الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

يا موت اترك لنا أُمنا بقلم: عيسى قراقع

نشر بتاريخ: 24/10/2005 ( آخر تحديث: 24/10/2005 الساعة: 13:49 )
معا- بحثت عن شجرة واقفة لا تميل...جلست وحدي ثم بكيت...كانت الجنازة بعيدة كما هي الجياد...أردت خلاءً واسعاً ليستوعبني في هذه اللحظة التي توقف فيها القلب والزمن والكلام الكبير...


كان يوم السبت التاسع عشر من شهر رمضان الثاني والعشرين من تشرين الأول من العام ألفين وخمسة عندما توفيت الحاجة فرحة البرغوثي والدة الأسيرين عمر ونائل بعد أن قاومت المرض طويلاً...نادت على أولادها ونادت على كل الناس كي يساعدوها لترى ولديها قبل مجيء الآخرة...


بحثت عن وجعي القديم...وسألت عن مطر خفيف يسقي هذا الجفاف وعن رياح تحرك الأناشيد في الجنازة التي لا يدري أحد أهي متجهة الى المقبرة أم الى السجن...


لأول مرة لا تذهب أم عمر الى السجن...لا تحصل على تصريح زيارة ومع ذلك ظلت سيدة الايقاع حتى اللحظة الأخيرة لانها رأت ابنها نائل يعانقها بأيدي صباحية...خرج من ثمانية وعشرين عاماً من الاعتقال ليقول لها: لقد عدت يا أمي...عدت طفلاً يدرج أمام ناظريك...يطير كفرخ حمام في حوش الدار، لا تتركيني...


لُميني من الليل ومن ملاحقة السجانين...لميني من زيف السلام الموعود... لقد كرهت الحرب التي تزرع النسيان بين الجندي وأمه...كرهت الحرب التي لا تترك في البيت اسماً ولا عنواناً ولا أماً...لُميني يا أمي من الوقت الذي حولني الى صفر بلا كوشان ولا تاريخ ميلاد...فلم أكن حياً أو ميتاً...لا أعرف من أنا الا عندما تطلين علي...لم تغيبي زيارة واحدة طيلة ثمانية وعشرين عاماً فمن سيزورني بعدك؟؟


الآن كل شيء صار عبثاً...وعلى الناس أن يوقفوا الجنازة...وعلى المشرعين الدوليين أن يمزقوا مواثيق حقوق الانسان...لا تكملوا الجنازة وتحولوا النص الى خطاب رثاء...


أمي هي الوحيدة التي أعطتني معنى الوجود...وهي التي ذكّرت الجميع أنني هنا...في سجن عسقلان الاسرائيلي، رفعت صورتي في خيمة الاعتصام كي يراها كوفي عنان والمفاوض الفلسطيني.

أوقفوا مراسم الدفن واسألوا أنفسكم ماذا بعد... من لي بعد أمي...


هي وطن أحلامي...ظلي في الصلاة... ولست قوياً ولست صامداً الا بأمي...رائحة خبزها وقهوتها...هويتي الأولى...سرُّ رعب الجلاد وأسباب استفزاز السجانين وقوات القمع يفتشون عن صوتها في صوتي...ويدّعون أن أمي تسكن في روحي وروحي تشكل خطراً أمنياً على دولتهم الديمقراطية.


نادني يا حاجة....انا ابنك...انا نائل انا عمر...أخبريني عن احوال القرية...ادخليني الى حكاياتك التي لم تصدأ كما هي حيطان السجن..


نادني يا امي...مدي اصابعك من ثقوب السياج لأقبلها...لا اصدق انك لن تعودي مرة اخرى...كل الوعود غادرت الا انتِ، وكل الامنيات تبخرت الا امنياتك..


الان يصير كل شيء منفى...لا احد سوف يصغي اليّ...لا القاتل اقتنع انه قتلني مرتين ولا السلام العادل اعطاني فرصة لاودع وجهك قبل الفراق...


يا موت اترك لنا امنا...فهي الوحيدة التي تدرك حالات التأمل في ساعات الحُمى عندما يتحول الاسير الى شبحٍ وهي الوحيدة مرتقى الحلم الذي يعرف الاسير من خلاله كم سنة مضت وكم سنة ستجيء ليقيس المدى المهدور بين الموت والحياة...


يا موت اترك لنا امنا...فنحن بحاجةٍ الى الخيال كي نرى البحر بحراً والشجرة شجرة...ونحن بحاجة الى سماع صوت الحي في اجسادنا المحاصرة...


يا موت اترك لنا أمنا...لقد أخذت كل شيء...بعدها سيكون السؤال ناقصاً...فمن سيسأل عن سمير قنطار وأبو علي يطا وسامي يونس وعلاء البازيان...ومن سيوصي أبو الناجي وأبو العوض وقتيبة وعلي المسلماني وتوفيق عبد الله بالبحث عن الغيمة في حبة الملح وعن قرص الشمس في دم الأغاني حتى لو انفصل الزمان عن المكان...


يا موت أترك لنا أمنا... لأنها وعدت حسام خضر ومروان البرغوثي ومهند جرادات وابراهيم جابر وفؤاد الرازم بالزيت والزعتر كي تطمئنهم أن المدينة بخير رغم الاحتلال والجدار والفلتان والاستيطان وأن الحياة هي اللقاء دائماً بين موجتين غاضبتين تطيران عالياً عالياً ولن يغرق الانسان في الصدى...


ظلت الام فرحة سيدة الأسماء تفيض بالقادم بقدر ما يغرقها الماضي...تتقدم من سجن الى سجن...تستفز السجان وهي تقول جميعهم اولادي...لهم ما ينتظرهم في الحياة لأنهم شركاء البدايات والنهايات، يدلون على خطاهم...احياءٌ...فيهم رائحة البخور والكرز والتوت واللوز، داخلهم خارجهم، تتبخر اصواتهم سحابة في النشيد...يطلون على ارضهم من عتمات الزنازين، من سعال الموت في نفحة وشطة، من وجع الاسيرات في تلموند وافاعي الرمل في النقب..


جميعهم اولادي يربون القرار من لحمهم كي يأتي السلام كاملاً بلا جوع وبلا شروط...قادرون على العيش بعد المؤبد، يحملون وطنهم لانهم يعيشون في قلبي وقد رضعوا حليبي..


أُحفر يا نائل تماثيل الحرية على جثتي...لا تمحو ظلالك عن باب الخروج...أيامك امامك...ضع قمرك على اول السماء...ضع منديلك على حوض النعنع في موتي...وارفع رأسك أعلى وأعلى...