حصار غزة.. شعب يحاصر بين الأسلاك والعودة ممنوعة بانتظار انتهاء الانقسام
نشر بتاريخ: 21/10/2008 ( آخر تحديث: 21/10/2008 الساعة: 08:27 )
غزة- تقرير خاص معا- عندما تضطر للعمل كبائع للحمص على مفترقات الطرق وتعلق شهادتك وفيزا دولة أجنبية وقبول جامعي بإحدى جامعات العالم المتطور على الحائط فاعلم انك في غزة حيث الهواء محصور بين دفتي الاحتلال والبحر.
في هذا الشطر الساحلي آلاف القصص الإنسانية المليئة بالمآسي وأوجه المعاناة التي وصلت لحليب الأطفال وشربة الماء حتى أن إحدى زوجات أطباء الأعشاب المخضرمين هاتفت "معا" مناشدة ان يلم شملها بزوجها المحاصر بغزة ليتمكن من السفر لجلب الأعشاب الطبية من قطر عربي شقيق ويعيد الحياة لمهنته، أغلقت دونها الأبواب وخلف الباب دموع اشتياق لفلذة كبدها في موريتانيا.
وفي غزة المحاصرة أب هرمٌ جاء هرعاً لـ "معا" أيضاً يدعونا للتنقيب في أوراقه عله يستطيع لملمة الرسمية منها ليرى ابنته في الضفة الغربية "الشطر الثاني من الوطن المحاصر" يقول وتسبقه عبرات الشوق: "لم أرها منذ 12 عاماً".
كل يوم يلد الحصار مفردات جديدة من الألم والفراق والعبودية لشعب تعلقت آمال أكثر من نصفه على معبر رفح وآمال النصف الآخر على مواد غذائية وسلع أساسية للحياة منعتها الحواجز الإسرائيلية، فإن كنت من دقيقي الملاحظة فإنك لن تجد فرقاً في صورة لغزة منذ عامين واليوم فالحركة العمرانية توقفت وضاقت البيوت بما حوت.
متى بدأ الخناق؟
يمر على الحصار اليوم 493 يوماً فقد أعلن الاحتلال غزة مغلقة على من فيها منذ الثاني عشر من حزيران /يونيو من العام الماضي بعد أن سيطرت حركة حماس على القطاع وطردت رموز السلطة الوطنية منه، وفي أيلول من ذات العام أعلن الاحتلال غزة كيانا معاديا وحينها قام الاحتلال بإغلاق المعابر التجارية الأربع التي يسيطر عليها " ايرز شمالا، ناحل العوز وكارني شرقاً وصوفا وكرم أبو سالم جنوب شرق القطاع، وهو الأمر الذي قامت به السلطات المصرية ولكن ليس بشكل مباشر، فأغلقت معبر رفح وبات الغزيون بين أنياب شمالية وشرقية وناب أشد إيلاماً بالجنوب.
هذا الحصار مشدد سبقه حصار أخف حدة منذ أن فازت حركة حماس بالانتخابات التشريعية لعام 2006، كان سياسياً يشوبه محاولات التضييق الاقتصادي.
حاول الغزيون أن يكسروا حصارهم بأنيابهم فلم يجدوا ممكناً سوى ما أشرف عليه الأشقاء العرب، هدموا الجدار وهرع الآلاف من غزة إلى مصر ليجلبوا ما حرموا منه، عشرة أيام فقط ليعاد إغلاق معبر رفح وتكثف عليه الحراسة الأمنية المصرية وهي محاولة لم يكررها الغزيون خشية كسر أرجلهم كما هدد وزير الخارجية المصري آنذاك أحمد أبو الغيط.
الغزيون وجدوا أن هناك طريقاً آخراً تحت سطح الأرض تؤمن لهم احتياجاتهم اليومية وتقيهم شر السؤال ففروا ثقالاً إلى أنفاق حدودية وحفروا المئات منها باتجاه مصر وهو أمر لم يسلم من محاولات إغلاق وتفجير أسفرت عن سقوط ضحايا إلا أنه مستمر رغم المغامرة وأخطارها.
فأين إنسانية المعابر؟؟
على معبر بيت حانون - إيرز يقف الجندي الإسرائيلي ليمنع وفداً طبياً من دخول القطاع كان يعتزم البقاء ثلاثة أيام طبية خالصة يداوي الجرحى ويمنح العلاج للمرضى ويوزع بعض الآمال بالشفاء وبعض الأموال علها تساعد في تطبيب الجراح.
وعلى معبر رفح يعاد الشقيقان احمد وإبراهيم اللذان قام والدهما باستصدار الفيزا لهما ست مرات لدخول دبي والعمل فيها إلا أنها تنتهي دون أمل ويعيد الكرة فلا معبر يفتح ولا أمل بمغادرة بيت غلب عليه طابع العزوبية.
أما باقي المعابر فهي بوابات على مشارف القطاع مغلقة بين الحين والآخر، حاول المتفقون في اتفاق التهدئة المبرم برعاية مصرية في التاسع عشر من حزيران /يونيو الماضي ان يعيدوا الحياة لتلك المعابر الميتة فكان التذرع بقذائف فلسطينية عشوائية الزمان والمكان هو الهدف المعلن للإغلاق المتكرر والمستمر وللرشح على القطاع ببعض قاطرات البضائع وهي بالطبع" لا تسمن من جوع".
معلقون بين غزة و...
في غزة يتخوف آلاف العالقين من ذوي الإقامات أن تضيع إقاماتهم في الدول العربية والأجنبية جراء استمرار إغلاق معبر رفح وعدم السماح لهم بمغادرة القطاع.
منذ عامين لم تر أم فادي زوجها الذي يقطن السعودية وكذلك بقية أطفالها فهي فقدت إقامتها في المملكة العربية السعودية، عندما التحقت بابنتها وابنها اللذان انهيا تعليمهما الجامعي في إحدى جامعات القطاع وعندما حاول الجميع العودة من حيث قدموا فوجئوا بالمعابر المغلقة وهي كذلك منذ عامين حتى أن تأشيراتهم المتجددة تنتهي بعد شهرين فقط وقد فقد الجميع إقامته هناك وباتت العائلة في انشطار طويل المدى لا يعرف أجله.
السيدة جيهان ابو سلطان ام فادي تقول لمعا:" حياتي دون زوجي صعبة ومستحيلة فالمسئولية التي تقع على عاتقي كبيرة فقط ما أريده من هذه الحياة فتح معبر رفح وتمكيني من الالتحاق بزوجي وعائلتي بالسعودية التي ستفتح لي أبوابها".
مصر هي التي تعيق لم شمل هذه العائلة كما يتهمها العالقون كما أنها هي من تعيق عودة المواطن حاتم ابو طعيمة إلى مزارعه ومنزله كما يقول:" لقد أصيب عملي بالشلل وهناك عشرات العائلات التي تتقاضى راتبها الشهري من عملها بالمزارع التي أمتلك وقد بدأت بخسارة 200-300 ألف ريال سعودي فقد توقف عملي من عام ونصف عندما قدمت إلى قطاع غزة".
ابو طعيمة حاول الخروج من غزة ثلاث مرات باءت كلها بالفشل فبعد ختم جواز سفره من غزة وعلى الجانب الفلسطيني من معبر رفح يعاد من قبل المسئولين المصريين من حيث أتى ليعد المزيد من ايام الحصار برفقة المحاصرين.
أما هذه الفتاة فتؤكد أن حياتها باتت معلقة على معبر رفح، إيمان فياض من وسط قطاع غزة خطبت للشاب نضال فياض يقطن في الأراضي السعودية حيث استطاع الحصول على فرصة عمل منذ عشر أعوام، مر على الخطوبة سبعة أشهر فتح فيها معبر رفح عدة مرات وقامت بسحب تسجيلها للتعليم الجامعي تخصص تاريخ وأساليب تدريس لتدرس عاماً كاملاً ولكنها لم تستطع الإفادة من أوراق عدم الممانعة والتأشيرات المتتالية إلى السعودية وفي بيتها تقول:" لا أعرف كيف ستسمر حياتي اعتقد أنها ستفشل وسأجد نفسي في مشكلة كبيرة فلا التحقت بالجامعة ولا التحقت بخطيبي".
وتناشد فياض كل الضمائر الحية بالعالم خاصة بالذكر الأشقاء المصريين ان ينظروا بعين الرحمة لآلاف الحيوات المعلقة بمعبر رفح كما حالها هي.
ومؤخراً استطاع العالقون من ذوي الإقامات بالسعودية تشكيل لجنة خاصة بهم تنظر في أوراقهم وتحاول الضغط على صانعي القرار من خلال الحملات الإعلامية والتي لم تجد حتى اللحظة آذانا صاغية.
ممثل اللجنة فيصل الصفدي يفضّل على الدوام ان تقرن قصص العالقين بمناشداتهم لكل من بيده القرار على رأسهم الرئيس محمود عباس والرئيس المصري حسني مبارك تحمل هذه المناشدة طلبا واحدا فقط وهو فتح معبر رفح وتمكين العالقين من التوجه لأماكن إقاماتهم.
وحسب وزارة الداخلية المقالة فإن 1200 فلسطيني من أصحاب الإقامات الخارجية عالقون بغزة منهم 340 عالقاً من الأراضي السعودية والعدد آخذ بازدياد حسب الصفدي.
الطلبة العالقون
أما هؤلاء فقصص نجاحهم تكاد تتسرب من بين أصابعهم بعضهم علق بالخارج وكثيرون بالداخل، من أنهى تعليمه الجامعي لم يستطع العودة إلى منزل ذويه في قطاع غزة وقد نفدت أمواله وحجج البقاء هناك، ومن علق بغزة فقد منح الدراسة الجامعية بالدول الأخرى وعلق بين الأرض والسماء ينتظر لحظة الإفراج وفتح معبر رفح فهم جميعا ممنوعون من المغادرة.
عدد هؤلاء الطلبة العالقون في قطاع غزة يتراوح بين 600 -800 طالب بدأت دراستهم بالجامعات المسجلين بها، بعضهم ضاعت منحهم الدراسية والبعض الآخر ينتظر إمكانية السفر وتجديد طلب الدراسة هناك.
محمد هللو ممثل الطلبة العالقين في قطاع غزة حصل على قبول جامعي بجامعة سبانجي بتركيا وقد بدأت الدراسة منذ أسبوعين ولكونه حالة فلسطينية خاصة فقد تعاونت إدارة الجامعة معه بعد اتصالات ومراسلات ومنحته تمديداً للتسجيل حتى الرابع عشر من أكتوبر الجاري ولكنه لم يستطع السفر إلى هناك، فمنحته جامعته اسم مستخدم وكلمة مرور للتسجيل عبر موقع الجامعة وتم له ذلك وبدأ دراسته عن بعد ولكن الأمر يبقى معلقا فامتحانات نصف الفصل على الأبواب وهي في الثاني من نوفمبر القادم وبالتالي فإن المطلوب منه السفر قبل هذا الموعد والأمر معلق بمعبر رفح.
ويواجه هللو مشكلة أخرى فهو ملزم باجتياز امتحان اللغة الإنجليزية للدراسات العليا GRE ويجب أن يتم ذلك بتركيا قبل أن يبدأ دراسته الجامعية.
اما الطالب الجامعي المهندس زهير أبو شعبان فقصته تلخص معاناة مئات الطلبة المتفوقين من قطاع غزة والذين سدت بأوجههم الأبواب.
أبو شعبان أنهى دراسته في مجال الهندسة الكهربائية في العام 2007 وكنتيجة لتفوقه وحصوله على المرتبة الأولى أتاحت له الجامعة الإسلامية أن يعمل في أقسامها كمعيد لمدة سنة، وبعد عام طمح أن يحصل على منحة تخوله من إتمام رسالة الماجستير حيث قال: "رغبت في أن اعد رسالة الماجستير فحصلت على منحة الـ Fulbright الأمريكية نتيجة لجهدي فزاد الحماس بداخلي وعكفت جاهدا لأحصل على تأشيرة دخول إلى أمريكا و لكني فوجئت بسحب المنحة مني بالإضافة إلى اثنين آخرين بسبب تدخل إسرائيلي وتقديم معلومات مغلوطة عنا للجانب الأمريكي.
أكد زهير أنه ممنوع من السفر عبر معبر ايرز بعد أن حققت معه سلطات الاحتلال، مشيراً أن هذا التحقيق لم يمسه بشكل شخصي بقدر ما كان يهدف للحصول على معلومات عن قطاع غزة بحكم انه كان معيد لمدة سنة في الجامعة الإسلامية.
هذا التدخل الإسرائيلي افقده فرصة الدراسة في أمريكا لكنه حصل مرة أخرى على منحة في أفضل الجامعات في لندن وتأشيرة دخول إلى بريطانيا منذ شهر سبتمبر الماضي وهو حاليا ينتظر بصلوات ودعاء أن يتم فتح معبر رفح ليتمكن من السفر ولا تضيع منه فرصة أخرى.
ويقول أبو شعبان: "بعثت مناشدة إلى القنصلية البريطانية لتسهل عملية خروجي عن طريق معبر رفح بحكم إني لا استطيع الخروج عبر معبر ايرز ولكني لم استلم أية ردود حتى الآن وكل ما افعله هو الانتظار".
حصار يقتل المرضى ويبدد الأمل
الحصار قتل حتى اليوم 252 مريضاً 35% منهم أو ما يزيد من الأطفال وهم يدرجون تحت قائمة ضحايا الحصار ذاته المصير الذي ينتظر آلاف المرضى ممن هم بحاجة ماسة للعلاج والسفر إلى الخارج.
هذا العلاج الذي ينفد يوماً بعد يوم
رئيس اللجنة الشعبية لمواجهة الحصار النائب جمال الخضري يؤكد أن 52 صنف دواء بينها سبعة مركزية لمرضى السرطان رصيدها صفر، و135 من المستهلكات الطبية رصيدها صفر، إلى جانب نفاد كمامات الأكسجين للأطفال الخدج وكحول التعقيم وأنابيب التغذية، مما يعرض آلاف للموت البطيء.
اقتصاد مختنق
ولف الحصار خناقه على كافة القطاعات الاقتصادية في قطاع غزة حتى دفن أرباب العمل مصانعهم البالغ عددها 3900 مصنع في قبر جماعي، حيث بات سبعون ألف عامل دون عمل وهم بالطبع يعيلون مئات الأسر بعضها أسر ممتدة.
تقرير لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا" التابع للأمم المتحدة ذكر أن الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ سيطرة حماس في 14 حزيران الماضي تسبب بإغلاق 85% من المصانع العاملة بغزة.
والسبب حسب التقرير الدولي هو عدم توفر مستلزمات الإنتاج والمواد الخام نظراً لإغلاق المعابر، مما اضطرها للاستغناء عن العاملين لديها البالغ عددهم 70 ألف عامل.
وأضاف التقرير، أن الحصار الإسرائيلي الحق خسارة فادحة باقتصاد غزة بلغت عشرات ملايين الدولارات، مبيناً أن توقف استيراد المواد الخام عبر معبر المنطار المغلق تسبب بخسائر بلغت 160 مليون دولار وموضحا أن نصف العمال الذين تم الاستغناء عنهم والبالغ عددهم 35 ألفاً كانوا يعملون في قطاعات البناء والتجارة والخدمات العامة.
للحصار أوجه أخرى جميعها قبيحة وتبشر بسوء، وهو يرهن مليون وخمسمائة ألف فلسطيني بين أنيابه يتوقون ليوم يحمل البشارة ويودع وشاح الموت عن شعب تحت القهر اليومي.
هو تعبير أحبت صحافية في غزة أن تبدأ به كل يوم تشرق به الشمس فتقول :" صباح القهر يا غزة صباح الحصار".