حوالي مليوني فلسطيني يعيشون في قطاع غزة المكلوم، ناهيك عن المسؤولية تجاه كل تجمعات الشعب الفلسطيني الأخرى، المعرضة من جانبها إلى خطر الفايروس. كما ويبدو أن ثمة جهل هنا بأبعاد التحديات المعاصرة للأمن الصحي. فهل سأل قادة حماس أنفسهم، كم تبتعد الصين عن إيطاليا مثلا أو الولايات المتحدة الأمريكية، وكيف وصل الفايروس إلى مناطق تبعد عن الصين بمئات آلاف الكيلومترات. ألا تعلم هذه القيادات، ان هذا الفايروس وغيره من الأمراض المعدية والأوبئة الحديثة، وكما تقول "تشوتشات" الأمين العام السابق للمراكز الأمريكية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) أنه "في عالم متداخل ومترابط، يمكن لأي عنصر مسبب لمرض، يبدأ في بلدة نائية، أن يصل إلى المدن الكبرى في القارات الست خلال 36 ساعة". وإلى جانب ذلك، فمن المعروف انه قد اتسعت وتعددت مصادر التهديدات الأمنية في العالم المعاصر، وباتت أكثر تعقيدا من ذوي قبل، حيث ظهرت نوعيات جديدة منها، غيرت من الوزن النسبي للتهديدات التقليدية، ومنها تهديدات الأمراض والأوبئة الحديثة، كالايدرز وايبولا وسارس وانفلونزا الطيور والخنازير وكورونا وغيرها. بعضها قد يكون وجد سابقا، لكن العلم لم يكتشفه أو يصنفه، وبعضها نتج عن تجارب أجرتها بعض الدول في مختبراتها، لدواعي علمية إيجابية، او لدواعي تطوير أسلحة كيماوية وبيولوجية وجرثومية، ومنها ما جرب عمدا على البشر، ومنها ما تسرب وانتشر بسبب الإهمال وعدم أخذ الاحتياطات اللازمة والإجراءات الوقائية، وخاصة في وسائل النقل أو التعقيم او تقدير احتمالات إصابة المنشغلين بالاختبارات المخبرية وتطوير الأسلحة والمتعاملين مع الأمراض والفايروسات. ولم يخل الأمر بالطبع، في هذا السياق، من استخدام تلك الأسلحة في الحروب الخفية للنيل من العدو. وفي كل الأحوال، وبقدر ما يجب التنبه للمصادر الجديدة لهذه التهديدات، وبقدر ما يجب الانتباه له من أنه يمكن أن تكون في سياق الحروب بين الدول المتصارعة في العالم، بقدر ما يجب أن تفرض على كل الدول أن تتعاون في مواجهتها والتصدي لها، وخاصة أنها باتت كالسلاح النووي، لا يستطيع أحد ان يستهتر ويغامر باستخدامه، لأن عواقبه ستطاله، وستكون مدمرة له أيضا.
إن ثلاثة ثوابت لا بد من ادراكها، واحترام مقتضياتها، تستدعيها التهديدات الأمنية: أولا تحديد المصالح الحيوية، وثانيها تعريف التهديد نفسه بدقة وإدراك أبعاده وتجلياته الملموسة، وثالثها تحديد الموارد والقدرات اللازمة لحماية المصالح وتحقيق الغايات الوطنية. فهل حياة وصحة الفلسطيني المرتبطة بالبقاء هي من المصالح الحيوية لأمن الشعب الفلسطيني أم لا؟ وهل يشكل فايروس كورونا المستجد تهديدا للأمن الصحي في فلسطين ام لا؟
الإجابة على هذين السؤالين هي بالتأكيد بالإيجاب. وعليه كيف يمكن أن نجمع ونحشد الموارد اللازمة لحماية الأمن الصحي الفلسطيني حتى نحقق الغاية الوطنية؟
وبفحص سريع للإجراءات المعلن عنها من حكومة الدكتور محمد اشتية، لتنفيذ مرسوم الطوارئ لمواجهة خطر وتهديد فايروس كورونا المستجد، نستطيع أن نتبين انها تتطابق مع فهم وإدراك معنى الأمن الصحي وغايته في إطار منظومة الأمن الإنساني وترابطه بالأمن الوطني والقومي، ألا وهي توفير الرعاية الصحية المناسبة والضرورية والأساسية للمواطن، واتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة للحد من انتشار الأمراض والأوبئة. وإذا كان من أهم شعارات الأمن الإنساني، وخاصة في بعده الصحي، هو "الوقاية خير من العلاج"، فإن متطلبات الحفاظ عليه وتعزيزه واستدامته، تفترض بداهة التصدي لمواجهة التهديدات المحدقة والتغلب عليها، عبر التمكين والحماية والمساعدة والإغاثة والرعاية، والتي تقع أساسا في مسؤولية الدولة، ولكنها تقع أيضا في مسؤولية منظمات المجتمع المدني والأفراد أيضا، لأن الأمن في الفهم الحديث، هو ليس أمن السلطة الحاكمة فحسب، بل وأمن المجتمع والأفراد. ويبدو أن ما يهم حركة حماس هو السلطة/السيطرة فقط. أما كيف ستواجه انتشار الفايروس، وكيف ستتصرف إن وصل إلى قطاع غزة، لا سمح الله، فمتروك على ما يبدو لفتاوي الشيوخ وأدعية المؤمنين!!!
إن التصرف الحكيم تجاه خطر التهديد الذي يمثله فايروس كورونا المستجد (كوفيد – 19)، هو ما عبرت عنه الحكومة الكويتية، بقولها: "إن الأمن الصحي غير قابل للتفاوض او التهاون تحت أي ظرف كان". وهو ما تحاكيه إجراءات حكومة الرئيس محمود عباس.
وإن الأمراض والأوبئة التي انتشرت وتنشر في العقود الأخيرة في العالم، فرضت نفسها على أجندة الصحة العالمية، واستدعت تضافر جهود كل الدول لمكافحتها والوقاية منها، ولذا أنشئ ما يسمى ب"أجندة الأمن الصحي العالمي" (GHSA) والتي تهدف الى ضمان أن تكون جميع الدول قادرة على منع تفشي الأمراض المعدية والكشف عنها والاستجابة لتحدياتها وما تمثله من تهديد بسرعة. وليس من بلد في العالم بمنأى عن انتشار الأمراض المعدية والفتاكة، ولهذا فإن منهج التعاطي معها يدخل في إطار التعرض المشترك للخطر، الذي يجعل قوة أمن العالم تتمثل في قوة أضعف حلقة في السلسلة. وقد لا تكون فلسطين الأضعف في سلسلة دول العالم، التي تواجه خطر الكورونا، فثمة دول أضعف منها على هذا الصعيد، كغينيا بيساو والصومال، وهي على كل حال لما تدرج بعد على مؤشر الأمن الصحي العالمي لنقف بالضبط على مستواها في السلم الدولي، الذي تقف على رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، تليها بريطانيا ثم هولندا، كأكثر دول لديها الجاهزية للتعامل مع الأوبئة المتفشية، بينما تتوسطه الصين التي بدأ منها انتشار الفايروس، وكذلك روسيا، فيما تحتل "إسرائيل" الدرجة 54 من بين 195 دولة يشملها المؤشر. ويشمل المؤشر المذكور على 34 مؤشرا أساسيا و 85 مؤشرا فرعيا لتقييم قدرة الدول على مواجهة تفشي الأوبئة، موزعة على 6 فئات أو مجالات هي: قدرة الدول على "منع" نشوء انتشار مسببات الأمراض؛ "الاكتشاف المبكر والإبلاغ عن الأوبئة ذات الاهتمام الدولي"؛ مدى "الاستجابة السريعة" والتخفيف من حدة انتشار المرض؛ مدى قدرة "النظام الصحي" على معالجة المرضى وحماية العاملين في القطاع الصحي؛ "الامتثال للمعايير الدولية"؛ ومدى "خطر" وقوع الدول في وجه التهديدات البيولوجية.
وإذ نتمنى لشعبنا في كل أماكن تواجده السلامة وضمان أمنه الصحي، يحدونا الأمل، في أن يشكل التعامل مع التحدي الراهن لفلسطين في مواجهة تهديد فايروس كورونا المستجد، فرصة للارتقاء بالاستراتيجيات والسياسات الصحية الفلسطينية، التي توفر الحماية للمواطن الفلسطيني وتحدد الوسائل الناجعة للحفاظ على سير الحياة اليومية بشكل صحي، بعيدا عن أية أزمات، وبحيث تقدم أجود الخدمات الكفيلة بتحقيق أرفع مستوى لصحة الانسان باعتبار ذلك حق دستوري من حقوقه الأساسية كإنسان، وبحيث تلبي تلك الاستراتيجيات والسياسات والتدخلات اللازمة لتنفيذها الاحتياجات الوطنية، في ظل الصراع المحتدم مع الاحتلال وما تمثل سياساته وإجراءاته من خطر على كل أبعاد الأمن الإنساني والوطني والقومي، وخاصة في ظل تنفيذ صفقة ترامب – نتنياهو التي تستهدف وجود وبقاء الشعب الفلسطيني، وبحيث يجري أيضا مواءمة تلك الاستراتيجيات والسياسات مع الاتفاقيات والمعاهدات والمواثيق الدولية التي انضمت اليها دولة فلسطين، كي تتمكن من تبوؤ مكانة معتبرة على سلم مؤشر الأمن الصحي العالمي في كافة مجالاته ومؤشراته. كما ونأمل أيضا، أن يجري الارتقاء في مستوى معالجات أمور شبيهة بتهديد هذا الفايروس الخطير، عبر تطوير نظام إدارة وطني للأزمات، مستفيدين من تجارب فضلى لدول عديدة على هذا الصعيد، وبحيث يتكون النظام من عدة مستويات للإنذار، يجري تحديد كل درجة في أوانها من قبل الجهات المختصة واعلام الجمهور بها، حتى يجري رفع مستوى الاستعداد وتنفيذ الإجراءات الضرورية لضمان سبل المواجهة الناجعة. وحمى الله شعبنا الفلسطيني من كل مكروه.