الأربعاء: 25/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

كلمةُ رئيسِ الوزراءِ سلام فياض في أربعينية محمود دوريش

نشر بتاريخ: 06/10/2008 ( آخر تحديث: 06/10/2008 الساعة: 20:52 )
رام الله- مع القى رئيس الوزراء الدكتور سلام فياض كلمة في أربعينية الشاعر الكبير محمود درويش وذلك في قصر الثقافة في رام الله اليوم تحدث فيها عن مناقب الفقيد .

وهذا النص الكامل للكلمة:

السيـدات والسـادة،
الضيـوف الأعـزاء،
أبنـاء وبنـات فلسطيـن فـي كـل مكـان
أصدقاء محمود وأحبته أينمـا كنتـم،
نلتقي اليوم في تأبين الشاعر الإنسان، وتحتشد فينا المشاعر لتخليد سيرته، والإرادة للسير على طريقه.
فدرويش الذي أعطى للكلمات معنىً ومذاقاً مختلفاً، ترك لنا إرثاً غنياً عظيماً، وللثقافة الفلسطينية والعربية مكانة بين كل لغات العالم وثقافاته.
أعطى للأرض مفردات زاهية كزهر اللوز، والحنون، وللجبل والوادي مذاقاً معتقاً، وللزيتون رائحة الأرض الأولى، وللبحر صفاءَه الممتد في الأفق البعيد.
سجل لنهوض شعبٍ، ورحلته الطويلة المتواصلة لبلورة الهوية واستردادها، فجعل من قصائده وطناً جميلاً، ومن أرضه ما يستحق الحياة.
عاش النكبة منذ البروة الأولى، وتمرَّد على الظُلمِ بجمالِ مفرداتِ اللغة، فأصبحتْ جوازَ سفرٍ طاف به الكونَ في رحلةِ الحياةِ التي لا تنتهي.
نلتقي أيها الأخوةُ في حضرَةِ الغيابْ، وغيابِ الحاضرِ فينا... نلتقي اليومَ لنَحْيا سيرةَ الشاعرِ وحياتهِ، ونُحيي ذكراهُ الباقيةَ في إصرارِ شعبهِ على الحياة.
سنديانةُ فلسطينَ وهويتُها الثقافيةُ أنتَ يا محمودُ، وأحدُ بناةِ مشروعها الوطني. طفلاً بريئاً يبحث عن دفاتره وألعابه وغده كنتَ. وفارساً جميلاً يحرسُ الحبَ والحياةَ والشعر والمستقبل ستظلُّ.
نقشتَ بأشعارِك الجميلة فرحَ الأطفالِ وأحلامَهُم، وحزنَ الأمهاتِ على فقدان أبنائهن، وتفاصيل حياة الناس وحبِّهم للحياة والأرضِ والحريةِ.
وثَّقت تاريخَ شعبكَ وكفاحَه الطويلَ، ورسمتَ معه ملامحَ دولةِ الاستقلال...
حرّرت حروفَ الكلماتِ، وسموتَ بها في فضاء الكون، منتصراً بإنسانيتك لإنسانيتك؛ لتنتصر بهما لإنسانية شعبك، وحقِّه في الحياة بلا احتلال ولا حروب.
أحضرت كل لغات العالم إلى شوارعنا، وحاراتنا، ومزارعنا...، إلى آلامنا، وأحلامنا وآمالنا...، إلى القدس ومآذنها وكنائسها؛ فأصبحت النشيد واللحن الجميل يا محمود.

الأخـوات والإخـوة،
السيـدات والسـادة،
لقد كان شاعراً مرهفاً، سياسياً ذكياً، وشجاعاً في رأيه، اشتغل بقلبه وعقله معاً... وظل منحازاً بلا تردد لمشروعه الثقافي الذي جبله في صلب مشروعنا الوطني، وملامحِه التقدميةِ والديمقراطيةِ، في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، قائدةِ نضالِ شعبِنا وممثله الشرعي والوحيدِ على طريق الاستقلالِ والحريةِ وتقرير المصير. سجَّلَ مأساةَ النكبة واللجوءِ، وواكبَ صمودَ الشعبِ، رسمَ الهويةَ الثقافيةَ والوطنيةَ؛ وروى الحكاية، فأصبح جزءاً لا يتجزأ من الهوية والرواية والذاكرة الجماعية الوطنية معاً. وهنا تتجلى عظمة محمود درويش.
إن وقوف شعبنا بكل فئاته ومؤسساته الوطنية، الرسميةِ منها والأهلية، في رحلة وداعِ وتأبينِ وتخليدِ شاعره الكبير، لم يكن منقطعاً عن التفاف هذا الشعب حول محمود وأشعارِه وأفكارِه، في رحلةِ صعودِه إلى قمّة الشعر، بل كان جزءاً لا يتجزَّأ من رحلة النهوض الوطني، وتبلور الوعي والهوية اللذين مثلتهما منظمة التحرير الفلسطينية، وقدرة شعبنا على الصمود بعنادٍ غير مسبوق، ملتصقاً بأرضه مدافعاً عن حقّه في الحرية والانعتاق من الاحتلال والاستيطان.
لم يكن مهادناً ولا وسطياً في مواجهة الانقسام، ومخاطِرِه على قضية الشعبِ ومكانتِه التي ساهم في إيصالها لكل أرباع الأرض.
إن مسؤولية الوفاء لفكره الوطني تحتّمُ علينا بذلَ كل ما هو ممكن لإنهاء الانقسام، وتوحيد الوطن، والاستمرار في المشروع الوطني حتى تحقيقه... هذا عهدنا لك، وهذا وعدنا لشعبِنا، وأرضِنا التي تحتضنكَ مع كل الشهداءِ، والخالدِ فينا الرئيسِ الراحلِ أبو عمار.

السيـدات والسـادة،
إن الوفاء لدرويش وشعره وفكره وإنسانيته، يعني بالنسبة لنا ليس فقط تخليدَه الذي يستحق، بل بذل كل ما تتطلبه المسؤولية منّا جميعاً؛ في سبيل حماية هذا الفكر والإبداع، وفتح آفاق المستقبل؛ لتجسيده وتحقيق رسالته، والاستمرار في المشروع الثقافي الذي أسس له، وبه أسس لانتصار المشروع الوطني ... .
فذخيرةُ وعصارةُ هذا الفكر التنويري، وشعرِ الحبِ والكفاحِ والحياةِ، ستمكن شعبَ درويش من الاستمرار في حمل الراية، وإغناء المشهد الثقافي ومضامينه بقيم الحرية والعدالة، والكرامة الإنسانية والمساواة، ليحتفل معنا محمود بتحقيق دولة الاستقلال، ولنجسّد معه وله حلمَه في دولة المؤسسات وحكمِ القانون...، حاضنةِ الإبداعِ وراعيةِ الثقافةِ التقدميةِ والإنسانيةِ...، دولة لكلَِّ مواطنيها، ومبدعيها، ومثقفيها، وفنانيها...، دولة تكبُر فيها الفكرة.
دولةٍ لكل أبنائها... يطوّرونَ فيها ثقافتِهم، وفنّهم، وإبداعهم، وحياتهم التي يستحقون.
فمؤسسة محمود درويش التي تعكف لجنةٌ خاصةٌ برعاية الأخ الرئيس أبو مازن على التأسيس لها؛ حيث أصدر مرسوماً رئاسياً بذلك، لتواصل حمل الرسالة التي من أجلها عاش محمود، وكتبَ ، وأبدعَ، وغنَّى القصائدَ الجميلةَ؛ ستكون معلماً لثقافة التنوير والإبداع والحرية، تحتضن تراثه وإنجازاته، وتؤسس لمستقبل العقلِ والانفتاحِ والمعرفةِ، ولتُبقيَ صوتَ درويش عذباً جميلاً في قلوب أطفالنا، وقلوب كلِّ الذين أحبوه.
هذا وعدنا، وهذا وفاؤنا ليس فقط لمحمود، بل لنا ولمستقبل أجيالِنا.
لقد كنتَ أنشودةً، وزهرة لوز، ولاعبَ النردِ...، وستبقى
ستظلُّ فارساً وشامخاً وخالداً يا محمود،
ولا تعتذر عمّا فعلتَ .... فأنت الباقي والحاضر دوماً.


في وداعك الأخير ... خرج الناس، كلُّ الناس، رافقوكَ حتى منامِكَ الأخيرِ؛ ليحرسوا أحلامك الجميلة...، في ذهابك الأبدي نحو الحياة... .
حفروا صورتك في قلوبهم ....؛ ليحتموا بها من عتمة اللحظة.
"أنا للطريقِ هناكَ من تمشي خُطاهُ
على خُطاي، ومن سيتبعُني إلى رُؤياي
من سيقول شعراً في مديحِ حدائقِ المنفى،
أمامَ البيتِ حراً من عبادة أمسْ،
حراً من كتاباتي ومن لُغتي، فأشّهد
أنني حيٌّ
وحرٌّ
حين أُنْسى ".
لست للنسيانِ يا محمود، وسيظلُّ يومُ مولِدِكَ يوماً للثقافة الفلسطينية وتجدّدها، وستظل وثيقةُ الاستقلالِ التي نَقشتَ حروفَها وعمّقت دلالاتها نبراسَنا لتحقيق الحرية والاستقلال.
ونحنُ نُخَلِّدكَ فأننا نقف بكل الإجلالِ والوفاء، للأوائل من قادةِ الفكر، والذين جذّروا الوعي بحقوق شعبنا الوطنية، نتذكر أبو سلمى، وإميل توما، وإميل حبيبي، وتوفيق زيَّاد، وجورج كتن، ومصطفى الدباغ، وعبد الوهاب الكيّالي، وعبد الرحيم محمود، وخليل السكاكيني، وعارف العارف، وإدوارد سعيد، وإبراهيم أبو لغد، ومي زيادة، ومعين بسيسو، وغسان كنفاني، وإسماعيل شموط، وناجي العلي، وفدوى طوقان، ومعهم كل شهداء شعبنا.
وفي الختامِ، اسمحوا لي أن أقتبس ما قاله محمود درويش في رسالته للعالم في الذكرى الثالثة والخمسين للنكبة." إن أيدينا الجريحةَ ما زالت قادرةً على حمل غصن الزيتون اليابس، من بين أنقاضِ الأشجار التي يَغتالُها الإحتلال، إذا بلغ الإسرائيليون سنَّ الرُشد، وإعترفوا بحقوقنا الوطنية المشروعة، كما عرَّفتها الشرعية الدولية، وفي مقدمتها حق العودة، والإنسحاب الكامل من الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967، وبحق تقرير المصير في دولة مستقلة ذات سيادة، وعاصمتها القدس. إذ لا سلام مع الإحتلال، ولا سلام بين سادة وعبيد".


وحتي يتحقق ذلك فإننا على هذه الأرض باقون