نشر بتاريخ: 22/03/2020 ( آخر تحديث: 22/03/2020 الساعة: 11:48 )
عندما يصير العمل في عقل وقلب رب العمل قيمة أخلاقية، وعندما يتضاءل المكسب المادي لصالح نمو العلاقات الإنسانية، وعندما يطوع المسؤول النصوص والنظم واللوائح الإدارية الناظمة للعمل ويحولها إلى نظام إنتاج ويجتهد كل عضو في هذا النظام لإثبات مستوى ضميره الشخصي وحسن انتمائه للمؤسسة، حينها سنطمئن بأن مسارنا في الحياة يسير في الاتجاه الصحيح ونتقدم ونرقى بقوة دفع العقول الإدارية الراقية.. فالإنسان قبل المال هو المكسب الرئيس الأول والآخر.
تمر على أي بلد أو مؤسسة في العالم أزمات وأحداث طارئة ، لكن البلاد والمؤسسات القائمة على قوانين ولوائح ناظمة لمسارات حركة الحياة العملية اليومية وحدها التي تتمكن من تجاوزها بأقل الخسائر، نظراً لغلبة الطابع الإنساني العقلاني على المخططات الاستراتيجية والطارئة الناظمة لحركة عجلة الحياة عندما نتحدث عن دولة، ولعجلة العمل عندما نتحدث عن مؤسسة، وبدون هذه الميزة فإن دولا ومؤسسات عظمى قد تنكسر أو تنهار أو قد تصل إلى حد التفكك والإفلاس حتى لو كانت مصنفة تحت بند البلاد أو المؤسسات القوية، والسبب أنها لم ترتكز على رافعة أخلاقية إنسانية... أما الأحداث والكوارث والمخاطر فإنها أحسن امتحان لبيان ليس قدرات البلد أو المؤسسة الحقيقية على النجاح وحسب، بل نجاعة وجدوى المنظومة الأخلاقية الإنسانية كمناعة وحماية.
لفت انتباهنا تعميم مؤسس مدينة روابي بشار المصري الصادر في الخامس من هذا الشهر ( مارس – آذار) تحت موضوع: إمكانية العمل من المنزل الذي أصدره بعد إعلان رئيس الدولة محمود عباس حالة الطوارئ لمواجهة خطر فيروس الكورونا، واثر التعليمات الصادرة عن الحكومة الفلسطينية،وبعد توجه المؤسسات الحكومية الرسمية للقيام بأدوارها حسب اختصاصاتها.
يبتدئ المصري قراره المؤلف من أربعة بنود بتأكيد التزامه ومسؤوليته كرب عمل ورئيس مؤسسة كبيرة مميزة في فلسطين اتجاه الآباء والأمهات المتأثرين بقرار الحكومة إغلاق المؤسسات التعليمية ورياض الأطفال لمدة شهر لمواجهة الفيروس ومنعه من الانتشار ولضمان استمرار مسيرة العمل والعطاء للجميع كل في موقعه، فيطلب من الآباء والأمهات الذين لديهم أبناء في المدارس ورياض الأطفال البقاء في منازلهم وأداء وظيفتهم بعد التنسيق مع مدرائهم المباشرين، مع الرجاء منهم بتكريس مفهوم التعاضد الأسري من خلال البحث عمن يساعدهم في حضانة أطفالهم عند حضورهم إلى مكان العمل لمرة أو مرتين في الأسبوع بواقع نصف يوم عمل، هذا بالنسبة للذين يستطيعون الوصول إلى مكان العمل، أما المتأثرين بقرارات الإغلاق لمنع تفشي الفيروس كبيت لحم مثلا، يمكنهم العمل عن بعد.
يتجلى في هذه الفقرة من قرار المصري مبدأ العناية بالأسرة باعتبارها اللبنة الأولى في بناء المجتمع والدولة، والاهتمام بالراحة النفسية للموظف المطمئن على أوضاع أبنائه عندما يكون في موقع العمل في الحالة الطبيعية، وضرورة توفر الوقت الكافي لديه للعناية بهم عندما تكون الحضانات والروضات مغلقة قسرياً.. فالموظف المطئمن منتج، أما القلق على عائلته فيستحيل عليه الإنتاج حسب الأصول والمواصفات..
كما تتجلى صورة التوازن العاطفي والعقلاني ووجوب الحفاظ على العلاقة الجذرية بين أمان الأسرة وضمان حركة العمل باطمئنان، إذ يوفر كل منهما للآخر أسباب النجاح والتقدم والعطاء بلا حدود.
لا يتوقف المؤمن عن العبادة في أوقات الطوارئ، ولأن العمل عبادة فإن الحرص على العمل بالممكن وإنتاج أفضل ما يمكن تعبير صريح عن الايمان بالعمل كجهد إنساني يصب أولا وأخيرا في مصلحة الفرد والمجتمع، ومن هذا المنطلق حرص المصري على تأمين مستلزمات العمل عن بعد كأجهزة الحاسوب مع خط نفاذ على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) لمن لا تتوفر لديه شخصياً، وتأمين أماكن إقامة للموظفين – بغض النظر عن حالاتهم الاجتماعية - الذين لم يتمكنوا من العودة إلى مناطق سكناهم بسبب الإغلاق القسري، وتأمين إيصال المستندات والوثائق الورقية في الاتجاهين (الموظف والإدارة)، مع التأكيد على ضرورة تكليف من لاينطبق عليه العمل عن بعد بعمل آخر يتناسب مع الظرف القائم الطارئ.
والتزاماً بالمسؤولية أمام الموظفين والموظفات ومن أجل الحفاظ على سلامتهم وصحتهم، فقط أصدر بشار المصري مجموعة جديدة من القرارات التي عمّمها على عشرات الشركات التي تتبعشركتي مسار العالمية وباديكو القابضة منذ يومين، تضمنتالأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 55 عاماً وكذلك السيدات الحوامل ومعهم الذين لديهم أمراض مزمنة كالسكري والضغط وأمراض القلب، وبما أن الفايروس يؤثر بأجساد الكبار في السن وضعاف المناعة، فقد أكد على السماح لكل من ينطبق عليها وينطبق عليه هذه الحالات بمزاولة العمل من المنزل مع احتساب يوم عمل كامل له.
أما الذين لا تنطبق عليهم شروط العمل من المنزل فقد جاءت توجيهات بشار المصري بأخذ فترة راحة مدفوعة الأجر، لكن المصري وحرصا منه على مكانة العمل في منهج الإنسان القويم فقد حث الموظفين على أداءأدوار إيجابية، وتطوير أدائهم، والاستمرار بالتخطيط بما يخدم مصلحة العمل وخدمة المصلحة العامة للشعب الفلسطيني كما ورد في نصوص تعميمه.
المؤسسة الناجحة حكومية كانت أو خاصة ركن هام من أركان الدولة الناجحة الحضارية، تعمل بقدرة وكفاءة عاليتين في الأحول العادية، وفي حالات الطوارئ مع اعتبار النسبة والتناسب، ولكن لا نجاح لمؤسسة بدون عقل مدبر، وضمير حر يسيرها.