السبت: 11/01/2025 بتوقيت القدس الشريف

الحديث ذو شجون مباراة في قلب الخليل ! بقلم فايز نصار

نشر بتاريخ: 09/11/2008 ( آخر تحديث: 09/11/2008 الساعة: 15:08 )
بيت لحم - معا - قبل ثلاث وثلاثين سنة ، كنت طالبا في المدرسة الإبراهيمية الثانوية ، بالضاحية الجنوبية لخليل الرحمن ، بملعبها الفسيح ، الذي لم يكن قانونيا ، ولكن قلبه الواسع كان يستوعب مداعباتنا الأولى للكرة في الرياضات المختلفة ، تماما كما كان يستوعب الحافلات ، التي كانت تنقل السياح من كل أصقاع الأرض ، وتأتي بالمستوطنين من كل أحياء هذه الدنيا .

يومها كانت المدرسة الإبراهيمية قطبا رياضيا في المحافظة الكبرى ، وكانت مبارياتها مع القطب الآخر ، مدرسة الحسين جملة من الديربيات ، الثرية بالفنون الرياضية ،والتي أزعم أنها أكثر نضجا من كل ديربيات السنوات المتأخرة ، لأن الناس يومها كانوا يعطون الرياضة ، وقد أصبح الناس اليوم يأخذون من الرياضة !

في كرة القدم ، وفي كرة الطاولة ، في كرة السلة ، وفي كل الرياضات الأخرى الفردية والجماعية ، كانت الإثارة سيدة الموقف ، في لقاءات الحسين والإبراهيمية ، وكانت فرق المدرستين تضم لاعبين من أبناء المدينة والجبل ، جنبا إلى جنب ، وكان هؤلاء وألئك ينخرطون في فريق واحد ، وعينهم على ست الكل فلسطيني ، التي كانوا يمارسون الرياضة ممنين النفس بيوم تصبح لهم فيه ملاعب خضراء ، وقاعات فيحاء ، ومسابح وفيرة المياه ،الزرقاء .

يومها كانت المدارس ترفد الأندية بالنجوم ، قبل أن يأتي على الرياضة يوم أصبحت فيه المدارس تستثمر إمكانيات نجوم الأندية ... ويومها كان معلم الرياضة في مدرسة الحسين ، المرحوم إسماعيل أبو رجب ، شقيق رئيس اتحاد اليد الراحل عبد العظيم أبو رجب ، وكان معلم الرياضة في المدرسة الإبراهيمية ، المربي الحاج أحمد الناجي ، وقد عمل المربيان على نقل المواهب الرياضية من المدارس إلى مواقع عميد الأندية ، شباب الخليل ... أذكر يومها أن معظم اللاعبين الذين شاركوا في انبعاث الشباب مطلع السبعينات ، كانوا من نجوم المدارس .

ولما انطلق النادي الأهلي منتصف السبعينات ، استعان الأهلاويون بخبرة الحاج أحمد ، الذي عمل على تأسيس فريق كروي منافس ، فتوجه الى المدارس ، وخاصة المدرسة الإبراهيمية ، فوقعت عيناه على ثلة من النجوم الذين أثروا الحالة الكروية يومها ، ومنهم محمد جودة ونايل الدغيري وعبد العزيز شبانة ومحمد خليل "كوجك" وخليل رمضان .. وغيرهم من النجوم الذين أصبح لهم شأن في الأهلي والشباب بعد ذلك .

تذكرت المدرسة الإبراهيمية ، يوم الجمعة الماضي ، حين دعيت للمشاركة في بطولة كروية شعبية على ملعب المدرسة الابراهيمة ، الذي يرابط على بعد أمتار من الحرم الإبراهيمي الشريف ، المقسم بقرار كمن المحتل الدخيل ، منذ مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف .

منذ الصباح ، كان لاعبو الفرق المشاركة يتوافدون على الملعب المنسي ، ومنذ الصباح ايضا كان جيش الاحتلال يحشد جنده لمواجهة اللاعبين ، فتخيلت أن المعركة الكبرى واقعة لا محالة ، لأن عدة وعديد جنود الاحتلال كان محرزا ، وضم عناصر من الجيش والشرطة وحرس الحدود !

كان المختلون يحشدون جندهم في مواجهة مباريات كروية ليست كالمباريات ، وكان أطباء الخليل وصيادلتها ، ومد راؤها ، ومعلموها وإعلاميوها ، يحشدون فرقا تنافسية من اللاعبين الذي ما نسوا بيتهم العتيق يوما ، وجاءوا إلى بلادتهم القديمة ، للمساهمة في رفع الحصار والإغلاق عنها ، تلبية لنداء من اللجنة الفلسطينية لرفع الإغلاق ، والتي اطلع بالمهام الثقافية والرياضية فيها ، الأخ محمود ابو صبيح .

الفرق الرياضية التي أمت البلدة القديمة ضمت لاعبين من مختلف الأعمار ، في تناسق وانسجام بين أجيال هذا الوطن ، وفي توحد وراء رسالة الرياضة النبيلة ، التي لا يعترف المحتلون بمثلها الراقية .. كان بين الحاضرين المهندس خالد فهد القواسمي ، رئيس لجنة اعمار الخليل، ومنسق لجنة رفع الحصار عنها ، معوضا بحضوره غياب العشرات من المحسوبين على الحركة الرياضية ،ممن لم يتعودوا التأخر عن الولائم ، بمناسفها اللذيذة ، وما يتخللها من خطب عصماء .

لم يتأخر الرياضيون عن نصرة بلدة الخليل القديمة ، وبدأت المباريات بحضور فريق رمزي مثل هيئة التواجد الدولي بالخليل ، وضم لاعبين من تركيا وايطاليا والنرويج وسويسرا والدنمرك والسويد ، وكلهم انخرطوا بسلاسة في البرنامج الكروي التضامني ، العبق برائحة النضال الشعبي الفاعل !

كان اللاعبون - كبارا وصغارا - منخرطين في اللعب ، وكان جنود الاحتلال يراقبون إبداعات أصبحت متعددة الجنسية .. حتى خلت ان بين الجنود من فكر في النزول إلى الملعب لمداعبة الكرة ، خاصة وان بينهم شباب في سن الورد ، جاءت بهم الأجندات الصهيونية ، لحماية نفر من المغتصبين ، الذين أصبحوا عالة على العرب واليهود على حد سواء .

الضابط المسئول عن جنود الاحتلال تقدم من اللاعبين طالبا مغادرة المكان في غضون ربع ساعة ، فتخيلت أن الواقعة ستقع لا محالة ، وان نيران حرب لا تهدا ستندلع في غضون دقائق ، ولما سالت الضابط الذي يتقن العربية جيدا عن السبب ، قال لي : إن جموع المستوطنين سيحضرون ، ولا بدّ من المغادرة خشية الاحتكاك بهم .. لم أصدق الجندي ، وقلت له : دعونا تلعب كرة القدم ، اليس من حقنا مداعبة الكرة في ملاعب الأرض التي ورثناها عن آباءنا ؟ انتم ايضا الا تفكرون في استبدال هذه البنادق بكرات القدم ؟ تجاوز الجندي أسئلتي بتجديد مطلب مغادرة الجميع .. وبعد أخذ ورد وكلام رياضي ، اعترف خلاله الجندي انه يحب كرة القدم ، وانه يشجع مكابي حيفا ، سألني الجندي الغريب : هل تشجع مكابي حيفا ؟ فقلت له : نعم أنا أشجع نادي حيفا ، ولكنه حيفا الفلسطيني ، الذي أسسه اللاجئون الفلسطينيون في العراق ، ولا استطيع تشجيع مكابي حيفا ، الذي أسسه المهاجرون على الأرض التي فرغت عنوة من أهلها .

كان الحديث ذا شجون مع الجندي المحتل ، والقاسم المشترك الوحيد بيني وبينه أنه اعترف بتشجيع برشلونة ، وحب ليونيل ميسي ، والفارق الكبير بيني وبينه ، ما قلت له عن حبي العذري لفريق سخنين العربي المرابط داخل الخط الأخضر ، فكان الحديث عن سخنين مثار غضب جديد لم يتوقف لدى الجندي ، الذي أصر على المغادرة .

بعد دقائق حضر المستوطنون إلى المكان ، كما حذر الجندي ، اللاعبون الفلسطينين صمدوا في ملعبهم ، ولم يحرك المستوطنون شعرة في أجسادهم ، ليأتي الفصل الأخير للبطولة ، عندما اجتاح جنود الاحتلال الملعب وفرضوا إيقاف البطولة ، وأخرجوا كل اللاعبين من الملعب الخليلي العتيق .

أثناء المباريات العفوية ، كان عدد من المستوطنين يمارسون الرياضة على طريقتهم ، مجموعة من المستوطنين الشباب مروا بجانب الملعب هرولة بالملابس الرياضية الكاملة ، ولكن الجري كان على طريقة المحتلين ، لأن العدائين كانوا مسلحين بالبنادق ، التي سلح بها جورج بوش الجمهوري جيش الاحتلال ، قبل مجيء باراك اوباما الديمقراطي ، بجلده الأسود إلى البيت الأبيض .

إنها مفارقة يجب أن ترفق في ملف يرفع للسيد بلاتر ، الذي قارن بنفسه قبل أسبوعين بين من يحبون الحياة ، ويشيدون الملاعب الخضراء المفتوحة ، وبين من يزرعون الأحقاد ، بتشييد حواجز الكيد ، وجدران الفصل العنصرية

والحديث ذو شجون