نشر بتاريخ: 10/03/2020 ( آخر تحديث: 10/03/2020 الساعة: 11:11 )
عند اتخاذ القرارات الاستثنائية في الأوضاع غير الطبيعية، عادة ما تثار العديد من الاسئلة الاخلاقية والسياسيةوالقانونية، وهي مشروعة وضرورية، ومثالها: هل أصابت تلك القرارات أم جانبها الصواب؟ وهل تطرفت فيالإجراءات والتدابير؟ وهل كانت متسرعة وانفعالية؟ وهل اتخذت كنوع من العرض المسرحي لجمهور المواطنين-المشاهدين بأن هناك قرارات تتخذ، بالنظر لاستثنائية الظروف، حتى لو لم تكن ذات جدوى تذكر؟ وهل هناك أيضمانات بأنها ستحقق الهدف المعلن لها من حيث المبدأ؟
إن قرارات من هذا النوع عادة ما تكون موضع اختلاف كبير ونقاش جوهري وربما معارضة.
في يقيني، أن المسئوولية عند اتخاذ القرارات الاستثنائية (ذات الابعاد المركبة والمتداخلة) تقتضي الابتعاد عنالتوظيف النفعي السياسي وعن ما يدغدغ العواطف وعن تظهير المختلف عليه وتعظيمه وحتى ما يراه غالبيةالمواطنين صوابا، ربما يمكن أخذ ذلك بعين الاعتبار في دعاية انتخابية لمرشح أو لحزب سياسي ولكن عندما يتعلقالأمر بإدارة الشأن العام وإدارة الحكم وآليات صنع القرار، خصوصا فيما يهدد الأمن القومي أو في حالةالكوارث الطبيعية وانتشار الأوبئة، فإنه يجب تحييد كل ذلك تماما.
إن ذلك يتطلب توفر ضمانتين على الأقل، الأولى، إن الشأن العام لا يدار مطلقا بحسن النوايا، فأي خيار يمكناتخاذه خصوصا في حالة الضرورة أي في الظرف الاستثنائي الذي ينطوي على تهديد حقيقي وخطير علىالمجتمع وسلامة مواطنيه، يجب أن يكون مبنيا على المعلومات الكاملة الموثوقة وليس أنصافها او أرباعها، ومنالمؤكد أن ما هو متاح منها لمن يتخذ القرار ليس بالضرورة أن يكون متاحا للعموم، ومن جهة ثانية يجب أن لايخضع الخيار لمنطق الربح والخسارة بمعناه الضيق، فالإجراءات والتدابير لها المشروعية، طالما كانت وفقا لأحكامالقانون ومقيدة بها، مهما كانت استثنائية مؤقتة. كل الخيارات، الممكنة في الحالة الاستثنائية، مكلفة ولكن دوماهناك خيار يبدو أكثر إيلاما وكلفة (لاسيما في الأوضاع التي تكون الخسارة فيها واقعة، أي السعي لتقليلالخسائر وليس تحقيق برامج أو اختراقات) ولكنه ربما يكون أقل كلفة من الناحية بعيدة المدى، لدرء المخاطر واتقاءالمفاسد، مقارنة بخيارات أخرى قد تحظى، آنيا أو راهنا، بأفضلية أو شعبية ولكنها ذات كلفة كبيرة لاحقا علىالمجتمع، وهنا يجب تجنب اخضاع المجتمع وأفراده لمنطق التجريب والذي لا يعدو عن كونه قفزا في الهواء وفوقالخطر ذاته وفوق مَخَاطِره الماثلة.
ثانيًا، القرارات وهي التي تحظى بالمشروعية القانونية، يجب دوما أن تخضع للرقابة الصارمة تحصينا للمجتمعولنظامه السياسي لضمان عدم التفرد أو التغول في المجتمع وترسيخا للمشاركة كحق أصيل لمختلف مكوناتالمجتمع وواجب عليها حتى لو كانت استثنائية ومؤقتة وضرورية ويجيزها القانون وهي تخضع للمراجعة والتقييملجهة كفاءتها وضرورتها وتحقيقها لغاياتها.
إن الخيارات التي قد تُبنى بافتراض أن سلوك المواطنين هو سلوك عقلاني، ربما قد يجانبه الصواب، ومثاله أخذالإجراءات الوقائية من قبل المواطنين في حال الخطر، كحظر التجمعات في حال انتشار الأوبئة، حيث، أنه غالبا،لا يُلقِ أفراد الجماعة بالاً لهُ أو يُظهروا التزاما به، وهو سلوك طبيعي ومتوقع، وعادة ما ينقلب السلوك إلي نقيضهاذا دنا الخطر منهم وأصبح ملموسا ومتجسدا ماديا لهم، عندها تُستحضر آليات الدفاع الفردي والجماعي لدرءالخطر والتي تتمظهر في تغير أنماط السلوك وإطاعة التعليمات وغير ذلك.
عاش قطاع غزة حالات من العدوان التي استمر بعضها لأيام وبعضها لأسابيع عاش فيها إجراءات استثنائية،تفاعل مواطنوه معها واختلف سلوكهم مع اقتراب الخطر منهم وانتشاره في كل مكان، متمثلا في قصف قريب منأماكن سكناهم أو سقوط قريب أو جار، فانتقلوا من التجمعات والتواجد في الأزقة والشوارع والأماكن العامةوربما شاطئ البحر إلى المنازل بحثا عن الأمن الشخصي والأمان العائلي. تعطلت أثناءها الحياة الطبيعية (أوشبه الطبيعية) إلى حد كبير، مدارس وجامعات (وتعطلت معها كل الأعمال والمهن ولاسيما تلك المرتبطة بعمليةالتعليم كالمواصلات والمطاعم والمقاصف)، وهو سلوك طبيعي للمواطنين انتقلوا فيه من الشعور بالخطر"الافتراضي" البعيد نسبيا إلى مرحلة التجسيد "المادي" له، من التخوم إلى قلب المدينة، الذي أضحى قريبا جدا،عاكسا نفسه في التغير الواضح في أنماط السلوك الفردية والجماعية.
إن الخيارات التي لا تتمثل الخطر الداهم بمسئولية كبيرة، هي في النهاية خيارات قدرية، أقرب لإدارة "الأزمة" منها لصنع القرار والتي تترك الأمور لتفاعلاتها وعناصر تطورها الموضوعية، ولما قد تنتجه من حقائق، أي تركها"ع البركة"، هي خيارات ذات كلفة عالية جدا، وهي حتما أكثر كلفة من تعطيل المدارس والجامعات والمصالحالاقتصادية المرتبطة بهما.
مما لا شك فيه أن تعطيل تلك المرافق يجب أن يرافقه البحث المسئول من الجميع عن البدائل في ظل قرار تعطيلهاوتقليل كلفته على أبنائنا الطلاب وعائلاتهم وعلى العملية التعليمية ذاتها وكذلك الحال ما لحق ببعض المهنوالأعمال من ضرر أو خسائر ممن يعتمد فيها أصحابها على مرافق التعليم المدرسي والجامعي من وسائلمواصلات ومطاعم وغيرها.