كلمة رئيس الوزراء سلام فياض في احتفالية تكريم الكاتب رجا شحادة
نشر بتاريخ: 08/07/2008 ( آخر تحديث: 08/07/2008 الساعة: 23:04 )
رام الله- معا- القى رئيس الوزراء سلام فياض كلمة في احتفالية تكريم الكاتب رجا شحادة
وهذا النص الكامل للكلمة
الأصدقاء والأخوة الضيوف
الأخوات والأخوة الحضور مع حفظ الألقاب
الأستاذ المبدع رجا شحادة
سُئل " ماركيز" منذ ما يزيد عن عقد عن سبب عالميته فأجاب دون مواربة: "إن السبب يكمن في تناوله بيئته المحلية كولومبيا".
اليوم وقد جمعنا المحامي والكاتب رجا شحادة، وقادنا من حبات القلوب الى مورد الكلام العالي، والمشاهد الأكيدة في سياحةٍ هي أقرب الى المشاوير ونزهات الطير على الينابيع المسروقة.. والمروج الغنّاء.
مشاوير نكتشف من خلالها الطريق والبيت، ومكر المجاز، والأسئلة الذاهبة نحو قلقها الوجودي وألقها العاتي. وأخيراً يفوز شحادة بعد أن كثف وسجل مشاهداته في كتابه "سرحات فلسطينية" "Palestinian Walks ".. في ستة مشاوير قام بها في رام الله وقراها وأريحا... مشاوير محتشدة بالتفاصيل، وايقاع البلاد الهادر، فكتب عن السياسة بطريقة أدبية وأسلوب إبداعي يستحق التأمل، بذات الطريقة أبدع الكاتب البريطاني جورج أورويل الذي تحمل الجائزة اسمه.
انه لشرف وفخر عظيمان أن نحتفل ونكرم المحامي الشجاع والكاتب المبدع رجا شحادة الذي تقلد جائزة جورج أورويل للعام 2008، وذلك عن كتابه الرائع سرحات فلسطينية.
انها جائزة رفيعة وقيّمة بمضمونها ورمزيتها، فهي تحمل اسم "جورج أورويل" ضمير القرن العشرين، الذي شجب الحرب ورفض الاستبداد والطغيان والمس بكرامة البشر، واحتقر التمييز العنصري، وحلم بمستقبل زاهر لكل الشعوب. وهي من جهة ثانية تُقَدم الفلسطيني الذي حمل معاناة شعبه وقدمها بصورة إنسانية حضارية ومبتكرة، .... صورةً انعشت الذاكرة الإنسانية، ورفعت قضية فلسطين ومحنتها الجديدة القديمة للضمير الانساني كي يحكم لها. فهنيئاً لفلسطين ولنا ولرجا شحادة.
في البدء كنت المحامي الشجاع الذي استخدم سلاح القانون في الدفاع عن الأرض، وفي مواجهة قرارات مصادرتها، وعملت بإجتهاد على إبطال خطط الحكومات الإسرائيلية في تحطيم المكان. ولكن للأسف تغلبت القوة على القانون، ومزقت الجرافة كروم الزيتون والعنب وصدر الفلاح العاري والعدالة معاً. بيد أن محاولاتك لم تذهب سدى كما هو حال كل المبادرات وأشكال الدفاع عن الأرض، التي أثمرت صموداً سياسياً ومعنوياً رائعاً ... صحيح أن الاحتلال سيطر على الأرض وحاصر الإنسان، ولكن هذه السيطرة الاحتلالية بقيت غير قانونية ولا شرعية، فالانتصار على العدالة في أي مكان لم يكن انتصاراً بأي حال من الأحوال، بل يعد هزيمة للدولة التي وضعت نفسها في عداد العالم الحر، وربما هزيمةً للعالم الحر نفسه إن لم يتدخل وينتصر للقانون والشرعية، والحرية، ومع ذلك وكما قلت في أكثر من مناسبة " ستظل أصغر زيتونة في فلسطين أكثر تجذراً من أكبر مستوطنة تجثم على أرضنا ".
بعد أن أوصدت الأبواب وقُطعت الطرق أمام الاحتجاج القانوني، إنتقلتَ الى حقلٍ جديد في عرض ما يجري من محنة للأرض والشعب، ووصفك الدقيق للتحويل التدميري الذي إعترى المكان، وقدمت ذلك بلغة عذبة وصادقة، فخرجت من نطاق الخطاب السياسي لتدخل عالم الأدب الذي وجد طريقه الى قلوب الناس وعقولهم.
أصبح ما يجري على الأرض الفلسطينية مركز اهتمام نُخبٍ متزايدة ومؤثرة في الرأي العام العالمي ... لقد كشف الكتاب " سرحات فلسطينية" البون الشاسع بين موقف تأييد حل الدولتين ، وبين العملية المتواصلة لتقويض مقومات الدولة الفلسطينية وتحويلها الى شىء هلامي غير قابل للحياة.
فارق جوهري لايمكن تجاهله أوالقفز عنه، ولا يمكن بقاؤه بشكله السريالي مزيداً من الوقت. طريق الدولة الفلسطينية وطريق الاستيطان على طرفي نقيض.
على مدى خمسة وعشرين عاماً، يروي شحادة التغييرات التي أحدثها الاحتلال في بلدنا المجروحة والثكلى. حيث استعرض سياق التغيير على ترابنا الحر من الناحية الطبيعية والجغرافية والسكانية والمعيشية والقانونية ، والمعالم التي جرى ويجري محوها يومياً بأدوات الاقتلاع و أسنان الجرافات القبيحة.
يُقدم رجا مشاهداته خلال تجواله في قرى غرب رام الله، والسرحة.. مفهومٌ فلاحيٌ أصيلٌ مكتظٌ بحقلٍ دلاليٍ وثقافيٍ واسعٍ ... والسرحة للفلاح هي خروج على الندى سيراً على الأقدام.. هنا نجد مساحةً للتأمل وتفكيك ظلمة الفجر .. السرحة اكتشاف الأقدام لبلاغة الطريق وحكمة المشي .. انها الانطباعات الناجزة: وصف القصور الحجرية في البرِ الواسع، وقبح المستوطنات التي تعيد هندسة المكان وفق رؤية السيطرة والهيمنة ومنطق الاستحواذ عبر تقديم جماليات القبح.
كذلك أفعى الجدار التي تتلوى على جسد البلاد والعباد... والشجر والحجر والطير كل ذلك إلتقطته عدسة رجا شحادة بدقة واقتدار.
إعتدنا على حقيقة مفادها ان التدخل الثقافي يترك بصمات قوية على المشهد السياسي. فكلما صعدت الثقافة وتحولت الى رافعة للنضال الوطني والحركة السياسية، كلما استطعنا تجاوز الصعاب، وأحرزنا التقدم واقتربنا من تحقيق أهدافنا الوطنية.
كم نبدو طبيعيين وعاديين في خضّم التجريف القسري للمكان وإعادة تصنيعه. المشهد كان يبدو طبيعياً ونحن نرى زعتراً وزنبقاً وشقائق نعمان، أشجار زيتون ، غزلان وغنم وخيول، وسلاسل حجرية وصخوراً جرداء، وقرى ومدناً تنتصب على حواف التلال متناسقةً مع حركات التكوين الأرضية. الكينونة والطبيعة وحدهما لا تنفصل عراهما، وتتجلى هنا في هوية المكان التي صاغها الوجود الطبيعي للشعب الفلسطيني عبر آلاف السنين.
هذا الشعب الذي أضفى الصفة التاريخية على المكان، يراد له أن يُستبدل أو يُحشر في هوامش معزولة عن المشهد.
كم يبدو الاحتلال والاستيطان همجيين وهما يشوهان الطبيعة. المستوطنات تدمر الوديان والينابيع. جدار الفصل والضم يُقطّع أوصال الأرض ويمزق النسيج الاجتماعي للشعب، والاحتلال يفرض أبشع أنواع السيطرة والتحكم بحق شعب بأكمله.
صورتان لمشهد واحد تحاول واحدة إزالة الأخرى، والحلول مكانها بالقوة في هذا الصراع غير المتكافىء. ستتواصل عملية اقصاء صورتنا ما لم تتدخل أطراف أخرى، ما لم تفتح جبهات أخرى. الثقافة جبهتنا الأقوى .. الثقافة ستضفي على الصراع بعداً حضارياً و إنسانياً ، وسنكون الأقوى.. ولم لا؟؟ نحن متآلفون ومتوحدون مع الطبيعة، نحمي التلال وأشجارها، والوديان وأزهارها والجداول وطيورها.
نحن بشر عاديون ننشد الحرية والسلام والعدالة. نحن الأقوى لأننا في موقع التفوق الأخلاقي، وسنمضي في الطريق الى آخر مدى بحثاً عن الحرية والعدالة والسلام.
لقد دفعك استخفافهم بالقانون الى الانتقال الى جبهة الثقافة، وسيدفعنا عدم احترامهم للشرعية والقانون الدوليين الى الانتقال الى جبهة بلعين ونعلين، وكل مكان منكوب بالاستيطان والجدار والحواجز العسكرية وبوابات التحكم والسيطرة، وسنمضي في الطريق الى أخر مدى.
السيدات والسادة:
الأخوات والأخوة:
ان الجائزة الدولية التي استحقها شحادة تؤكد قدرة الابداع والثقافة على توثيق جرح البلاد، واطلاق سؤال الهوية والمستقبل... والمرافعة ضد أدوات النهب.
ان تكريم رجل القانون المبدع رجا شحادة اليوم يدفعنا للتأكيد على حق مبدعينا ومثقفينا لتقديم اقتراحاتهم وابداعاتهم المعرفية.. ومنحهم الفضاء الكامل لتطوير أدواتهم الابداعية، واستكمال مشاريعهم الثقافية التي تؤصل مدارك الأجيال وتمنحها القدرة على الابداع وتقديم الأفضل والأجمل. وفي هذه المناسبة نعلن ان السلطة الوطنية وإن ازدحمت بها الأولويات فإنها لن تجحف بأولوية الثقافة والاستعداد الكامل لتبني ودعم المشاريع الثقافية التي تفتح طريق التنوير وتحمي التراث وتوثق رواية الشعب. ويسعدني أن أعلن كذلك وفي هذه المناسبة الجميلة عن استئناف منح جوائز فلسطين للأدب والفنون والعلوم الانسانية.
لقد بات من الملح تأكيد سباق الانفتاح على المشهد الثقافي بما يضمن حرية الفعل والعمل والمشاركة المجتمعية، بعيداً عن التقوقع وضيق الأفق والانغلاق... بما يجعل مساحة الحراك والفعل الثقافي أكثر غناء وأبعد مدى.. وهنا فإنني أدعو لتعزيز دور الكتاب والشعراء والفنانين والموسيقيين والمسرحيين والتشكيليين والنحاتين وصناع الابداع للتأسيس لمشهد ثقافي فاعل، يقوم على حرية الكلمة والرأي، والانفتاح على المشهد الثقافي العربي والانساني... لنكون معاً وجميعاً قادرين على صياغة روايتنا الجميلة في وطننا الأجمل.
وفي الختام اسمحوا لي وتكريماً للمحامي المبدع رجا شحادة أن أعلن لكم تبني الحكومة ترجمة كتابه كي يتمكن أطفالنا وأبناؤنا من قراءته، وحماية رواية الوطن والشعب.
شكراً لمن يرفعون اسم البلاد عالياً في لحظات العصف
شكراً لرجا الذي جمعتنا مشاهداته ومشاويره وحكايات القرى وبلاغة الطريق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.