لماذا لا توفر أمريكا الغنية تأمينا صحيا لكل مواطنيها؟
نشر بتاريخ: 02/12/2005 ( آخر تحديث: 02/12/2005 الساعة: 10:48 )
معا - عن تقرير واشنطن - يستمر الإنفاق على الرعاية الصحية في زيادة مطردة وعلى الأقل بصورة جزئية حيث أن الأفراد غير المؤمن عليهم أو شبه المؤمن عليهم يضطرون أو بمعنى آخر يجبرون على تأخير زيارتهم للطبيب أو تلقي العلاج.
وهذا بالطبع يؤدي إلى زيادة عدد الأشخاص غير الأصحاء وزيادة الحالات الحرجة وبالتالي يصبح العلاج باهظ التكاليف.
وفي الوقت الحالي تحتفظ كل ولاية أمريكية بحق اختيار مدى عمق تغطية نظام الميدكيد Medicaid او المساعدة الصحية في مناطق معينة وذلك بالأخص في حالات الكشف الدوري أو الوقائي للبالغين، وفي واقع الأمر فإن التعليمات العامة الحالية لمهنة الطب لا توصي بالكشف الطبي الروتيني السنوي وفحص البالغين الذين لا تظهر عليهم أي أعراض مرضية، رغم تفضيل نسبة كبيرة من الأطباء والمواطنين لتلك الزيارات السنوية.
وقد صرحت الرابطة الأمريكية الطبية The Journal of the American Medical Association مؤخرا" بأن 94% من الأطباء - وذلك حسب استطلاع حديث للرأي - يعتقدون بأن الفحص الطبي السنوي يحسن العلاقة بين الطبيب ومريضه ويوفر الوقت الكافي للفحص الدوري فيما يختص بالرعاية الصحية والوقاية المبكرة. ومن ناحية أخرى يعتقد 74% من الأطباء بأن الفحص البدني السنوي يحسن من عملية التعرف على الأمراض التي يصعب التعرف عليها خارج عيادة الطبيب أو الأمراض غير المصحوبة بأعراض، وقد صرح مؤخرا" وزير الصحة والخدمات الإنسانية السابق تومي تومسون بأن هناك 75% من تكاليف الرعاية الطبية التي ينفقها الأمريكيون تنفق بالأساس بالدولار على الأمراض المزمنة مثل أمراض القلب والسرطان والسكري.
ومن الممكن توفير البلايين من الدولارات بواسطة تكنولوجيا الطب الوقائي حيث أشارت مؤخرا" وكالة أبحاث وسياسة الرعاية الصحية Agency for Healthcare Research and Policy (AHRP) إلى ابتكار جهاز رسم قلب كهربائي جديد يساعد الأطباء بصورة سريعة ودقيقة على توقع حدوث الأزمات القلبية مما يوفر 728 مليون دولار سنويا" والاستشارة الطبية التي تتعلق بمخاطر التدخين والبدانة.
كما يمكن توفيرالكثير من الأموال التي تنفق في مشوار العلاج من خلال زيارة الطبيب بغرض الوقاية التي من الممكن ان تساعد الأمريكيين على ضبط نظام حياتهم لكي يتمتعوا بصحة أفضل.
ومع هذا فإن القصور في الرعاية الوقائية قد لا يكون العامل الرئيسي في ارتفاع قيمة أقساط التأمين الصحي ونفقات الرعاية الصحية بشكل عام، وقد جاء في تقرير التحالف القومي للرعاية الصحية National Coalition on Healthcare أن الإنفاق على أدوية الروشتات الطبية قد ارتفع بمقدار 11% ليصل إلى 180 مليار دولار سنويا، وفي عام 2003 وحدها استهلك الأمريكيون 3 مليار روشتة طبية.
وبالنسبة لأسعار التذاكر الطبية بالتجزئة فقد ارتفعت بمعدل 7.4% في السنة خلال العشرة أعوام من 1993 وحتى 2003 وهو ما يوازي ضعف معدل التضخم الذي يساوي 2.5%.
موقف شركات الأدوية وشركات التأمين الصحي الأمريكية:
وفي الفترة التي ترتفع فيها تكاليف الرعاية الصحية تحقق شركات الأدوية وشركات التأمين الصحي الأمريكية أرباحا" طائلة، وحسب ما جاء في مقالة للصحفي دافيد فرانسيس David Francis في مجلة كريستسان سينس مونيتور Christian Science Monitor - عام 2003 - فإن شركات العقاقير الطبية تنفق 20 مليار دولار سنويا على الدعاية وتنشيط المبيعات وهو تقريبا" نفس المبلغ الذي ينفق على الأبحاث وتطوير العقاقير.
وفي الوقت ذاته فإن نص قانون مجلس الإشراف على الروشتات الطبية والعقاقير Congress of the Prescription Drug - والذي أصدر مؤخرا" - جعل عملية شحن العقاقير ذات الاسم التجاري المشترك من كندا إلى الولايات المتحدة الأمريكية أكثر صعوبة من ذي قبل وذلك حتى تستفيد صناعة الأدوية المحلية.
وتزعم شركات الأدوية الأمريكية أن هذه العقاقير التي تحمل تركيبة كيميائية مشابهة (للعقاقير التي تنتجها ) (Generic Drugs) تنتهك حقوق الإنتاج والبيع التي اكتسبتها مقابل أبحاثها وتطويرها لتلك العقاقير.
بالإضافة إلى ذلك فإن السبب الأكبر الذي يجعل شركات الأدوية الأمريكية ترفع أسعار الأدوية في أمريكا أكثر من أي دولة أخرى هو أن أنظمة الرعاية الصحية في أوروبا وغيرها تغطي أسعار الدواء مما يجبر شركات العقاقير الطبية الأمريكية على تعويض فرق السعر في سوق أمريكا الأكثر انفتاحا.
والمشكلة الرئيسية الأخرى فيما يتعلق بصناعة الرعاية الصحية هو طبيعتها البيروقراطية ، فعلى سبيل المثال تظل أغلب الملفات الطبية محفوظة في شكل مستندات ورقية مما يؤدي إلى الفشل في استغلال المنافع التي يوفرها النظام الإلكتروني للحفظ المستخدم في أغلب المستشفيات والعيادات العامة والخاصة، وقد جاء في تقرير مركز الوقاية والسيطرة على الأمراض The Center for Disease Control and Prevention (CDC) أن هناك 31% فقط من أقسام الطوارئ والاستقبال في المستشفيات الأمريكية تستخدم سجلات طبية إلكترونية، كما أن هناك عددا قليلا من مكاتب وعيادات الأطباء بنسبة 17% هي التي تستخدم سجلات إلكترونية.
وعلاوة على ان البيروقراطية العقيمة تضيع الوقت والمال وتؤخر العلاج اللازم فإنها أيضا" تتسبب في حدوث الأخطاء الطبية التي تقتل 98.000 مريض سنويا بما في ذلك من خسائر تقدر ب131 مليار دولار وذلك طبقا" لتقديرات معهد الطب Institute of Medicine .
لماذا لا تأمم الحكومة صناعة الرعاية الصحية؟
في عام 1960 وصلت نسبة الإنفاق على الرعاية الصحية 5% من إجمالي الناتج القومي للولايات المتحدة، وفي عام 2003 ارتفعت هذه النسبة لتصل إلى 15.3%، ومن المتوقع خلال العشرة أعوام المقبلة أن تزيد هذه النسبة لتصل إلى 18.7% تقريبا" وهو ما يوازي 3.6 تريليون دولار، وخلال تلك الفترة سوف يتحمل دافعو الضرائب مبلغ قدره خمسة تريليون دولار بسبب برنامج الميدكيد Medicaid ، ومن المتوقع أيضا" أن تستمر أسعار التأمين الصحي والتذاكر الطبية في الارتفاع.
وقد أظهرت دراسة أجرتها جامعة هارفارد Harvard University أن 50% من دعاوى الإفلاس التي تقدم للمحاكم في الولايات المتحدة الأمريكية تكون المصروفات العلاجية سببا" جزئيا" فيها، ويبلغ متوسط الدين غير المدفوع في هذه الحالات 12 ألف دولار أمريكي.
وقد نتج عن معرفة هذه المشاكل الخطيرة التي يتعرض لها قطاع الرعاية الصحية تعالي الصرخات التي تنادي بضرورة توفير رعاية طبية شاملة لكل الأمريكيين على غرار تلك المتوفرة في أوروبا وكندا. ومن المعلوم أن هذه الأنظمة (أوروبا وكندا) تنفق 5% أقل مما تنفقه الولايات المتحدة من إجمالي الناتج القومي على الرعاية الصحية كما أنها تؤمن صحيا" على جميع المواطنين وبذلك تتفوق في هذا المجال على الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى الصعيد الآخر يزعم الذين ينتقدون تطبيق هذه الأنظمة في أمريكا أنها عديمة الجدوى من الناحية السياسية وإنها غير سليمة أيضا" من وجهة النظر الطبية، وقد تتأثر بشكل كبير مصالح الشركات الكبرى للأدوية والتأمين الصحي الأمريكية إذا ما بادرت الحكومة الفيدرالية بتطبيق تلك الأنظمة، بينما يرى آخرون أن سبب الكفاءة العالمية للأطباء في الولايات المتحدة وتوافد أعداد غفيرة من الأجانب لتلقي العلاج في الولايات المتحدة الأمريكية هو الأجور المرتفعة نسبيا" للأطباء الأمريكيين، فهذه المرتبات المرتفعة للأطباء تعتبر بمثابة تعويض أو مكافأة نظرا" لعملهم لفترات طويلة من الوقت وتكاليف التعليم الباهظة والدراسة الممتدة (والتي تعادل عشرة سنوات تقريبا" بعد استكمال الدراسة في الكلية والتي تستغرق أربعة سنوات) بالإضافة إلى الديون التي تنتج بسبب مصاريف التعليم الباهظة.
ومن هذا المنطلق فإن فكرة تأميم وتعميم الرعاية الصحية في الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر فكرة مرفوضة وذلك لأن التأميم سوف يقلل من الحافز المادي بالنسبة للصفوة والأذكياء ومن ثم يثنيهم عن الانضمام لمهنة الطب مما يؤدي إلى تدهور كفاءة الرعاية الطبية في الولايات المتحدة على المدى البعيد.
ويبدو جليا" أن احتمال تحول نظام الرعاية الصحية في أمريكا إلى النظام العالمي للرعاية الصحية هو احتمال ضعيف، على الأقل في القريب العاجل، ولكن الكثيرين يدركون ضرورة العمل على إصلاح نظام الرعاية الصحية سعيا إلى ضمان أن يحظى الخمسة وأربعين مليون أمريكي مما فيهم ملايين الأطفال بمزايا التأمين الصحي الجيد الذي يتمتع به الأغنياء في البلاد ذاتها.