صديقي بشير نافع... وداعاً بقلم: عيسى قراقع
نشر بتاريخ: 16/11/2005 ( آخر تحديث: 16/11/2005 الساعة: 14:59 )
معا- لو انتظر الموت قليلاً... لو أخطأ الموت لأدرك القتلة أنهم لم يقتلوا رجلاً بل قتلوا إنسانية...
وكم أخطأ الموت بشير نافع، لكنه ظل يحمله منذ طفولته ولم يسمح له بالانفجار حتى اكتمل به فكانت مذبحة، وكان منفى وكان حفل زفاف..
لماذا لم تنتظر قليلاً أيها الموت...ربما خرج الوقت من الصدى...وربما أعلنت الشمس ظهور النبي في المدى... وربما تحررت رام الله من الجنازات والشعارات والحواجز واحتفل الصباح بالندى...
فمن يشرب القهوة معي هذا الصباح...من يطفئ سيجارته في قلب المساء...من يشاركني حيرتي لبلوغ الهدى...ومن يسند روحي في زنزانتي ويخرج الشبح الحر من نفسه سيدا...
لماذا لم تنتظر أيها الموت قليلاً...ذاكرة مزدحمة...وجسر عمان لا يعبره الفاتحون، كأس شاي على الطاولة...ابتسامة ساخرة وأوراق مبعثرة... صوت جبل يأتي من المقاطعة صوت الرئيس أبو عمار:
"فلأكن ما تريد الخيل لي في الغزوات
فإما أميراً...
وإما أسيراًًً...
وإما الردى..."
لقد بكيت على بشير نافع ثلاث مرات: الأولى عندما أبعدته سلطات الاحتلال من سجن جنيد المركزي عام 1988...حينها ساد صمت ثقيل في قسم (4) وقف الأسرى على الأبواب...مدوا أياديهم من الشبابيك، هدوء مفجوع...دموع غسلت الحيطان والقضبان ثم انطلق نشيدٌ هادر...
يا حمامة طيري ثم طيري..
ادخلي غيمة في السماء
يا حمامة خبئيه في الريح
أعطيه جناحيك وصوتك
أعيديه مع البحر غدا
ثم بكيت على بشير نافع للمرة الثانية عندما حاول البعض، أن يقهره وينتف ريشه ويضع حداً لجموح الحصان في قلبه وروحه وهو يحاول أن يلملم المنافي وحبات اللوز من عيون الناس ليصنع قمراً آخر، أكثر إشراقا ووضوحاً...قمراً لكل السماء ولكل المقهورين والمعذبين والبائسين على هذه الأرض...
والآن بكيت للمرة الثالثة...أبكي رجلاً عاد في نعشه وحيداً مع صمته ودمه وأحلامه...قتله الطغاة والفاشيون الذين تمنطقوا بالدين وتمسحوا بالشريعة وجعلوا من أنفسهم وكلاء عن الذات الإلهية ومتصرفين باسم القوى الكونية ومتحدثين بلسان الوحي ليس لهم هدفاً سوى سفك الدماء وقتل الأبرياء...لو عرف القاتل أنه قتل بشير نافع هذا الرجل الذي قال عنه المحققون الإسرائيليون: لو وضعت مسدساً في رأس بشير نافع لما اعترف.
لو عرف القاتل أنه اغتال في جيلنا الحلم الذي بنيناه حجراً فوق حجر، سفك جوعنا وعمرنا...عمراً... توزع على الزنازين و السجون والظلام مع كل حبة ملح وصرخة وشهقة...ربما هذا القاتل لما انفجر...
ولكل هؤلاء أقول إن تسييس الدين أو تديين السياسة لا يكون إلا عملاً من أعمال الفجار الأشرار أو عملاً من أعمال الجهال غير المبصرين لأنه يضع الانتهازية عنواناً من الدين ويقدم للظلم تبريراً من الآيات ويعطي للجشع اسماً من الشريعة ويجعل سفك الدماء ظلماً وعدواناً عملاً من أعمال الجهاد...
لقد خطفوا صديقنا بشير في لحظة لم نزل فيها نحاول أن نستوعب فيها غياب الرئيس...نلملم أجسادنا ويتمنا وأناشيدنا الأولى...نقرأ الفاتحة على قبور شهدائنا الراحلين والقادمين ننظف أعلامنا ونحاول أن نكون عاديين تحت القصف والحصار والجدار...
خطفوا صديقنا في الوقت الذي لا زلنا نسال فيه الأبدية: من قتل الرئيس عرفات؟؟؟
أغلقوا التابوت تماماً كما أغلقوا الضفة الغربية وغزة...القدس صارت صورة وذكرى بعدك...
ولا تستطيع الجري كما تعودت من قلنديا إلى باب العامود سعياً وراء المعنى في سورة الإسراء...
أنه وطنك، جسدك الذي ذاب في الخطى والتراب...
قم يا أبا الوليد، حطم الرايات الزائفة في عقل القرار الذي حول الوطن إلى بلدية بلا باب وأسأل السلطان ماذا أعد للحرب الطويلة من خيل وخبزٍ وماء...
أغلقوا التابوت قبل أن يقرأوا الوصية في وهج عينيك ويستمعوا إلى غضب السماء..
هنا حول القبر سؤال الدهشةِ، هنا ماجد وخالد وإبراهيم وفاروق وجمال وسامح، هنا رماد الدم، هنا فارس ووليد، هنا قنديل الوداع هنا صرخةٌ تنطلق: لا، ثم لا، يا موت، لا...
لو تأخرت قليلاً أيها الموت...لو جف نهر الأردن، كان لنا عملٌ بعد ساعتين ومشوار إلى النهار، كان لنا إصغاء للنشيد الجديد...قصيدة لوطن لا يوقفه جندي غريب على حاجز عسكري وإعلان يبشر أن دمك قد اقترب أكثر من الورود...
كان لنا مشوار إلى قبر الرئيس، نقرأ الفاتحة ونتلو العهد ونرجم تلك الشياطين التي حولت التاريخ إلى شعار ورتب وفلتان وفساد، كان لنا صياغة أخرى لهذا المكان...
كان لنا فرح في برتقالة الشهيد...وموعداً مؤكداً مع الحياة والسلام..
قم يا أبا الوليد...لا تترك رام الله، لا تغب عن شارع الإرسال مرة أخرى...لا تؤجل لقائك الليلي مع الأصدقاء...
شاهدت على قبر بشير نافع شتلة زيتون خضراء...فيا أيتها الزيتونة اغسليه بزيتك...ضمي جسده، رتبي عظامه...أعيدي تكوينه من جديد..أيتها الزيتونة احميه من الليل ومن الصمت الثقيل...احميه من الخفافيش والغرباء...أيتها الزيتونة صبي عليه ماء الأرض...باركيه...اقرأي عليه آيات المخيم وجوع الفقراء...
أيتها الزيتونة كوني سلام الأخضر على الشهيد...وكل الشهداء.