الأحد: 17/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

نَصّ الأرض في "يوم الأرض" ضفيرة على أكتاف الحصان

نشر بتاريخ: 30/03/2020 ( آخر تحديث: 30/03/2020 الساعة: 17:45 )
نَصّ الأرض في "يوم الأرض" ضفيرة على أكتاف الحصان
الكاتب: المتوكل طه
بلادي جَنّةٌ تامّة، نموذجٌ يقرّب صورةَ جنّة الآخرة إلى الناس في الدنيا.

لم يجهد إنسان بلادي في ترتيب المشهد الأكبر وتحسينه، لأن الطبيعة قد أكملت زينتها، فاستفزّت خيال قاطنيها لعلهم يجترحون عالماً أكثر حُسْناً وإبداعاً وكمالاً ممّا يرون.. لكنّ الواقع أكثر جمالاً وألقاً من المعيش الملموس، حتى اعتقد الكثيرون أن الجنّة التي كان فيها آدم وحوّاء، قبل أن يقترفا إثم الأكل من الشجرة المُحرّمة، هي بلادنا، وأنّ آدم وحواء طُردوا منها لأنهما أطاعا الشيطان، الغريب عن الجنّة، التي أغاظته بأناقتها، وبعثت فيه الغيرة، فدفع أهل الجنّة للخطيئة، ليهبطوا إلى أرض يباب أُخرى، يألمون ويُعانون، ويكونون صيداً سهلاً لوساوسه البغيضة.

كان الراكبُ أو الغريب المسافر لا يخشى شيئاً في تلك الليالي النهارية، فيذرعون البلادَ طولاً وعرضاً، ودفوفهم توقّع الصدى مع خبب الراحلة والحادي، والسراج البعيد يتهيّأ لأن يقدّم ما لديه للعابرين، دون سؤال.

هذه هي بلادي الواقعة وسط الدنيا بالتمام والكمال، إنّها أرض اللبن والعسل، حتى أنّ آبائي لم يجدوا معوزاً يقدّمون له حاجته، لفرط ما استغنى البشر، حتى أنّهم نثروا القمح على رؤوس الجبال، حتى لا يجوع الطير.

وظلّ أهل بلادي، مثل سكان الفردوس، ردحاً طويلاً، لا يجوعون ولا يضْحون ولا يعرون، وقد نُزع الحقد والكره والبغضاء والتحاسد والشهوات الممنوعة من طبيعتهم، فكانوا ملائكة على شاكلة بشر آدميين.

وثبت أن ألواح العدالة وروايات السلام وعلوم الحياة قد صدرت من هنا، فتعلّم حمورابي في كتاتيبها، ونحت الإمبراطور أشوكا الهندي صخور المراسم مما وصل إليه منها، وأن الوحي لم يعرف طريقاً أقرب إلى الأرض من بلادي، التي هي أرض السماء على هذا الكوكب، ونافذة البسيطة، التي تعرج منها الصلوات والتبتّل إلى الله العظيم.

كانت الشمس والقمر والنجوم لنا، وكانت أساور الأعياد لنا، والنور الفوّاح من كهرمانها لنا، وكنّا نلهج بالدّعاء للشعوب التي تختنق بظلمتها في مغاور الثلج والتوحّش والضياع، ليجعلوا، مثلنا، زهور أرضهم أكاليل لتيجان الملوك العادلين.

كنّا نرى كلَّ شيء بوضوح، الصباحَ الجميل، والضفائرَ الطائرة، ونومَ العشب، ودغدغةَ الشلال للصخر، ولهاثَ الفرس في الربيع، وقشعريرةَ العروس على الحرير.

*

أيتها الأرض ! لقد وضع شيطانك يديه على كنوز الكلام .. أعطِنا قليلاً منه حتى تعشب الدروب ونباهي الجَمال.

*

وربّما اخترعت إيزابيل الليندي بلداً، ليعوّضها الفقدان الفاجع للوطن، بتحويله إلى متنٍ لغوي .. إلى محض كلمات! على رأي الزميلة لطفية الدليمي . لكن بلادنا كبيرة وحاضرة وعميقة إلى حدّ أنها تفيض بلاداً أخرى، كأنها تبسط فوق العدم أرضاً فتصبح يابسة، لها جغرافيتها الكاملة، أو أنها تستخرج من البحار والمحيطات كل القارات والجُزر التي غرقت، فتجعل لها سنداً وأوتاداً وصفائح تحملها من جديد، وتُظهرها، ثانيةً، للعيان، فما هي إلاّ شهور قليلة حتى يجفّ طينها، وتعاودها الطيور، وتخضرّ من جديد.

بلادي كأنّها الفضاء غير المحدود، الذي يتّسع كلّما انفجرت مجرّة، أو تناثرت نجوم وكواكب في هذا الهوّ اللامتناهي المخيف.

وهي أرض تتثنّى فوق بعضها طبقات وراقات، فثمة أرض هنا، وأرض فوق، وأرض تحت، تتلاقى نهاياتها، لتمتدّ إلى نهاية أخرى، سرعان ما تصل إلى ساحل من رمل أو ماء. والآفاق تَتّسع دون حواف تشير إلى نهاية ما.

وتراب بلادي عسجد، وشجرها طوبى، تطرح ثمراً، من كل لون وطعم، ولها ريح المسك. بيوتها من بلّور ورخام وطين مخبوز. ممرّاتها مرصوفة بقطع منمنمة متجاورة كقطع الحلوى، وشوارعها أحلام، أو ممرات أنهار غيّرت مجراها، لتأخذ مسارب أعمق بين المرتفعات والمنخفضات، فتشتعل ضفافها بالخضرة الغامقة.

هي أرضنا منذ جفّفت حواء مشيمتها على صخرة فيها، فجاء جدّي العملاق الأوّل، الذي كان، إذا جاع، يمدّ ذراعه في البحر فيمسك الحوت، ثم يرفعه إلى عين الشمس فيشويه، ليوزّع لحمه الطريّ الساخن على عشاء العائلة.

كانت الغصون تفيض بلبائها على يدَيْ جدّتي، ويتجعّد العسل الدافق بين الشقوق، لتلمّه أمّي، وتقدّم الضروع حليبها السكّري، دون طلب من أهلي، والأرض ترفع حنطتها وحبوبها وبقولها إلى الخوابي، والزيت يتفصّد بين البدّ والبدّ سائلاً يضيء الليالي، ويرنّق أرغفة الطابون.

لم يكن المعبد بعيداً، بل هو قصر من حجارة غشيمة أعلاها أجدادي، وسقفوها بجرود وجذوع، وبطّنوها بطين الغريّن الطحينيّ، بلونه البنيّ البِكْر. وفرشوا الحصيرة والمزاود لسجودهم عند الشروق والغروب.

ولطالما شهدت ساحات بلادي دبكات، جعلت عرائش الصيف تبعث قطوفها قناديل شهد، يتراقص نداها مع مناديل السَمَر الجامع.

وكثيراً ما يمرّ الضبع، فيأنس بنار الساحة، ويمضي إلى شأنه، والحظائر مطمئنّة.

*

كأني أتذكّر؛

كيف لم تنطفئ المواقد أمام البيوت، بل ران عليها الرماد الساخن، لتشتعل قبل أذان الفجر ثانية، كالعادة، ليشرب المزارعون حليبهم المُحَلّى بالعسل والزبيب، أو الشاي مع رغيف ساخن يغمّسونه بزيت الزيتون والزعتر، ويفغموا ما تيسّر من أزرار بندورة الحقل الفوّاحة. وتسير القوافل محمّلة بما جادت به البساتين والمزارع من خضار وفواكه، أو ما جمعوه من سمن وبيض وأجبان وصابون مطبوخ، ويربطون أقفاص الدجاج البلدي والزغاليل والأرانب على ظهور دوابهم، قاصدين البلدات المجاورة والمدن، أو يشدّون أسرجتهم حاملين محاريثهم وفؤوسهم إلى البراري، لمواصلة ما بدأوه قبل آلاف السنين، من زرع أو قطاف أو حصاد أو تشذيب وسقاية.

ويكتمل مشهد أجراس الجِمال والبغال وهي تدبّ خارج القرى والمزارع، وبخار الأرض المُفْتَرَعة لتوّها يوزّع رائحة فحولة المحراث، وغمامات الطوابين، ولهاث أباريق تغلي على النار يطبخون عليها مشاريبهم العطرية، التي تضمّخ الفجر، الذي راح يشقشق وينفرج عن شمس تطلع بكامل جدائلها السابحة. والنهار يأتي عندما لا يكون لدينا ما نخفيه.

وفي المدن مشهد آخر، يبدأ مع حركة هادئة، سرعان ما تزداد تدريجياً فـترى المحلات والدكاكين تشرّع أبوابها، وعربات تنوء بأحمالها، من كل صنف ولون، مكشوفة ومعلّبة، تقف أو تواصل مسيرها، وجَلَبة تفيض بها الساحات والشوارع والأزقة، من أصوات ونداءات وأبواق سيارات وباعة، وروائح وأدخنة ومشاة، فتبدو المدينة كأنها كرنفال يبشّر باحتفالٍ كوني، وكل ما تراه يسعى ليتمّم هذا المهرجان الباذخ الكبير.

وأينما ولّيت وجهك ترى بساطاً أخضر يغطّي أبعد ما يصل إليه نظرك، من بيّارات ومزارع وحقول وأسراب لا تنتهي من الأشجار الممتدة المتراصفة، كأنها بلا نهاية، تفوح بعطورها وسِحرها الخلاّب المريح. إنها زهرة نادرة في بلاد الله!

هي لوحة سماوية وضعها القدر، كاملة بعناصرها الفيّاضة على أرض بلادنا، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها لجنوبها، حتى يسأل الزائر نفسه ، إذا ما مرّ بها، فيهمس لروحه متعجّباً : ما هي الجنّة إذا كانت هذه هي الدّنيا؟ وسعادة الجنّة تكمن في مشاركة الناس بعضهم بعضاً.

لبلادي، هذه الجنّة الربّانية غنّى المُغنّي، حينما غرق في وهج عينيها الساطع، قال لها: أنتِ قصّة قلبي ، قبل أن تكون عقوبة قلبه عقوداً طويلة وقاسية.

لقد سمعها تقول له : خُذْ النبيذ الذي يتدفّق من صدري، والزهرةَ المخضلّة من فمي ، فصارت حروفها تتقطّع مع أنفاسه، وتنغرز على شفتيه وشْماً عميقاً لا يمّحي.

يا بلادي! يا بنت الشمس وأم القمر وشقيقة النجوم، ماذا كنت تفعلين في أحلامي؟ لا ليس حلماً، بل كنتُ أردّد اسمك، وأنطق بالكلمات التي تفكّرين بها ، وكان اسمك عذباً كالينبوع أو سُكَّر الأعراس، وأخاف أن يعيش العالم وحيداً.. بدونك يا بلادي!

*

وعصفت الريح السوداء، وجاء الطامعون من كل فجّ يلهثون وراء ما تمور به بلادي من خير، وقد حسدوها على العفّة والاطمئنان ورغد العيش الهانئ. فظهرت الهوام، وجفّت الينابيع، ونشفت الحقول.. ووضعت الحواجز، وانتظروا الخيبة والخسران، من أعداء قساة أشرار. ونبضت العروق خوفاً في الليالي المدلهمّة، وفزعت القلوب من صليل الهجوم المباغت، وانكتمت صرخات، وناحت الصدور وجاحت الأفواه المذبوحة الثكلى، ونزح الكثيرون وانكفأوا، وبدت الذلّة والانكسار على الوجوه، بعد أن كان البِشْر لونها البريء.

*

وفجأة !

لا، ليس فجأة! لقد صرخ مجنونُ البلدة في الهزيع، مُحذّراً الناس من أنّ الغرباء سيأتون على مراكبهم السوداء، بوجوههم الغوليّة المشوّهة وقرونهم الحادّة وأظفارهم التي هي مخالب ذئاب هرمة، يحملون السواطير والقضبان البرونزية التي تشرّ حدّة، وبملابسهم المعدنيّة المُطْفأة.. سيهبطون على الشاطئ، في ليل بهيم، ينهبون ويسلبون، وسيبيدون القصور والقلاع والمعابد، وسيدخلون البيوت من أوّلها حتى آخرها، سيغرزون سكاكين أيديهم الآثمة القذرة في بطون الحوامل، وينزعون الأجنّة من الأرحام، وسيقهقهون وهم يرفعونها وهي تنبض بالدم الفوّار، وسيلتهمونها، فتتبقّع وجوههم بفقاقيع تتخثّر، فيصبحون أكثر رعباً وتوحّشاً.

قال: سيَدْهمون القرى كلّها ، وسيشعلون الحرائق في البيوت والدواوين والدكاكين والحقول، وسيرقصون على إيقاع اللهّب المسعور، وسيجأرون ويضربون بأذرعتهم الأبواب فيحطّمونها، ويقطّعون رؤوس الشيوخ والأطفال، ويستحيون النساء الصغيرات، وهم يخلعون ضفائرهن فتنسلخ جلدة الرأس وتنبع بالدم الدفّاق.

وسينجو القليلون، ليبدأ المُغنّي بكائيّته من لغة زائغة مجنونة الحنين، دائخة، تبحث عمَّن بقي من الأشياء والوجوه، بعد هذا الدمار المريع.

سيقف على تلّة في البعيد، لعلّ أرضه تتراءى له، ليقول: كان كلامي العذب مخبأً في عينيك، ولطالما قلتِ لي أن أصيح باسمك عندما أشتاقكِ، وها أنذا أصيحُ.. فلا تأتين!

كنتِ تشعّين بجسمكِ تحت غلالات الضباب، وها أنتِ تنغلقين على سوادٍ تام.

لقد أفقدوك براءتك وعفّتكِ، وأطبق الملحُ على شفتيكِ؟

لقد خرج أهلك مفزوعين، وكانوا ينظرون إلى الوراء، ودمهم يتهاطل من أجسامهم، ودموعهم ملء وجوههم . وكانت الأشجار تنخلع عن عَرْشها الأبدي، وتجري نحوهم لتعانقهم العناق الأخير، وكانت حجارة البيوت المهدومة تتطاير باتجاههم لتقبّل رؤوسهم وأكتافهم.. وتودّعهم، وتبكي وحدتها مع الصبّار اليتيم.

وظلّ السراج يرتعش في البيوت التي انذبحت، وبقي الفتيل يتغذّى من الدم الذي شخبت به الأبدان والجدران، فعبّأ حوض السراج الصغير، وهذا ما تراه يومض من بعيد في الظلام!

وليس لك الآن، أيها المُغنّي، إلاّ أن تحرس السنبلة التي حملها ذلك الفتى اللاجئ، بعد أن استلّها من حقله، قبل أن يحرقوه، ووضعها في جيبه.

خُذ حبّات السنبلة وابْذرْها في كل الحقول المحيطة بالأرض، لتمتلئ الحدود بالموج الأشقر.

*

يا ليتهم صدّقوا مجنون البلد المبروك، الذي كان يكرز في وحشة الليل، يشرخه بصراخه، محذّراً من الغرباء، الذين سيَدْهمون البلد، ويستبيحونها من كل الجهات، بعد أن انشغلت البلد بنفسها، وتقاتلت فيما بينها، وبطرت، وتقحّمت المحارم، وطاشت ببذخ وإسراف، بدل أن ترعوي، وتشكر الخالق على نِعمه وفضْله. وكان على بلادنا أن تحوّل أخطاءها إلى ذهب.. لكنها لم تفعل.

تشظّى أهل البلد، ونزحوا إلى الظلال وركنوا خلف التلال، وصمتوا وذبلوا، وراحوا يَزْجون أيامهم بالتذكّر والتحسّر على ما مضى من عزٍّ غابرٍ لن يعود، ما دامت سواحلهم كسولة، ترغي برتابة، لم يشقّ عبابَها قاربُ محاربٍ ذو شراع أسود متين. وهناك على السواحل حطّ الغزاة الغرباء، وأقاموا بيوتهم، وراحوا يبحثون عن منابع العطاء والكنوز. وصارت الأرض التي اغتصبوها مكاناً وثنيّاً لإقامة الشعائر الخرافية.

وضاقت البلاد، وانسدلت ستائر مبهمة سميكة من البعيد، جعلت المدائن من خلفها غائمة لا تُرى، وقيل لقد هدمها الغزاة، وتبدّلت، وصارت مدناً أخرى. وانحسر جزء من أهلي في هذا المكان. وتوقّف الزمان.

لكنّ إرهاصة الجمر قد توهّجت، وبدت كأنها وردة أسطورية ستملأ الدنيا بنارها المقدّسة، لتنجو الأرض ثانيةً من اليباب والظلام.. فكانت الفرس التي اخترقت المسافات فانقدح الشّرر من حولها، وأومضت البلاد بأُوارها، وسالت أعرافُ السابحةِ بعسلها الفضي المرشوق، فشهقتِ البلادُ بالنرجس والشقائق والحبق.. واستيقظت الأقواس! فانظروا راية السماء.

*

لماذا تنظرين إلينا ولم تكوني ثالثنا الملاك؟! أعرف أننا ولدنا جميعنا قبل الحياة، وكنا صغاراً نلهث بين الكواكب، ونتقافز بين النجوم، وننزلق على الغيوم، وتأخذنا العتمة الّلزجة، ونشهق مع سطوع الإبهار الضوئي، هناك كانت بلدتي الغائمة، وهناك رأيت صبية من ياسمين أبيض، وفيما بعد علمت سبب النار التي اندلعت في المجرّات.

*

تلك الصورة التي تحضر كاملة أمامي، وأحبها!

في الحقول المتراصّة المرصوفة تنفرد الأرضُ الحليقة لتوّها، ولم يتبق على وجهها غير العقير النابز أو صليبة قمح أو شَعير أو حابون حِلْبة أو ذُرة، كأنها قلاع انفرطت، وتعلو بحبوبها اللعوبة العابقة! والبيادر المتفتّحة تشرب رذاذ نجومها الماسيّة. وفي الآفاق المفتوحة خيّالةٌ يلعبون بسيوفهم، كأنهم يطيرون فوق سروجهم، وهم يطاردون فرائسهم، أو يتسابقون في الهواء. وهنا، ثمة محراث يفترع الأرض فيفتحها، لتصعد من جراحها الريّانة فحولةٌ تعبِّئُ المدى . وفي الأعالي الواطئة رفّ الشنّار الدارج والسابح في فضاءات حرير الصّبا. وهناك القامات المنحنية كأنها تركع لتلتقط القرون الخضراء والأزرار الحمراء، أو تجزّ قامات العروق المائسة.

وترى عن كثب رجلاً بفأسه يُجلَّف ويحوّط كأنه يرسم لوحة من التراب المنُقّى، ليَبْذُر أو يزرع في أحواض ومساكب تشكّلت كلوحة "الضومنة" المالسة، وحولك مَنْ يملأ المصحان والقدح والقوطية أو السلال بأكوام الخضرة والإضمامات، ويرتّبها كالجدائل، ويسوّيها ليظهر أحلاها. وبعد قليل، ستحمل البغال الشطنيات المليئة بالتبن أو فردات الحبوب وأكياس القرون اليابسة. وسيبقى ذلك الرجل في خُصّه تحت عريشته الخضراء يتمدّد على الأرض، ويضع رأسه على الغيم وليس على العلو أو المخدّة.

وفي كل الجهات تتناثر المواقد، وتنفرد الهنّابة والبواطي والمناقل والمجوّر معبّأةً طازجةً، والأيادي تتحلّق حولها، تأكل وتشرب بحركات هانئة رتيبة، وهبوب الزاد في كل مكان. ويتنادى الجيران، يتعازمون ويدعون بالعافية بعضهم لبعض. وتظلّ الحواكير وأعراس الحصاد والزّرع وسحابات الجذور الفوّاح وما سيسكن الجرار والخوابي والصوامع مشهدي الأثير. سأذكر شليات الغنم والطروش والقطعان المتشابهة المتراصّة الذاهبة إلى المراعي، وخلفها كلاب الحراسة اللاهثة، والرعاة يلقون على أكتافهم الشنيف أو الخُرْج، الذي يحتوي على رغيف وناي وما تيسّر من طعام، منهم من سار خلف أتانه أو حماره أو دونهما، كأنه يقصد البعيد، ولا يعنيه سوى قطيعه، أو امرأة تضع الجذل على ظهرها، وتمضي مع حكاياتها المتفجرّة .. إلى هناك. وسأذكر، كيف كانت حِزم أشعة الشمس الفتيّة تقع صلبة على الأرض، فينبسط دثارُ الذهب الغامر، وتتجلّى الزهور البرّية بلونها الجلّناري الذي يكاد دمُه ينقط على التراب، وبركان التيجان تتزاحم لتشكل بساطاً سحرياً يخفق كأنه سيطير، دون جدوى! وتطالعك تجاعيد الجبال الملتحية الخلاّبة، والحصان المكحّل يصهل في قلبها الزيتوني، فتعلو نافورة النثار المضيء، وكأن الناي يتماوج، فيجرح صفحة النابض المتوثّب الظمآن والمثخن بزهر النبيذ المُشرق كدوائر النور الملّون. وعلى ضفاف السناسل المرتّبة بعناية أصابع الآلهة القديمة تشهق حبّات العسل الفتيّ، والشجر يتنفّس بعطر الصخور.

لا أعرف الحنين ! لأني في البلدة التي أحملها معي في مشاويري، وحملتني إلى عرش الليمون، وما زلنا ضفيرة على أكتاف الحصان.