مخاطر لزلازل قادمة والفلسطينيون يغمضون أعينهم!!
نشر بتاريخ: 16/12/2008 ( آخر تحديث: 16/12/2008 الساعة: 22:49 )
رام الله- تحقيق عبد الباسط خلف- خاص معا - يطلقون عليها الهزات الأرضية، أو الزلازل، وبعضهم يختار لها تعبير "غضب الطبيعة"، لكنها متشابهة فيما تسببه من كوارث و قائمة طويلة من الضحايا والبيوت المهدمة والمشردين والمنكوبين والألم الذي لا يوصف.
لا يناقش هذا التحقيق آثار الهزات الأرضية المدمرة في مكان ما، ولا يشير لحادثة بعينها وما يتصل بها من مأساة إنسانية مُركبة، لكنه يسلط الضوء على التقصير في إدارة الأزمة بالأراضي الفلسطينية قبل ساعة الصفر، و يشير إلى حالة اللامبالاة في التعاطي مع واحدة من أعقد الأزمات التي تسببها الطبيعة في أقل من دقيقة. كما لا يهدف لبث الرعب وإنما يقرع جرس الإنذار، لعل وعسى....
لعبة!
أفتش عن معلومات وحقائق، فأصل إليها، لكنني أتأثر بقصة شاب فلسطيني، يسكن بلدة برقين الملاصقة لمدينة جنين، شمال الضفة الغربية، فأستهل بها. يقول زيدان إبراهيم، الذي شارف الوصول إلى عقده الرابع، مع تعديلات لغوية لا تؤثر في الجوهر: "لا زالت ذاكرتي تستضيف العديد من المشاهد واللحظات المرتبطة بالهزات الأرضية، ففي بدايات الثمانينات، بينما كنا نزرع في حقلنا نبات الكوسا، رجت الأرض، وقتئذ لم نشعر نحن الأطفال بالهزة، وتصورنا أننا خسرنا نصف عمرنا، لأن اللعبة راحت علينا."
والكلام موصول للشاب الذي يعتمر قبعة زرقاء ويعمل مزارعًا: "في ذلك الصيف، أسرعت إلى شبان من بلدتنا، أسألهم إذا ما عاشوا هذا الحدث، أم أنهم خسروه، فجاءتني هذه الكلمات:"راحت عليكم يا صغار، مش كل يوم في هزة أرضية." ظننا بالفعل أننا خسرنا لحظات مهمة وتاريخية لن تتكرر ونحن على قيد الحياة"
في الصباح التالي لتلك الحادثة، عاد إبراهيم إلى المدرسة، وراح يتناقل الراويات من على تلك المقاعد الخشبية، بعض رفاقه التلاميذ قالوا بفرح: "شعرنا مع أبي بالزلزال"، وآخرون دللت إجاباتهم ولو أن شيئاً رائعاً قد أفلت منهم. لكن الأستاذ لم يشرح لهم عن الهزات الأرضية، ولم يرد على استفساراتهم، وقال لهم: "هذا مش(ليس) درسنا!"
مما لا يمكن محوه من ذاكرة المزارع، ذلك الزميل مجعد الشعر والشقي في حينه، الذي قال: "الزلزال أحلى من تساقط الثلج، الأرض بتدور مثل اللعبة!"
يختتم زيدان: " من يومها، صرت أتحدث لأطفالي عن أخطار الزلازل، ولا أنتظر المدرسة كي تخبرهم بها، وحينما بنيت بيتي، راعيت قدر استطاعتي أن يكون منزلي ملائماً لبلاد تزورها الهزات الأرضية بين فترة وأخرى."
تقصير
يقول الشاب عادل عبد الفتاح، الذي يحمل درجة الماجستير في الجغرافيا: " لم تسعفنا دروس الزلزال التي كنا نتلقاها في المدارس، في بناء ثقافة مضادة ووقائية لإعداد العدة لساعة الصفر، وللتقليل من النتائج الجسيمة لهذا النشاط الطبيعي."
يتابع: "معلم الجغرافيا كان يدمج المزاح بالجد للرد على أسئلتنا حول الخطر من الزلازل، فيكتفي بذكر تعريف سريع للظاهرة: "الزلزال هو ضعف في القشرة الأرضية، وينتج عن تحرك الصفائح."
يتذكر عبد الفتاح:" في الصف السادس الابتدائي، كان المعلم نفسه، يمطرنا بالحديث عن حفرة الانهدام، لكنه لم يكلف نفسه أن يزرع في عقولنا البريئة ثقافة ما بعد الظاهرة، وما يمكن أن تسببه من كوارث للبشر والمنشآت على حد سواء"
يوالي: "في مواسم لاحقة، كبرنا وصرنا نسمع عبر التلفاز أخباراً بطيئة عن زلازل عنيفة ضربت المكسيك واليابان ومناطق من الولايات المتحدة الأمريكية، لكننا لم نسمع في المدرسة، وتحديداً في دروس الجغرافيا أو العلوم العامة، أية إشارة للحدث وما سببه من كوارث."
يضيف: "في المدرسة الثانوية، سألت المدرس: كيف قاس العالم ريختر الهزات الأرضية على سُلمه؟ وهل شاهد زلازل من العيار الثقيل ليؤكد صدق نظريته؟ جاءتني إجابة غير مكتملة، وطالبتني بالكف عن هذه الافتراضات الخارجة عن المنهاج!
يتخلى عادل عن المدرسة، ويصل الجامعة، ويختلف الحال بعض الشيء، فعلى شرف مساق جغرافية فلسطين، راح يمطر البرفيسور بسيل من الأسئلة: لماذا يدمر الزلازل بلدنا، بينما تعيش اليابان في قلب نشاط زلزالي ولا تحرك بناياتها الشامخة ساكناً؟ تصله إجابات مفادها: "هناك يعدون العدة، أما عندنا فنسير على باب الله (أي بدون تخطيط)."
يوالي: "خلال دراساتي العليا في الجغرافيا، اكتشفت مدى الحاجة للإجراءات الوقائية لمواجهة الزلازل، وبخاصة وأن الحقبة الزمنية الماضية، والتي لا تتجاوز المائة عام، تؤكد أن الزلازل في الأراضي الفلسطينية نشاطها موسمي، والأمر اليوم "مسألة وقت. لكن مؤسساتنا لا تحرك ساكناً للتعاطي مع هذه الظاهرة الطبيعية الخطيرة، وكل ما تفعله هو انتظار الأزمة بأعصاب باردة."
ينهي" لا نعلم عدد الخسائر البشرية التي سنتكبدها في زلزال قادم - لا سمح الله -، ولا نعرف حجم الدمار الذي سيحدُث، لكننا لا نسمع بإجراءات وقائية للتقليل من الفاجعة، ونتعامل وكأن "العُرس" عن الجيران!"
تبرير
بدوري، أتذكر جيداً التعقيب الذي كان يصدر في خطب يوم الجمعة المتكررة، إذ يسارع خطيب المنبر بالترغيب والترهيب، لربط الزلزال بالمعاصي التي يرتكبها الناس، فلذلك يغضب الله عليهم، ويدمر بيوتهم، ويصيب بلادهم بالهزات الأرضية!
وقتها، تبادر إلى ذهني سؤال فأسرعت بالاستفسار عنه من الواعظ: "يا شيخ، ماذا لو حدثت الزلازل في أماكن كلها مخصصة للأطفال الذين لا يعرفون شيئاً من الدنيا، وفي دولة إسلامية؟ هل ربنا القادر والرحيم يحاسب الأطفال كالكبار؟ وهل اليابان التي تتعامل مع الزلازل بحذر، وتصمم بيوتاً مقاومة للهزات الأرضية لا يعاقبها الله؟ وماذا عن المهندس"المسلم" الذي يغش البناء ولا يراعي احتمالية وقوع زلزال؟، وكيف هو الحال بالنسبة إلى المهندس البوذي الذي يتقن عمله ويتخذ الاحتياطات المناسبة؟"
تأتي الإجابة غير متماسكة، ولكنها تُبقى الباب مفتوحاً أمام تشكيل المزيد من الأسئلة، وتطويرها في مراحل متقدمة.
وقاية غائبة
أفتح حواراً مع عضو في بلدية البيرة، عن استعدادات واحدة من أكبر المدن في الأراضي الفلسطينية للزلازل، فيقول لي:" لا تتعب نفسك، ليس لدينا استعدادات، حتى أن "الكود الزلازلي" الخاص بالإنشاءات والأبنية، غير متوفر وغير فعَال مطلقاً."
يقول مهندس في إحدى بلديات محافظة جنين(م.ش)-طلب ترميز اسمه؛ لأن رئيس الهيئة المحلية لا يفضل حديث الخبراء للصحافة بدون إذنه- لا أحد يتطرق اليوم إلى ترخيص البيوت أصلاً، فكثير منها لم يحصل على رخصة بناء، فكيف إذا تحدثنا عن إلزام أصحاب البيوت في وجوب مراعاة مقاومة مساكنهم للهزات الأرضية!
يتابع: "بالتأكيد، لا تراعي معظم البلديات قضية مقاومة الزلازل، كما أن نقابة المهندسين مقصرة في هذا المجال بشكل كبير، وعلينا أن نفكر منذ اليوم في تحرك فوري، لتقليل مخاطر الزلزال القادم-لا قدر الله- قدر المستطاع."
ليوم الله بعين الله!
يقول مهندس ومدير شركة مقاولات، آثر عدم نشر اسمه:" في مدينة كرام الله، أجزم لكم أن العمارات التجارية التي يمكن أن تصمد في وجه زلزال قد يقع -لا قدر الهم- هي أقل من عدد أصابع اليد الواحدة."
يتابع:" الاحتياطات الوقائية تحتاج لإشراف هندسي وجهد، وهذا يعني إنفاق المزيد من المال، كما أن معظم أصحاب العقارات والأبنية، يقولون: (ليوم الله بعين الله.) وهم معنيون بالاستثمار، والسلامة العامة وقت الأزمات مسألة غير ملموسة، ولا دخل لها بلغة المال وحسابات الأرقام والدولارات."
يضيف المهندس استناداً لوثائق تاريخية: " في الحادي عشر من تموز 1927 ضرب فلسطين زلزال مدمر، امتد حتى جنوب لبنان، وتسبب في مقتل 350 نسمة وتحطيم 800 منزل في منطقة نابلس لوحدها."
ينهي :" في إسرائيل يتحدثون عن سيناريوهات الزلزال القادم، وقد حددوا أعداداً تقريبية للقتلى والخسائر والدمار، أما نحن فلم نفعل شيئاً إلى اليوم."
لامبالاة !!
سكن الصحافي والباحث محمود خلوف مدينة نابلس لأكثر من ست سنوات وعمل فيها، ولاحظ فيها ما يثير الاستغراب. يروي: "عندما كنت أدخل البلدة القديمة من نابلس، في العام 1996، كنت أشاهد عدداً من المباني الآيلة للسقوط، التي يعيش فيها مواطنون، رغم التشققات الواضحة للعيان.
يتابع: "مما أتذكره أنني سألت مواطناً، ألا تخشون الزلازل، وبخاصة أنكم مدينة ذات طبيعة جبلية، وشهدت دماراً كبيرًا خلال سنوات زلازل سابقة؟، فرد عليّ: "نحن الزلازل بحالها، والغريب أن ذلك الرجل كان يعيش في بيت مشقق الجدران، فيما يثبت على سطح البناء طبقاً تلفزيونياً لاقطا! فكررت سؤالاً آخر: سيدي لو تتخلى عن (الدش)، وترمم بيتك، هل ستخسر شيئاً؟ يأتيني الرد: "سيبك من هالحكي الفاظي!!"
في شباط 2006، أشعر شخصياً، بهزة أرضية حرّكت طاولة حاسوبي، فأتصل بعد يومين بمسؤول رفيع المستوى، كي نطلق لجنة تفحص أبنيتا وجاهزيتها للزلازل.
تموت الفكرة قبل أن يجف حبر اقتراحي. يرد أحد المسؤولين غير الحكوميين: "الزلازل لا تصيب أرضنا المقدسة!"
أصل الولايات المتحدة الأمريكية، واسأل عن التصاميم الهندسية المقاومة للزلزال، فأعرف أن العمارات العملاقة، تراعي هزات الأرض، بعكس أبنيتنا القزمية التي لا يكلف أصحابها أنفسهم عناء التفكير بالمستقبل!
في صيف العام الفارق 2007، أسير في شوارع طوكيو، وأشاهد بأم عيني عمال ومهندسون يعدون العدة لتشيد عمارة تراعي الأنشطة الزلزالية، في ذلك البلد الذي تهزه الأرض فيهز العالم، من دون أن "يرمش جفن" بناية واحدة من هزات قد تحدث في بلدنا دماراً هائلاً.
بعد عودتي من بلاد الشمس، ازور مدينة طولكرم لغرض حوار صحافي مع الناشطة النسوية ندى طوير، وفجأة يرن هاتف مكتبها: تخبرنا السيدة ندى أن الجهات المسؤولة قررت إخلاء المدارس والمؤسسات لأن زلزالاً سيحدث اليوم! أضحك وأسال السيدة: هل يعقل أن نستشعر بالزلازل قبل ساعات؟ وكيف أخرج مدرسو الجغرافيا والعلوم التلاميذ وهم على يقين أن هذا لا يحدث؟
أقطع الحوار، وأتمشى في المدينة الصغيرة: اقرأ عبر شريط خدمة إخبارية محلية: الأجهزة الأمنية تحقق مع شخص أشاع وقوع الزلازل عن طريق المزاح مع صديقه!
سُبات
يتابع الباحث في مركز العمل التنموي "معاً" بمدينة رام الله، جورج كرزم، بشغف في ترجمات الصحف العبرية عن السيناريوهات السوداء للزلازل، والخسائر المتوقعة، ومما قاله خبير إسرائيلي أن نصف الجيل في الدولة العبرية سيُمحى عن بكرة أبيه، لو وقعت الزلازل وقت الدوام الرسمي.
يروي كرزم، وهو أيضاً المحرر المسؤول عن مجلة "آفاق البيئة والتنمية" الإلكترونية: "فتحنا أكثر من مرة في الموقع الإلكتروني، وفي الجريدة المطبوعة التي توقفت عن الصدور، ملف الزلازل، وصدمنا من التقصير المبالغ فيه من جانب المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، التي لا تضع القضية في سلم أولوياتها."
يضيف: "استضفنا في حلقة حوار خبراء بالهزات الأرضية، ومسؤولون لكننا ذهلنا بحالة اللامبالاة بالأمر، وهذا مؤشر خطير، سيزيد من عدد الضحايا والنتائج المدمرة، في حال وقوع الزلازل-لا قدر الله-."
ينهي: "نشر الإسرائيليون خرائط للمناطق التي سيضربها الزلزال، وأجروا تمرينات مختلفة لرفع الأنقاض والتعامل مع الكارثة، أما عندنا فلم يتحول الأمر بعد إلى حالة قلق، وهذه مسألة خطيرة."
أزمة اختصاص!
أحاور رئيس الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني د. لؤي شبانة، عبر مجموعة بريدية فلسطينية في شبكة الإنترنت بالسؤال: "هل في نيتكم تنفيذ مسح حول جاهزية المباني في فلسطين للزلازل، وبخاصة وأن خبراء اعتبروا أن الزلازل مسألة وقت، ليس إلا. والمخيف أن أحداً لا يحرك ساكنا نحو الرعب القادم؟"
يأتي الرد: " هذا عادة ليس جزءا من الإحصاءات الرسمية، بل عمل مراكز أبحاث متخصصة ويتطلب أجهزة محددة لذلك. كما أن هذا الموضوع بحاجة إلى تجميع معلومات من الجهات ذات الاختصاص مثل وزارة الأشغال العامة والإسكان ومركز هندسة الزلازل في جامعة النجاح الوطنية والمقاولين ونقابات المهندسين، لمعرفة وضع المباني في الأراضي الفلسطينية، بالإضافة إلى المؤشرات التي تعكس مدى جاهزية المباني لتحمل الزلازل، وعلى أي درجة، عدا عن المناطق المهددة أكثر من غيرها بالهزات في الأراضي الفلسطينية."
من جانبه، يرى موظف صغير في جهاز الإحصاء، خلال ورشة تدريبية لتعميم المعرفة الإحصائية، نظمت في آب 2008 أن المسوح المختلفة والمتخصصة التي ينفذها طاقم الإحصاء مكلفة مالياً، كما أنها ممولة من جهات مانحة مختلفة، ولو توفر التمويل والدعم اللازم لمسح الزلازل ومدى قدرة المنشآت في الأراضي الفلسطينية على مقاومته، لما تأخرنا في تنفيذه.
تجربة قاسية
أخطط وأقترح وأنفذ يوماً دراسياً لوزارة الإعلام الفلسطينية، عن الهزات الأرضية، وأنسق مع د. جلال الدبيك مدير مركز علوم الأرض وهندسة الزلازل في جامعة النجاح، نتفق على موعد في مدينة جنين، وبالصدفة يعقب ذلك التاريخ هزة أرضية خفيفة ضربت الوطن المهتز أصلاً.
أحصد ردوداً فاترة وباردة على موضوع اليوم الدراسي، ويقول لي أحدهم: هذا ليس وقت الحديث عن الزلازل. نعقد الحلقة، ويصلنا عدد متواضع من الحضور، نصاب بالرعب من أرقام د. جلال وحقائقه وخرائطه وصوره، والمصيبة الكبرى أن أحداً لا يحرك ساكناً للوقاية والعمل والحذر.
وردتني مكالمة هاتفية تعلق على موضوع الندوة، وتدعي أن الهزات الأرضية لن تحدث في فلسطين. كانت تلك المحادثة الهاتفية سبباً إضافياً للتمسك باليوم الدراسي. يأتي د. جلال، ويلقي محاضرة قيمة جداً، وسط حضور باهت ومنشغل بأحاديث "حيوية" برأي قصيري النظر.
مما دعا إليه، وقتئذ الدبيك، الشروع الفوري في وضع خرائط علمية للمدن والتجمعات السكنية الفلسطينية، للتعامل بشكل فعّال ما بعد الهزات الأرضية، ولتوضيح المناطق الحساسة، والسيناريوهات المحتملة للتعامل مع الأزمة، وتشكيل فرق الإنقاذ والإغاثة والتجمعات الآمنة وخطط عمل لما بعد الكارثة.
ومما قاله:" إن التعاطي مع الزلازل ينبغي أن يخضع لخطوات تنفيذية، تشتمل على الاستعداد للكارثة، إذا ما وقعت لا قدر الله، وتمر بمواجهتها أثناء حدوثها، وتنتهي بأخذ العبر من نتائجها."
كانت الحلقة الدراسية في شباط الماضي ، وها نحن لا نبتعد عن شباط 2009 غير أيام معدودات، لكن أحداً لم يحرك ساكنًا، ولم نقرأ في وسائل الإعلام عن لجان أو خطة طوارئ أو تمرين على إخلاء مصابين، أو عطاء لتوريد مستلزمات حيوية لليوم الأسود.
في حوار طويل ثانٍ، على هامش محاضرة علمية، يتحدث د. الدبيك ، الذي يحمل درجة الدكتوراه في الهندسة من جامعة كلوج نابوكا التكنولوجية الرومانية، عن أسباب الهزات الأرضية، وحركة القشرة الأرضية والصدوع التكتونية، بالإضافة إلى الموجات الزلزالية، ومقاييس درجات الزلازال، وزلزالية المنطقة العربية، والنشاط الزلزالي في فلسطين.
ويتطرق إلى التشكيلات المعمارية والإنشائية الدارجة في فلسطين وأثرها على السلوك الزلزالي المتوقع للمباني. فيوضح معايير تخفيف المخاطر، وقابلية الإصابة الزلزالية لأنماط المباني الشائعة في الأراضي الفلسطينية، ومؤشر قابلية الإصابة، عدا عن التقييم الزلزالي للمباتي وتحليل قابلية إصابتها، ويستعرض نتائج دراسات قابلية الإصابة الزلزالية.
هيئات ولجان..ولكن!
يقول في الصفحة 105 من كتابه" الزلازل وجاهزيتنا":" في فلسطين يُعتبر المجلس الأعلى للدفاع المدني الجهة المركزية المسؤولة عن إدارة الكوارث، وقد تأسس هذا المجلس في العام 1998، إستناداً لقانون الدفاع المدني رقم 3 لسنة 1998، وبقرار من مجلس الوزراء، ويضم في عضويته كافة الجهات الرسمية من الوزارات والهيئات الحكومية ذات العلاقة وبرئاسة وزير الداخلية ، ومنذ التأسيس لم يجتمع هذا المجلس إلا في شهر تشرين ثاني 2005."
ساهم د. الدبيك نفسه مع عدد من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية في نهاية العام 2004 في تأسيس هيئة وطنية للتخفيف من أخطار الكوارث، مهمتها الأساسية حشد وتجميع الطاقات الوطنية، وبخاصة غير الحكومية منها.
يقول: "من المفترض أو من المتوقع أن يتم في المستقبل القريب إجراء تنسيق وعمل مشترك بين المجلس الأعلى والهيئة الوطنية."
يُعلّق (ع.م)، وهو عضو في إحدى اللجان الرسمية المسؤولة عن مواجهة الأزمات:" لا تمتلك لجنتنا خطة عمل، كما أن اجتماعاتنا غير علمية ولا تضم خبراء، وباختصار لن ننجز شيئا ملموساً لأسباب تنظيمية ومالية وفنية."
جاهزية أعلى، مخاطر أقل
يستهل د. الدبيك محاضراته العلمية المتكررة، كما فعل في كتابه: الزلازل وجاهزيتنا" بعبارة:" جاهزية أعلى، مخاطر أقل"، ويتابع الحديث عن المخاطر التي تنجم عن الهزات الأرضية وأي ظاهرة طبيعية وصناعية، ويقول إنها تتوقف على مصدر الخطر وقابلة الإصابة، ومدى الجاهزية.
ومما يضيفه: إننا لا نستطيع منع الزلازل، ولا يمكن التوقع بلحظة حدوثها بالضبط، لكننا نستطيع تقليل مخاطرها، وهذا يرتبط بمصدرها وموقعها وقابلية الإصابة في صفوف المدنيين والأبنية على حد سواء. في الوقت الذي يتحتم علينا تحليل المخاطر وقابلية الإصابة، وتحديد أنواع التهديد، لنصل في النهاية إلى معرفة بمقدرة المجتمع ومؤسساته على مواجهة تبعات الزلازل.
ويحث د. الدبيك، المؤسسات والأفراد وصناع القرار، على انتهاج سياسة الأخذ بالأسباب، والوقاية، قبل حدوث الكارثة للتخفيف أكبر قدر ممكن من تبعاتها وويلاتها.
ويخصص حيزاً كبيراً من الصفحات لعرض مجموعة من الحقائق العلمية، المدعمة بالصور والأرقام والدراسات السابقة التي عالجت النشاط الزلزالي، واتجاه الحركة النسبية للصفائح الأرضية، كما يخصص باباً للتعريف العلمي بالظاهرة.
ويقول الدبيك: إن البحر الأحمر يزداد عرضاً في كل سنة، بمعدل اثنين سنتمتر مربع، فيما تتحرك فلسطين مبتعدة عن الأردن، بمعدل من 5-7 مليمتر كل عام، وبعد قرابة 15 مليون سنة، ستصبح مدينة الخليل مكان العقبة الأردنية.
شيء من التاريخ
ويستعرض الدبيك العضو في مجموعة خبراء دولية لتخفيف من مخاطر الزلازال في حوض المتوسط ، تاريخ النشاط الزلزالي في فلسطين منذ مئات السنين، فيشير إلى سنوات 1068، و 1204، و1212، و1402، و1339، و1546، و1656،1666 وهزات الأعوام1759، و1834، و1837،و1854،و1859،و1872،و1873،و1896،و،1900، 1903،و1923، و1927، و1945، و1995، ويعرض صوراً وخرائط ووثائق للزلازل الفارقة، مشيراً إلى أماكنها أما في منطقة البحر الأحمر، أو في شمال فلسطين المحتلة العام 1948.
ويقول د. الدبيك وهو نائب رئيس الهيئة الوطنية للتخفيف من آثار الزلازل: إن الهزة الأرضية التي وقعت في العام 1759، خلفت نحو أربعين ألف ضحية في فلسطين ولبنان وسوريا. وهذا يعني أن الدراسات العلمية أجمعت بحدوث زلزال، يمكن أن يكون بين 6 درجات وست درجات ونصف الدرجة على مقياس "ريختر"، إذا كان مركزه البحر الميت، فيما ترى بعض الدراسات أن زلزالاً مصدرة المناطق الشمالية، ممكن أن تصل درجته إلى سبعة بحسب مقياس "ريختر"، والذي يعني أن تكون سرعته الأفقية بين 300-700 سنتمتر مربع في الثانية، ويؤدي لإحداث تشققات واضحة في المباني المقاومة للزلازل، فيما تميل المنشآت الخرسانية بشدة أو تنحني خارج مستوى الإطارات، وتحدث تصدعات كبيرة في الحوائط الحاملة غير المسلحة، وتنهار الكثير من الإنشاءات سيئة التنفيذ، فيما تنفصل بعض المباني عن أساساتها، وتتشقق التربة بوضوح، فيما تقص بعض الأوتاد الأرضية.
ويتطرق إلى الانزلاقات الأرضية التي حدثت في نابلس، ويدعو إلى أخذ علم سياسة استخدامات الأراضي بالاعتبار، لأن الكثير منها تتسبب في إحداث تضخم زلزالي يؤدي إلى رفع الخسائر.
ويشير الدبيك إلى تجارب دولية في الولايات المتحدة واليابان والمكسيك والإكوادور، فمثلاً تعد ولاية كاليفورنيا واحدة من أكثر المناطق في العالم عرضة للنشاط الزلزالي، لكنها الأقل خسارة، كون الأبنية مصممة لمقاومة الهزات الأرضية، فيما انهارت مقار الدفاع المدني والمستشفيات في أمريكا اللاتينية، وقتلت أطفالاً وأعضاءً في فرق الدفاع المدني.
رقابة على الجودة
ويصف الدبيك الزلزال بأنه رقابة جودة على الإنشاءات البشرية، فهو يستطيع تمييز المناطق المعدة جيداً من تلك السيئة.
ويقول:" يجب أن نعي تماماً أن الزلازل ليست بالضرورة عقوبة ربانية، كما يعتقد بعض الناس، فقد تكون امتحاناً لجاهزية الشعوب والدول، كما أن حصر دائرة الفساد عند الحديث عن الزلازل في مجال محدد، كالفساد الأخلاقي ساهم بطريقة غير مباشرة في تعزيز الحالة القائمة عند الأمة، فالفساد يجب أن يؤخذ بمعناه الشمولي، فمن لا يجدد علمه ويتابع تطوير مهنته، ولا يأخذ العبر من تجارب الآخرين وأخطائهم يعد فاسداً."
رعب بالأرقام
يرسم د. الدبيك في كتابة ومحاضراته صورة سوداء للحال القائم؛ فيقول: "المعدات الثقيلة للتعامل مع الزلزال وتجهيزات الدفاع المدني ومعدات المستشفيات الميدانية ومستلزمات فرق الإنقاذ، وتوافر المساحات المفتوحة وسط المدن لتكون مسرح عمليات فرق الإغاثة، ليست في متناول اليد بالإجمال، أو متواضعة جداً."
وبلغة الأرقام، فإن عملية الإغاثة الحالية من المساعدات متوفرة بشكل ضعيف في وزارة الأشغال العامة، وضعيفة جداً في أجهزة الدفاع المدني والبلديات، كما أن الطعام الجاهز غير متوفر إلا لطواقم الإنقاذ، وليس للمنكوبين. وينحصر عدد المستشفيات الميدانية التي تتوفر وقت الأزمة بواحد فقط لجمعية الهلال الأحمر. وينحصر عدد الخيام الموجود في متناول اليد بألف ومائتي خيمة فقط. وتسعة عشر بلدوزرًا، وثلاث حفارات كبيرة، وستة صغيرة، ولا تمتلك وزارة الأشغال العامة سوى 15 شاحنة، مقابل 142 سيارة إسعاف فقط، و64 سيارة إطفاء، ولا تتوفر أية طائرة مروحية، كما أن الاحتياطي من الوقود ضعيف جداً، ولا يكفي غير أسبوع واحد فقط، في حين لا تفي قطع الغيار للمعدات المختلفة بالحاجة.
ويبقى السؤال: من سيتبنى بشكل عاجل، خطة وقائية لإدارة كارثة الهزة الأرضية القادمة؟ وأي جهة فلسطينية يمكن أن تلام في حال وقعت الكارثة-لا قدر الله- بانتظار إجابة شافية..!