الجمعة: 29/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

الكورونا" نحو عالم أكثر انسانية وعدلا

نشر بتاريخ: 19/03/2020 ( آخر تحديث: 19/03/2020 الساعة: 11:50 )
الكورونا" نحو عالم أكثر انسانية وعدلا
الكاتب: منيب رشيد المصري
بعيدا عن أسباب وجود فايروس الكورونا، هل هو نِتاج الطبيعة التي أمعنا في تدميرها على مدار العقود الماضية وما زلنا، أو هو أُنتج في مختبرات سرية، وهذا ما ترجحه آراء بعض المختصين، إلا أن الحقيقة الثابتة أنه فايروس سريع الانتشار وعابر للحدود والقوميات والديانات ولا يُفرق بين أنسان وآخر، وربما هو الآن القاسم المشترك بين جميع دول العالم بتنوعاتها السياسية والدينية والأثنية والثقافية، ومن مفارقات القدر أن وباء الكورونا وحّدَ العالم، على الأقل، في البحث عن مصل يستطيع أن يخلص البشرية منه.

وأعتقد بأن العالم ما بعد الكورونا سيكون مختلفا عما قبلة، فالنظام العالمي القائم فشل لغاية الآن في التصدي للأزمات على اختلاف أنواعها، وأقوى دولة في العالم، وقفت عاجزة في مواجهة هذا الوباء، وفي إعلان الولايات المتحدة الأمريكية حالة الطوارئ-، في ظل عدم قدرتها و/أو تأخرها في اتخاذ إجراءات وقائية أدت إلى تفشي هذا الوباء في بعض ولاياتها، وما رافق ذلك من حالات هلع للمواطنين هناك، والاقبال على شراء المواد الغذائية وأيضا ارتفاع مبيعات الأسلحة الشخصية-، يُؤشر على أن النظام العالمي بحاجة ماسة إلى إعادة بناء ذاتية قائمة على أسس أكثر عدلا وأكثر إنسانية تحكمه الأخلاق بالتوازي مع المصالح كي تستطيع البشرية جمعاء المساهمة في بناء عالم لا تهيمن عليه قوة متغطرسة تعتاشُ على الأزمات والصراعات لا بل أيضا تغذيها لكي تبقى هي الأقوى اقتصاديا وسياسيا.

كورونا دق ناقوس الخطر على أكثر من صعيد، ولا بد أن تسمع قيادات دول العالم ومنظماته الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة صوت هذا الناقوس الذي يقول لهم: لم يعد هناك متسع لمزيد من القهر والفقر والصراعات الدموية، ولم يعد هناك متسع لاقتصاديات مهيمنة وسياسيات مالية هدفها افقار الدول وشعوبها، لان هذا الأمر لن يخدم الإنسانية، وسيؤدي إلى مزيد من الاوبئة ليس فقط التي تهدد صحية وحياة البشر لا بل أيضا الأوبئة السياسية والاقتصادية التي هي أكثر خورة وفتكا بالبشرية جمعاء.

عاجلا أم آجلا سينتهي هذا الوباء مهما كان مصدره، ولكن في ذات الوقت سيبقى العالم يعاني من أوبئة أخرى سياسية واقتصادية، لذلك لا بد من العمل على ايجاد نظام عالمي لا يشبه أبدا ما كان قبل الكورونا، وهذا يتطلب إرادة وجهد مبنى على أساس أن العالم أصبح قرية صغيرة وأن الحدود أصبحت لا تعني شيئا في حال وجود أزمات أو أوبئة على اختلاف مسمياتها وأنواعها (صحية، أو سياسية، أو مالية، أو اقتصادية).

سخرت الصين كل امكانياتها الاقتصادية والتكنولوجية والإدارية والصحية والأمنية وغيرها في مواجهة انتشار هذا الوباء، ونجحت في وقف انتشاره، ولا زالت تعمل من أجل ايجاد مصل واقي منه، وتُصدر خبرتها في مواجهته إلى دول العالم، وكانت ايطاليا من أوائل الدول التي استفادت من التجربة الصينية رغم الانتشار الواسع لهذا الوباء على أرضها. أذكر هذا الشيء ليس لأنني فقط معجب بإمكانيات الصين بل للدلالة على أن دول العالم تستطيع أن تبني نظاما قائما على التعاون في جميع المجالات يهدف إلى خدمة الإنسان والإنسانية.

امريكا، القوة الأولى والعظمى، فشلت في حماية نفسها وحماية العالم من هذا الوباء، وفشلت في حماية العالم من الصراعات والنزاعات المسلحة، وفشلت في حماية العالم من الأزمات الاقتصادية والمالية، لا بل كانت هي، في كثير من الاحيان، تساهم في هذه الأزمات وتؤججها، لذلك فإن البديل هو نظام عالمي متعدد الاقطاب قائم على أساس المنظومة القانونية العالمية التي أقرتها الأمم المتحدة التي تضمّ عضويّة غالبية الدّول المُستقّلة في العالم، وتهدف إلى تحقيق العدالة، والتأكيد على أهميّة حقوق الإنسان الأساسيّة، وإنقاذ الأجيال القادمة من الحروب وكوارثها، وتحقيق معايير أفضل للحياة على كوكب الأرض.

إن العودة إلى الشرعية الدولية كفيلة بإنقاذ العالم مما هو فيه، وأول شيء هو إنهاء الاحتلال الذي يُشكل أكبر انتهاكا لحقوق الشعوب، لأن حق تقرير المصير هو أحد الأسس القائم عليها الاعلان العالمي لحقوق الإنسان، ونحن كفلسطينيين ومنذ أكثر من سبعين عاما نعاني من سلب حقوقنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بسبب هذا الاحتلال الذي لا بد له أن ينتهي.

إنهاء الاحتلال يتطلب تطبيق قرارات الشرعية الدولية وبخاصة قرار 242 و338 و194، وتطبيقهم يتطلب أن تحترم الولايات المتحدة الأمريكية قرارات وميثاق هيئة الأمم المتحدة، وترفع دعمها اللامحدود لدولة الاحتلال، وتسحب "صفقة القرن"، وتجبر دولة الاحتلال التراجع عن حلمها في إقامة دولتها اليهودية من النيل إلى الفرات، لأن هذا التفكير العدواني المبني على خزعبلات ايدلوجية ودينية، هو أساس الصراع في الشرق الأوسط وفي العالم بشكل عام، وهو حجر الزاوية في بداية فكفكة الصراعات الأخرى، وبناء نظام عالمي جديد أساسه العدل والتعاون والمصالح المبنية على الأخلاق.

وهذا الامر ينسحب على علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بجمهورية إيران الإسلامية، ومع روسيا الاتحادية والعديد من دول أمريكا اللاتينية، فلا بد أن تراجع أمريكا سياساتها الخارجية وأن تبتعد عن غطرستها لأن هذه السياسات حتما سترتد يوما ما وتؤثر على وضعها الداخلي، وبخاصة أن هناك مؤشرات جدية تؤكد قرب بروز اقتصاديات عملاقة ستنافس الولايات المتحدة، وهذه المنافسة يجب أن تكون في خدمة البشرية وليس وبالا عليها، مما يتطلب سياسات قائمة على أساس التعاون بين الدول وليس على أساس العدائية والمصالح المجردة من الاخلاق والقوانين.

"رُب ضارة نافعة"، كما يقول المثل، كورونا صفعتنا وايقظت ضمائر الحريصين على هذا العالم، لينفضوا غبار السنوات الماضية، ويقولوا لشعوب العالم "هبوا" جميعا لنصرة الإنسانية، وخطوتكم الأولى تكون نحو اجبار أنظمتكم السياسية على احترام مفهوم الإنسانية والتعاون لبناء عالم جديد ليس فيه حروب وعزاب، بل عالم متعاون يسوده التنوع والأمن والسلام، قادر على مواجهة الكوارث مهما كبرت لأن التضامن هو القاسم المشترك بين البشرية جمعاء.

نحن الفلسطينيون قدرتنا على مواجهة الازمات كبيرة، وهذا يدل على وعي مجتمعي قوامه التضامن والتكافل، ولا شك بأن إشادة منظمة الصحة العالمية بالإجراءات التي اتخذتها الحكومة الفلسطينية في مجابهة وباء كرورنا والوقاية منه، وتصنيفها لنا بعد الصين مباشرة، هي شهادة عالمية بقدرتنا على مجابهة الكوارث، ولكن هذا الأمر لا يعفينا من مواصلة اتخاذ كافة الاجراءات لضمان عدم تفشي هذا الوباء بيننا، لأنه لا سمح الله، إذا ما تفشى، فليس لدينا القدرة على تحمل تبعاته، مما يتطلب منا مزيد من التضامن بين الشعب والحكومة، التي نقدر لها عاليا جهدها وعملها في الوقاية من هذا الوباء، وهنا لا بد من الإشارة والإشادة بقرار الاخ الرئيس أبو مازن الذي أعلن مبكرا حالة الطوارئ مما جنب الشعب الفلسطيني كوارث نراها عند بعض الدول التي تأخرت في هذا الإجراء، ولا بد أيضا من تقديم الشكر إلى جميع الطواقم الطبية والصحية العاملة في الميدان من أجل حماية هذا المجتمع الذي عانى وما زال يعاني من الاحتلال والانقسام.

سوف تذهب كورونا ويبقى الانقسام، وهذا أشد ايلاما من آثار هذا الوباء على فلسطين والعالم، لذلك نرى بأن وباء الانقسام لا بد أن نجد له حلا، وحلا أنيا يقضي عليه مرة واحدة وإلى الأبد، لذلك أدعو الأخ اسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الآن، والآن وليس بعد حين أن يدعو حركة فتح والقوة الوطنية الى غزة للبدء بما تقتضية المكالمة بين الرئيس ابو مازن والاخ اسماعيل هنية بتاريخ 28-يناير- 2020 لأنهاء ملف الانقسام ويزفوا للشعب الفلسطيني بشرى ايجاد اكسير الحياه بقضائهم على هذا الوباء القاتل للمشروع الوطني والقضية الفلسطينية، فالانقسام أشد وطأة من الكورونا.