الجمعة: 29/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

فؤاد رزق ... وداعًا - بقلم : عيسى قراقع

نشر بتاريخ: 06/09/2008 ( آخر تحديث: 06/09/2008 الساعة: 10:58 )
أجراس كثيرة قرعت للمرحوم فؤاد رزق، أصوات حزينة ملأت سماء بيت جالا مرقد رأس الفقيد، لكنّها لم تصل إلى مستوى صوت فؤاد رزق الأعلى، حيث ظلّ صوته المتراس الأشد في الدفاع عن المعذّبين والمدافعين عن حريّة الأرض و الإنسان طيلة سبعين عاما من عمره...

لا أحد دخل مدينة بيت جالا إلا و التقى بأبي أنور لهذا ستظل الحيرة تلاحق الخطوات القادمة الباحثة عن شجرة الزيتون، وصوت الحليب وذلك الدفء التاريخي في رجل أطمئنت إليه الأفكار والطيور و المفردات و الخيول الجامحة.

بيت لحم الآن ناقصة بعده.. مساؤها ناقص، ليلها ناقص، صباحها ناقص، ندواتها واعتصاماتها ومؤتمراتها و شوارعها خالية من وجهه المطل دائما كتحيّة قائد يشد يدك إذا استعصت عليك أسئلة الغياب...

على صليبه مشى كقديس يستعيد لحظة الولادة.. ينثر الورد على المشيّعين كشهيد حي يستعيد الحياة من أقاصي الأبدية كأنه وجد ذاته في الآخرين، لهذا لم يكن وحيداً، بل مزدحماً في وحدته ومسيرته، رافعاً رأسه إلى الفضاء كذاكرة تفقّس عن غيوم كثيرة...

أبو أنور ولد في المكان الذي واصل فيه دمه نسج العلاقة العضوية بين الأرض وتاريخها ولغتها، مؤمناً أن حياته البسيطة هي حياته الباقية على ثالوث مقدّس من الوحدة و التسامح والتعددية و السلام...

كان واثقاً أنه في نهاية هذا الظلم و الظلام فجراً سيطل، وأن قسوة الاحتلال لا تترك البلاد للصدى والفراغ، هناك جمرة في الصدور، شعلة للحرية تضاء، أجيال مسكونة بالغضب تتحفز لإيقاظ الوقت من نومه الحديدي...

لا قوّة غريبة قادرة دائما أن تملك الحاضر هي قناعة فؤاد رزق وهو يصغي إلى جوع الفقراء، يحاول أن يقنع المحتلين أن التاريخ سوف يتبدّل، و أن الجوع هو راية الهوية، وان الحرية هي أغنية الشعوب الأقوى في نهاية الصراع...

غادرنا المعلم الأب الذي لم تكسره الهزيمة، ظلّ يجمع الأولاد حوله ليقرأ عليهم أشعار محمود درويش،ووصايا جيفارا، وتعاليم ملكوت الحريّة وكلام السماء إلى الأرض في ليلة الإسراء...

غادرنا المولود فينا، المتمدد المتعدد، المتوحد قضيّةً وفكراً، إنسانا، حبيباً، عاشقاً، هادئاً، صبوراً، كبيراً، حالماً كطفلٍ، مندفعا كسيف من برق ومطر ورعد في جدليةٍ صيرورتها الحضور في التاريخ وفي الوعي وفي الحياة...

عندما اجتاحت المجنزرات الإسرائيلية مدينة بيت جالا عام 2002، وأحدثت فيها دمارا وقتلاً وتخريباً، راهن الإسرائيليون حينها على تدمير خطوات فؤاد رزق، وظلاله المنشورة بين الأرض و السماء لكنّها عادت تعوي رصاصا ودخانا بعدما وجدت أن رجلا يسيل في الزيت ورائحة القهوة وفحولة المشمش لا يغادر ولا يحترق ولا يموت، بل يبتسم لكل سنبلة تصير يدا، ولكل يد تحرس المدينة من الغرباء...

وداعاً أبا أنور، ستظل وصاياك هي وصاياك.. لن نقبل دولة مؤقّتة.. لن نقبل سلاماً يحوّلنا إلى عبيد في بلدنا.. سنداوي جرحك وهو يتعذّب لمشهد الانقسام وغياب الوحدة الوطنيّة.. حلمك الجميل سيظل جميلاً، وهذه الأرض لك، لثقافة الديمقراطيّة والعدالة والمساواة.

نم قرير العين، حارسا كعادتك أشجار المدينة، ستبقى فينا حيّاً لأنك من جعل البقاء أساس الوجود، وحوّل الحنين إلى صمود ورواية.