الإثنين: 23/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

تراب أرضي صخرة

نشر بتاريخ: 13/03/2020 ( آخر تحديث: 13/03/2020 الساعة: 22:49 )
تراب أرضي صخرة
الكاتب: رشيد حمدان
لم تشعر حنطية البشرة ذات الشعر المغبر بشعور من يعشق الأرض، فهي لم تعانق شجرة زيتون بشهر نيسان ولم تقبلها بعد أن وضعت السماد على تربتها أسفل جذعها ولم تتضرع لله أن تمطر السماء غدا ليمتزج السماد بتربتها، ولم ترقص فرحا بشهر تشرين يوم قطاف ثمارها.. ولم تغمس خبز الطابون بزيت زيتونها بعد عصره بمعصرةٍ فاحت رائتحها حتى وصلت الشارع الرئيسي لتفرحنا نحن وتزعج من يسلكه من المستوطنين.

لم تعلم تلك المدعية كيف مالت زهرة النرجس على كتف الرائع محمود درويش وشكت له حالها وشرحت له مأساتها وبكت.. ولا تعلم حتى ما لونها ولا تعلم بأي شهر يكسوها الندى صباحا في جبال فلسطين ولا تعلم أنها صديقة طوقان وتنشد يوميا نشيد موطني...نعم موطني فأنا أسمعه بعد أن يصعد من زهر النرجس إلى السماء وينزل شامخا مع حبات المطر.

وهي لا تفهم أن نكهة لا تضاهيها نكهة ورائحة ليس كمثلها رائحة لحبات الجوافة التي يحضرها لي صديقي قصي من قلقيلية بمنتصف أيلول وأسافر بها شرقا إلى حيث أمي حتى تفتتح موسم أكل تلك الفاكهة الرائعه ( فزوجتي وأولادي لا يأكلونها قبل أن تتذوقها والدتي ) فأمي تعشق طعمها ورائحتها لأنها ليس كمثلها ولأنها تُزرع وتنضج بأرض فلسطين.

ولم تلتقط تلك الحنطية لنفسها صورا مع زهر اللوز ناصع البياض وكأن الثلج تساقط عليها كما تناثر علي وأنا بطريقي إلى رام الله صباحا وكأنني أتزلج بقمة جبل الشيخ بشمال فلسطين المحتلة.

لم تعانق شجرة ليمون بطولكرم ولم تقبل شفتاها زهرة برتقال بيافا ، لم يحمل جدها صندوقا بميناء حيفا ولم تمشي على سور عكا ، لم تسبح ببحر غزة ولم تأكل من سمكة ذي الطعم الفريد.

لم تجلس على مقعد بمقاهي رام الله التي هي أجمل ألف مرة من مقاهي باريس ولم ترتشف قهوة الصباح بمقهى زمن وهي تشاهد روعة المدينة من خلال زجاج النافذة، ولم تحتضن تراب فلسطين بين ذراعيها كمن تحمل طفلها وتقبله وهو من خلق قبل البشر.

هي التي سخرت من عشب الأرض وضحكت استهزاءً من تلك العشبة عندما داعبتها بأصابعي وتمايلت خجلا وأنا أتكئ على صخرة فوق الجبل ، ولا تفهم معنى طعم كنافة نابلس عندما يمتزج بها شموخ عيبال وجرزيم بأصالة السمن والجبن ورائحة التين الآتية من جنوب أزقة البلد.

ستعلمين أيتها الخارجة من رحمة الله أن أرضي ليست كتلك التي ضاجعتِها شذوذا بوقت شهوة أو ضجر، وستعلمي أن لكل حبة تراب بأرضي صخرة.. تدافع عنها وترجم إن لمسها اشباهك بحجر.