مقالة
نشر بتاريخ: 19/07/2008 ( آخر تحديث: 19/07/2008 الساعة: 14:19 )
مقبرة الرحمة تهدم بلا رحمة
محمد خضر قرش
تشهد مدينة القدس ، العاصمة الأبدية لدولة وشعب فلسطين، بشكل لم يسبق له مثيل منذ احتلالها عام 1967، هجمة استيطانية مسعورة تقوم على توسيع المستوطنات المحيطة بالقدس( جبل أبو غنيم ، ومعاليه ادوميم ومسغات زئيف وكفعات زئيف والنبي يعقوب...) وتزوير عمليات شراء الأراضي والعقارات وسياسة هدم البيوت الفلسطينية بحجة عدم الترخيص وقد أكمل الاحتلال حملته بإقامة الجدار العنصري العازل الذي فصل القدس عن محيطها الفلسطيني. وقد لوحظ بأن الهجمة قد اشتدت بعد اتفاقيات اوسلو وطابا وشرم الشيخ وكامب ديفيد وبشكل أكثر دقة منذ مؤتمر انابوليس الذي عقد في خريف العام الماضي. لقد فتح الاسترخاء واللامبالاة وقلة الأفعال ومحدودية التصدي من قبل الفلسطينيين والعرب والمسلمين أولا والصمت الدولي المريب وخاصة الأمريكي وبقية أعضاء اللجنة الرباعية بما في ذلك وسيطها المقيم في فلسطين ثانيا، شهية الاحتلال على مواصلة أفعاله المتعارضة والمتناقضة والمخالفة لكل الاتفاقيات التي تمت مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. فبعد أن تم للاحتلال مصادرة رؤوس التلال في الضفة وإقامة مستوطنات عليها، أصبحت يديه طليقة وأكثر حرية بالتركيز على القدس باعتبارها محور التسوية وعمودها والتي لا يمكن التوصل إليها بدون حل موضوع القدس . من أجل هذا وعلى وقع واثر كل لقاء فلسطيني إسرائيلي سواء في القدس أو في باريس أو تركيا أو حتى واشنطن، تقوم إسرائيل بإجراءات ميدانية وأفعال عملية ملموسة ومشاهدة من الجميع عبر شاشات التلفاز وبدون خجل أو خشية من احد . وهي تقوم بذلك وفق خطة ممنهجة ومقرة ، فحتى تلهي أو تنسي الفلسطيني ما يتم في جبل أبو غنيم مثلا تتجه لهدم عدد من البيوت في بيت حنينا والعيسوية ويصبح جلّ اهتمامه منصبا على الهدم فينسى عمليات تسمين وتوسيع المستوطنات المحيطة في القدس ، بحيث بات العمل فيها روتيني لا يواجه أي اعتراض شعبي أو حتى مناقشة ذلك في المفاوضات. وقد انتقلت إسرائيل خطوة أخرى أمام كثرة الأقوال والتصريحات الصادرة عن مسؤولي وحاملي ومستشاري لقب مسؤول ملف أو وحدة القدس وضعف تأثير أعمالهم من مرحلة توسيع الاستيطان في القدس، إلى مرحلة إخلاء السكان من بيوتهم بحجة أنها تعود ملكيتها لبعض الإسرائيليين. مع أن كل بيوت القدس الغربية مملوكة لفلسطينيين- وحتى تنسي الفلسطينيين أفعالها وممارساتها عبر نزع ملكية أصحاب بعض البيوت اتجهت إلى مقبرة الرحمة لهدمها وبدون رحمة أو خشية أو احتراما للأموات باعتبارها مثوى الرحمة الأبدية وحتى يرث الله الأرض ومن عليها ويخرج من في القبور، بحجة إقامة متنزه عام، يماثل مع فعلته مع مقبرة مأمن الله تماما. إسرائيل تدرك تماما بأن الاحتجاجات الفلسطينية لا تخرج عن كونها فقاقيع صابون وفي أحسن الأحوال تحال إلى محاكم إسرائيلية - وكفى الله المؤمنين شر القتال.
[ مرجعيات القدس]
في 26 كانون الثاني الماضي عقد في المقاطعة" المؤتمر الوطني الشعبي" لنصرة وحماية القدس من التهويد والابتلاع وبالأدق الافتراس الإسرائيلي. وقد حسم المؤتمرين أمرهم ونيتهم على أن يكون المؤتمر هو المرجع الوحيد لكل ما يتعلق في القدس. وقد عزز هذا الأمر بقرار صادر عن رئيس اللجنة التنفيذية بحصر كل ما يتعلق بموضوع القدس بالمؤتمر الذي شكل أمانة عامة ومجلس تنفيذي ولجان متعددة فاق عددها العشرين. وتمثلت فيه كل القوى والفصائل والأحزاب والحركات والشخصيات. وكان من المأمول والمرتجى أن يبدأ المؤتمر أعماله ونشاطاته إثر ذلك وبروح تقوم على التفاني وخدمة وتكريس عروبة القدس. لذلك قامت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بالموافقة على حضور أمين عام المؤتمر اجتماعات اللجنة التنفيذية حين قيام الأخيرة بمناقشة أوضاع القدس أو بطلب منه.
وكان المتوقع أيضا أن تصدر موازنة لعمل المؤتمر حتى يتمكن من جمع شمل كافة المرجعيات. علما بأنهم أعضاء في الأمانة العامة. وللأسف الشديد فإن المؤتمر حتى تاريخه لم يقم بأية نشاطات وفعاليات أو اجتماعات لوضع خطة عمل لمواجهة التهويد والهدم وإخراج السكان من منازلهم وحماية الأمن الاجتماعي المنهار وتعزيز الأوضاع الاقتصادية للمدينة ..الخ . وأمام كل الحملات المسعورة الإسرائيلية ، فإن المؤتمر لم يتحرك لفعل شيء وظلت مواجهة الموقف تعتمد على تصريحات المستشارين لشؤون القدس ومدير وحدة القدس والتي تكاد تكون يومية في الصحف وأمام كاميرات التلفاز. ولكن بدون فعل أو نتيجة ملموسة وهذا ما تريده إسرائيل، أن يبقى الفلسطينيون يتحدثون للصحافة وعبر شاشات البث المباشر لكن دون فعل حقيقي ملموس ، وفي بعض الأحيان تقوم سلطات الاحتلال باعتقال هذا المستشار أو ذاك لذر الرماد في العيون ولكي يشعر أبناء القدس أن هناك حركة أو تحرك أو فعل. تلك هي مأساة القدس منذ احتلالها وخاصة بعد رحيل شهيد القدس فيصل الحسيني. أبناء القدس وفلسطين بالدرجة الأولى يقع عليهم عبء حماية المدينة المقدسة، لذلك يجب تفعيل أعمال المؤتمر ولجانه وجمع كل المرجعيات الأخرى ضمن إطار المؤتمر ، إذا ما أراد الفلسطينيون حماية القدس فعلا.
[ لماذا مقبرة باب الرحمة ]
المضحك والغريب والعجيب أن تبرير إسرائيل لهدم المقبرة التاريخية والتي يزيد عمرها عن 1400 عام والتي تحوي في ثراها العديد من الرجال الأوائل - مثل المعتمد بن العباد وشهداء القدس الذين سقطوا أثناء الغزوة أو الحملات الصليبية وقادة النضال الوطني الفلسطيني على امتداد العصور حتى تاريخه- بأنها تريد إقامة متنزه عام.
والسؤال هو لماذا مقبرة باب الرحمة وقبلها مأمن الله . وليس المقابر اليهودية القديمة والتي لم يدفن فيها أحد منذ عام 1947 والتي لا تبعد سوى أقل من 300 متر عنها، علما بأنه كان هناك شارع يقطع أطراف المقبرة الممتدة في سفوح سلوان ( منطقة طنطور فرعون) وكان هناك شارع آخر يمتد من كنيسة الجثمانية باتجاه رأس العامود و شارع آخر تم فتحه بالتراضي قبل عام 1967 حينما تم إنشاء فندق الانتركونتننتال ( الأعمدة السبعة حاليا). ازدواجية المعايير الإسرائيلية تطبق حتى في المقابر وليس فقط على الأحياء. قامت إسرائيل اثر احتلالها للقدس بإغلاق طريق سلوان الثوري وقامت بإنشاء مدخل آخر لهما وكذلك فعلت في الشارع الذي يربط بين الفندق وشارع رأس العامود ، بحجة حماية واحترام الموتى . تلك هي الغرابة ، ومع كل هذا ورغم ذلك تقوم بمنع أهالي الأموات الفلسطينيين من زيارة قبور ذويهم في مقبرة الرحمة، التي انتهكت حرمتها وقبلها حرمة مقبرة مأمن الله.
حماية القدس ومؤسساتها وتراثها ومقابرها تحتاج إلى أفعال وليس إلى أقوال وتصريحات لا تغني ولا تسمن من جوع. وهذا هو دور اللجنة التنفيذية والتي للأسف الشديد لم تقف أمام ما يجري في القدس وقفة حقيقية سواء عبر المفاوضات أو دعم أهالي القدس بكل الوسائل . القدس تحتاج إلى رجال تسبق أفعالهم أقوالهم وتلمس نتائج نشاطهم في الميدان.
الفلسطينيون كلهم مقصرون جدا بشأن القدس والاستيطان والسور العازل وهدم البيوت وإخلاء السكان وأخيرا هدم المقابر . الأحزاب والفصائل والحركات التي تتشدق دوما بأن القدس عاصمة لدولة فلسطين عليها أن تثبت ذلك بالأفعال وليس بالأقوال والتصريحات . المنافسة بين الأحزاب والفصائل يجب أن تكون في استنهاض همم أبناء شعب فلسطين وليس في الحصول على موقع هنا أو هناك او مكاسب حزبية هنا أو هناك. فالقدس فوق الجميع وأهم من الجميع.
القدس كما كل فلسطين تحتاج إلى جهود فعلية لإعادة الزخم النضالي والكفاحي لوقف سياسة الاستيطان وبناء الجدار. القدس وفلسطين تحتاجان إلى تعبئة الصفوف وحشدها وهنا تكمن أولى الخطوات نحو مواجهة المخططات الإسرائيلية فلا هذا المستشار أو ذاك ولا هذا المدير أو ذاك يستطيعان تعبئة الصفوف ومواجهة الاحتلال. هذه مسؤولية جماعية بدءا من اللجنة التنفيذية وحتى البائع المتجول في شوارع القدس. أما آن الأوان للفلسطينيين لأن يدركوا ذلك. السور العنصري العازل حول القدس قد اكتمل والاستيطان في جوارها يسير على قدم وساق وهدم البيوت والمنازل مستمر والآن بدأ دور المقابر وإخراج السكان من منازلهم في القدس. ولن نستغرب غدا إذا قامت إسرائيل بإقفال المقابر الثلاث في القدس وأقامت مقبرة خارج المدينة لكي يدفن المقدسيون موتاهم خارج أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. إسرائيل لا ترتدع بالأقوال والتصريحات وإنما بالأفعال فحسب، فمتى ندرك ذلك قبل فوات الأوان. هذا هو السؤال؟.