الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

شكرا كورونا

نشر بتاريخ: 16/03/2020 ( آخر تحديث: 16/03/2020 الساعة: 11:57 )
شكرا كورونا
الكاتب: د.حسين سليمان رداد
لا أظن ان الكاتب الأمريكي " دين رايكونتز " قد تصور حين الف روايته " عين الظلام " قبل أربعين عاماانها ستكون عند البعض دليل الاثبات على فرضية المؤامرة، فبصرف النظر عن صوابية هذه الفرضية اوأنهانسج خيال كاتبروائيتنبأ بانفلات فيروس فتاك في مقاطعة اوهان الصينية من عقاله مستهدفا بني البشر وحدهم دون غيرهم، فما يشهده العالم هذه الايام يؤكد على عبقرية العقل البشري وقدرته على النفاذ الى اقطار الكون وعوالم الزمن مستشرفا المستقبلواستحضاره وكأنه حقيقة واقعة ، محرجا كل من يركب في مقصورة قطار الزمن الخلفية.

فيروس كورونا أو حقبة كرونا ستكون البرزخ بين عهدين :عهد ما قبل وما بعد كرونا، عهد التحلل من تطاول العولمة وترويض جموحها المحموم وإعادة ضبطالحكومة العالميةواعادة الدولة القومية الى خلقها الأول، إعادة صياغة الحداثةوما بعد الحداثة الى عهد البدائية، عهد انتفاضة الخلية الأولى على النظرية الدارونية، حرب الجيل الخامس ( W 5 ) على تقنية شبكات اتصال الجيل الخامس ( G 5 ).

حين استقر العالم في الخامس من مايو من العام الثامن والأربعين للقرن السادس عشر على مفهوم الدولة القومية فيما عرف بصلح وست فاليا، ذاك الصلح الذي انهى حرب الثلاثين عاما في الإمبراطورية الرومانية المقدسة ( المانيا اليوم ) وحرب الثمانين عاما بين اسبانيا ومملكة الأراضي المنخفضة ( هولندا اليوم ) بمبادئها الأساسية المتينة والتي نظمت العلاقات بين الدول واهمها سيادة الدول على أراضيها وعدم التدخل في شؤون الدولة الداخلية، لم يكن هذا الإنجاز البشري فحسب والذي اعطى لكل قومية هويتها، بل اطلق العنان للعقل البشري ليكتشف مكنونات هذا الكون بقوانينه وموارده ونواميسه.

استمرارا لترقي العقل البشري والتغيير الطفروي في منظومة العلاقات الدولية مؤكدا على الانسان والدول هي كائن اجتماعي، يرفض بالفطرة الانعزال والفردانية، متوجا بذلك عولمة سياسية اقتصادية ثقافية واجتماعية بادوات تواصل غير تقليدية سارعت بإنتاج قيما جديدة أهمها ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات، وبغض النظر عن الجدل الدائر حول الأصول التاريخية وخيريةهذا الدين الجديد ( العولمة )، ما زالت علامات الاستفهام حول أهدافها؛ فقد هدمت اهم قواعد ومبادئ معاهدة وست فاليا، فبحجة التدخل الإنساني تم تخطي الحدود الجغرافية والسياسية للدول وبمنطقية التأثيرالحضاري فقد تغيرت المنظومات الثقافية والقيمية للحضارات الأدنى وانزاحت نحو الحضارة الاعلى، وتحت ذريعة حرية الحركة والتجارة غزت منتجات الدول التجارية أسواق دول العالم، وبهذا المفهوم اضحى مصطلح " العالم قرية صغيرة " احد المسلمات التي فرضت نفسها على الافراد والمجتمعات.

كورونا قلب ظهر المجن على العولمة وأعاد الاعتبار للدولة القومية وأعطى المجتمعات هويتها التي حرمت منها، واضحى فرض الحصارالذاتيللدولة ممرا اجباريا، وأصبح الحجر الصحي على الافراد فرض عين لمنع تفشيه بين المجتمعات، وهكذا فقد اعادتنا كرونا الى البدائية، وتكاد كرونا تقلب منظومة القيم والعادات والعلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجمعية والفرديةفأضحى التصافح والمعانقة والفرح والترح الجماعي أداء العبادات والطقوس الجماعية عادات وقيماينظر اليها بعين من الريبة ووصفة سيئة لانتشار الوباء، كرونا أوقفهرولة العقل البشري نحو الجيل الخامس من العلاقات والاتصالات بين الاحياء والاحياء وبين الاحياء والاشياء الى تواصل الأشياء بالأشياء.

قد نضطر ان نقول ل كورونا: شكرا؛ فقد أعاد لنا انسانيتا وبساطتنا، فاذا كانتالحداثة قد سرقت اجمل ما فينا سعينا للتألف والتراحم والايثار،فاذا كان ما يحدث من افساد للبر والبحر والبشر من فعل الانسان ، فمن يملك القدرة على استشرافالحال بعد استقلال الأشياءوتمردهاعلى الاحياء؟