فياض أمام مؤتمر في بيت لحم: آن الأوان لوضع حدّ لسيطرة شعب على شعب آخر
نشر بتاريخ: 12/02/2009 ( آخر تحديث: 13/02/2009 الساعة: 10:45 )
بيت لحم - قال رئيس الوزراء د. سلام فياض أنه آن الأوان لوضع حد لسيطرة شعب على شعب آخر، ومصادرة أرضه، وتطلعاته الوطنية، وحقه الطبيعي، كسائر شعوب الأرض في الحرية والحياة الآمنة والسلام.
وأضاف، في كلمة أمام الدورة الخامسة عشر للمؤتمر الدولي لوحدة الشعوب الأرثوذكسية حول دور الديانات في البحث عن قرارات السلام والتحديات العالمية والتهديدات الإقليمية، في قصر المؤتمرات ببيت لحم اليوم، إن انعقاد المؤتمر في فلسطين، وفي هذه اللحظات الصعبة والمؤلمة والكارثية التي يعيشها شعبنا، إنما يشكل رسالة دعم وتضامن ضد الظلم والقتل والقهر والاحتلال والاضطهاد.
وقال رئيس الوزراء إن الشعب الفلسطيني أصّل في هذه الأرض قيم التسامح، وسار على خطى الأنبياء، وحافظ، بمسيحييه وبمسلميه، على ثقافة وقيم التسامح والتعايش، رغم الظلم التاريخي الذي تعرض له منذ ما يزيد عن ستين عاما.
وأكد د. فياض أن التسامح والتعايش بين الأديان ضرورة تقتضيها الحياة الإنسانية والعيش بين بني البشر. وأضاف: حتى نتمكن من حماية هذا الإنجاز، والمطلب الإنساني النبيل، يتوجب علينا العمل لتحقيق العدالة والسلام، ووضع حد لأعمال العدوان والقتل وغطرسة الشعور بالقوة والتفوق.
وقال: إن أسوار البلدة القديمة في مدينة القدس، وهي تحتضن في رحابها مآذن المسجد الأقصى وأجراس كنيسة القيامة، تشكل ومع كل حجر وركن في شوارعها وأحيائها، خلاصة القدرة الهائلة على التعايش بين الحضارات والثقافات، ومبعث الأمل لأهلها بالخلاص من قيود الاحتلال.
وحول العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أكد رئيس الوزراء أنه خلف كارثة إنسانية غير مسبوقة، سقط خلالها ما يزيد عن الألف وأربعمائة شهيد، وأكثر من خمسة آلاف جريح، أغلبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء والمسنين، بالإضافة إلى تدمير أكثر من أربعة آلاف منزل، وتضرر آلاف المنازلٍ، وتشريد أكثر من تسعين ألف مواطن باتوا بلا مأوى، إضافة للتدمير والضرر الواسع الذي لحق بالمنشآت الصناعية والزراعية ومختلف المرافق الاقتصادية والعامة، والبنية التحتية وشبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء، والطرق والمنشآت الحيوية الأخرى، وكذلك مقرات الأمم المتحدة ومدارسها وعياداتها ومستودعاتها الغذائية والدوائية، والمستشفيات الأهلية، وطواقم وسيارات الإسعاف.
وأضاف: إن الانقلاب على السلطة الوطنية، أدى إلى انقسام الوطن في حزيران 2007، وتعميق الانفصال منذ ذلك التاريخ، مشيرا إلى أن هذا الانقسام ترافق مع مظاهر انقسام مؤسفة في الصف العربي، وهدد ولا يزال يهدد وحدانية التمثيل الفلسطيني، والذي تعبر عنه منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
وأكد رئيس الوزراء أن المصالحة الوطنية وإعادة الوحدة للوطن، وتحمل المسؤولية لإنقاذ شعبنا من الكارثة التي ألمت به، تمثل أولوية وطنية عليا، وهي المقاومة الحقيقية لجوهر المشروع الإسرائيلي، والرد العملي والمباشر على العدوان الإسرائيلي ونتائجه.
وفيما يلي النص الكامل لكلمة السيد رئيس الوزراء
السيـدات والسـادة
الضيـوف الأعـزاء
أود في البداية أن اعرب لكم عن تقديرنا البالغ لتلبيتكم دعوة سيادة الأخ الرئيس محمود عباس بعقد الدورة الخامسة عشرة لمؤتمركم في مدينة بيت لحم... مدينة المهد، رمز العدل والسلام الذين بشر بهما السيد المسيح عليه السلام.
ويسعدني أن أنقل لكم تحيات السيد الرئيس، وتمنياته لكم بطيب الاقامة، ولمؤتمركم النجاح، لما فيه خير البشرية وقضية السلام والحرية والعدل لكل شعوبها.
واسمحوا لي كذلك أن أنقل لكم مشاعر الفخر والاعتزاز التي يشعر بها أبناء شعبنا الفلسطيني، وأهل مدينة بيت لحم، مدينة المحبة والسلام والأمل، وهي تستضيفكم رغم الاحتلال والاستيطان، ورغم الحصار والعزل والجدار، وما يولده كل ذلك من كراهية.
إن انعقاد مؤتمركم في فلسطين، وفي هذه اللحظات الصعبة والمؤلمة والكارثية التي يعيشها شعبنا، إنما يشكل رسالة دعم وتضامن ضد الظلم والقتل والقهر والاحتلال والاضطهاد... وهي كذلك رسالة أمل بأنه آن الآوان لوضع حد لسيطرة شعب على شعب آخر، ومصادرة أرضه، وتطلعاته الوطنية، وحقه الطبيعي، كسائر شعوب الأرض في الحرية والحياة الآمنة والسلام.
فشعبنا، أيها السيدات والسادة، بحاجة، وأكثر من أي وقت مضى، للأمل وتجديد الثقة بحتمية الخلاص من أطول احتلال عسكري استيطاني في التاريخ المعاصر.
نعم ...لقد آن الآوان لانهاء هذا الاحتلال... كما آن الآوان للتوقف عن حرمان المؤمنين من شعبنا، مسيحيين ومسلمين، من ممارسة عباداتهم ومعتقداتهم الدينية، والتوقف عن منعهم من الوصول الى كنائسهم ومساجدهم ، وكذلك التوقف عن منع مزارعيه من الوصول الى أرضهم وزيتونهم، رمز الحياة والسلام، أو منع طفلة من الوصول الى مدرستها بسبب الحواجز والجدار.
وإن حضوركم لفلسطين وبيت لحم يشكل فرصة كي تطلعوا على معاناة شعبها والمؤمنين فيها.
السيدات والسادة...
لقد أصَّل الشعب الفلسطيني في هذه الأرض قيم التسامح، وسار على خطى الأنبياء. وعلى أساس الوفاء الكامل لتراثها الروحي والحضاري والثقافي والتعايش بين الأديان عبر قرون طويلة، حافظ شعبنا الفلسطيني، بمسيحييه وبمسلميه على ثقافة وقيم التسامح والتعايش، بالرغم من الظلم التاريخي الذي تعرض له منذ ما يزيد عن ستين عاماً... هي سنوات النكبة والتشرد منذ عام 1948، وأكثر من واحد وأربعين عاماً من الاحتلال العسكري، ومصادرة الأراضي وأبسط الحقوق التي كفلها القانون الدولي والشرائع والرسالات السماوية لكل بني البشر.
فبيت لحم، أيها السادة والسيدات، التي تعانق كنيسة المهد فيها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة في مدينة القدس المحتلة، تعانيان كلاهما من جدار بشع يحول بينهما، وبين حق شعبنا في كافة المدن والبلدات والقرى والمخيمات في حرية التنقل والعبادة والعمل. ورغم احتضان المدينتين وتنميتهما لقيم التعايش على مدار العصور، فإن أبناءهما يعانون من آلام العزل والتمييز وهدم البيوت، ومصادرة حتى أراضي المقابر. وهم يتطلعون اليكم والى كل المؤمنين، وقوى الحرية والسلام في العالم لانهاء قيود الاحتلال والظلم الذي لم يجلب، ولن يجلب سوى الكراهية والخوف والتعصب والتطرف.
لقد أثبتت خلاصة التجربة الانسانية أن حضارات الأمم والشعوب لم تنشأ في التاريخ الانساني دون تفاعلها مع حضارات سابقة، وهو ما مكَّن الانسانية من تطوير قيمها الانسانية وفي مقدمتها قيم الحرية والمساواة بين كل بني البشر بصرف النظر عن عرقهم أو دينهم أو ثقافتهم، وكذلك إرساء قيم العدالة والسلام في العالم.
السيـدات والسـادة
إن التسامح والتعايش بين الأديان ضرورة تقتضيها الحياة الانسانية والعيش بين بني البشر. وحتى نتمكن من حماية هذا الانجاز، والمطلب الانساني النبيل، يتوجب علينا العمل لتحقيق العدالة والسلام ، ووضع حد لأعمال العدوان والقتل وغطرسة الشعور بالقوة والتفوق. وان النجاح في ذلك يتطلب معالجة الاسباب الجذرية التي تؤدي الى التعصب والتطرف بكافة أشكاله.
فالاحتلال أيها السيدات والسادة ، ومحاولات قهر وطمس تطلعات شعبنا في الحرية، وممارسته لحقه في تقرير المصير، والاستيلاء على أرضه، هو جوهر الصراع في هذه المنطقة، ولا يمكن وضع حد لهذا الصراع، وما يولده من كراهية إلا بمعالجة جذوره المتمثلة في إنهاء الاحتلال.
لقد سبق وأن عبر رؤساء الكنائس دوماً في تصريحاتهم وبياناتهم عن استيائهم وقلقهم من النزعة المتزايدة والسياسة المنهجية لسلطات الاحتلال وإتخاذها اجراءات يومياً، ومن طرف واحد، لتقرير مصير الأراضي المقدسة، وتحديداً في مدينتي بيت لحم والقدس، بما في ذلك حصارهما بالاستيطان والجدار العنصري، وإخراج أعداد كبيرة من السكان خارج ما يسمى بحدود القدس لتغيير الطابع الديمغرافي فيها. وضمن هذه السياسية نشهد يومياً سحب الهويات المقدسية وخاصة من المسيحيين المقدسيين لاضعاف الوجود المسيحي الأصيل إن لم يكن لإنهائه.
وبالمقابل، فقد أولت القيادة الفلسطينية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية، اهتماماً خاصاً لمواجهة هذه السياسة، وبما يُمكِّن شعبنا من الصمود في المدينة المقدسة، وتثبيت الوجود المسيحي فيها، ومواجهة التحديات المختلفة. ونحن في هذه المجال نحيي موقف رؤساء الكنائس الذي يؤكد على أن القدس لا يُحَدَد مصيرها إلا باتفاق مشترك، وبما يبقيها رمزاً روحياً للأديان الثلاث، والذي يؤكد أيضاً على ضرورة إنهاء الاحتلال لتكون القدس الشرقية عاصمةً للدولة الفلسطينية، وحاضرة للانسانية جمعاء، ورمزاً لتعايش الثقافات، وحق المؤمنين في الوصول الحر لأماكن عبادتهم وممارسة شعائرهم الدينية دون قيود أو تمييز.
السيـدات والسـادة
ان جذور المسيحيين العرب تضرب عميقاً في فلسطين، ولن يغير هذا الانتماء الأصيل ما ولدته النكبة والاحتلال والتمييز، من تشريد أغلبيتهم.
وهنا فإنني أؤكد لكم أن ما تبنته الأمم المتحدة من خلال مجلس الأمن والجمعية العامة من قرارات، أكدت جميعها على أن أي إجراءات تتخذها إسرائيل، السلطة القائمة بالإحتلال، لفرض قوانينها وولايتها وإدارتها على مدينة القدس المحتلة، هي إجراءات غير قانونية، باطلة ولاغية ، وليست لها شرعية على الإطلاق. وطالبت هذه القرارات أيضا بوقف كافة الإنتهاكات لحرمة المدينة. ولكن، للأسف الشديد، فإن أياًّ من هذه القرارات لم يحترم أو ينفذ. لذا فإننا نشدد في هذه المناسبة على أنه لايمكن أن يستقيم وضع تستباح فيه المقدسات وتهيمن فيه فئة على أخرى مهما كانت ذرائعها، وعلى أن السكوت على هذا الوضع غير السوي يسيئ إلى جوهر أسس التسامح الديني، بل ويؤجج الصراع ويخلق المزيد من التعصب والكراهية. إن هذا الأمر يحتم على المجتمع الدولي أن يولي القدس الحماية التي تستحقها، وأن يتصدى لكافة الممارسات اللاشرعية والتي تتناقض مع أسس العدالة ومبادئ القانون الدولي، ويوفر الحماية للمدينة ومكانتها الروحية والدينية والثقافية الفريدة على النحو المتوخى في قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بشأن هذه المسألة، الأمر الذي سيساهم بلاشك في تخفيف الإحتقان والخوف والكراهية، ويوفر السلام والتسامح للجميع والحرية لشعبنا .
السيدات والسادة
ليس في أي مما قيل بشأن القدس، من على أي منبر أو في أي مقام، ما يمكن أن يغير من الحقيقة التاريخية بأن القدس الشرقية هي أرض فلسطينية محتلة منذ 5 حزيران 1967، أو أن يتعارض مع وجوب أن تنطبق عليها قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، والمتعلقة بالإنسحاب الإسرائيلي منها شأنها في ذلك شأن بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة. إن خيار الشعب الفلسطيني، الذي أكدته ورسّمته مبادرة السلام الفلسطينية لعام 1988، يعتبر القدس الشرقية عاصمة لدولته المستقلة المنشودة. وهو يتوقع من المجتمع الدولي مساعدته العاجلة والفعالة في إنهاء الإحتلال، حتى يتمكن من ممارسة حقوقه المشروعة وفي مقدمتها إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود عام 1967، الأمر الذي يوفر الإمكانية لوضع حد للتعصب والكراهية والعنصرية،ويشكل مفتاحاً للسلام والأمن والإستقرار في عموم المنطقة.
إن إنجاز هذا، ايها السيدات والسادة، سيمثل ضمانة أساسية لحماية حرية الجميع من كافة الأديان والجنسيات للوصول الى الأماكن المقدسة بصورة دائمة وحرية مطلقة. فهذا ما دأب عليه شعبنا الفلسطيني ،بمسيحيه ومسلميه،عبر التاريخ، وهو ما يتطلع الى الإستمرار فيه لجميع المؤمنين بالأديان السماوية كافة. وهذا ما التزم به الشعب الفلسطيني في وثيقة الإستقلال التي أعلنها عام 1988، وكذلك في المبادئ الدستورية التي تنظم عمل السلطة الوطنية الفلسطينية، وهو ما نجدد الإلتزام به اليوم أمامكم.
إن أسوار البلدة القديمة في مدينة القدس، وهي تحتضن في رحابها مآذن المسجد الأقصى وأجراس كنيسة القيامة، تشكل، ومع كل حجر وركن في شوارعها واحيائها، خلاصة القدرة الهائلة على التعايش بين الحضارات والثقافات، ومبعث الأمل لأهلها بالخلاص من قيود الإحتلال. فلا تتركوا الأمل الذي يحتاجه شعبنا وأهل بيت لحم والقدس يتهاوى، وهذه مسؤوليتنا جميعاً.
السيـدات والسـادة
لقد خلف العدوان الإسرائيلي على شعبنا في قطاع غزة كارثة إنسانية غير مسبوقة، سقط خلالها ما يزيد عن الألف وأربعمائة شهيد، وأكثر من خمسة آلاف جريح، أغلبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء والمسنين، بالاضافة الى تدمير أكثر من أربعة آلاف منزل، وتضرر ألاف المنازلٍ ، وتشريد أكثر من تسعين ألف مواطن باتوا بلا مأوى، يفترشون الركام ويعيشون في الخيام، التي تجدد مشهد النكبة الأولى، ناهيك عن التدمير والضرر الواسع الذي لحق بالمنشآت الصناعية والزراعية ومختلف المرافق الاقتصادية والعامة، والبنية التحتية وشبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء، والطرق والمنشآت الحيوية الأخرى ، إضافة إلى مقرات الأمم المتحدة ومدارسها وعياداتها ومستودعاتها الغذائية والدوائية، وكذلك المستشفيات الأهلية، وطواقم وسيارات الاسعاف.
لقد شاهد العالم ممارسات جيش الإحتلال الفظيعة بحق المدنيين من أبناء شعبنا، والتي لم تستثن المقرات الآمنة، حيث حصدت آلة الحرب أرواح الأبرياء الآمنين فيها،... ليسقط معهم الضمير الانساني، ويداس علم الأمم المتحدة، رمز القانون الدولي، والانتصار للعدالة، وحق الشعوب في الأمن والسلم الدوليين.
لقد دمرت الحرب أحلام الطفولة، بما فيها الأحلام البرئية والذكية للطفل لؤي الذي فقد عينيه، والطفلة مريم السموني التي أصبحت وحيدة بعد أن فقدت ثلاثين من أفراد عائلتها، والطفلة سمر عبد ربه التي أقعدها رصاص العدوان، وحصدت القذائف أرواح شقيقاتها، والطفلة دلال أبو عيشة التي استشهد جميع أفراد عائلتها بقذيفة دبابة في أحد مقرات الأمم المتحدة في مخيم الشاطئ، وغيرها من القصص الانسانية المؤلمة، والتي تستوجب المساءلة الجادة بشأن ما انطوت عليه من انتهاك للقانون الدولي الانساني، حيث قضت عائلات بأكملها. إضافة إلى ذلك كله، فقد دمر العدوان ثمرة عرق وحصيلة كدح وشقاء عمر الآلاف من أبناء شعبنا، كما قضى على مصادر رزق عشرات آلاف الأسر التي دُمرت مزارعها ومصانعها وورشها، وخلاصة أحلامها بالعيش الكريم بأمن وأمان، وبالحد الأدنى من الحقوق المدنية والإنسانية.
السـيدات والسـادة
هذا هو جزء من مشهد الكارثة الإنسانية التي حلت بشعبنا في قطاع غزة. ولكن ماهو في منتهى الخطورة أيضاً، يكمن فيما يهدد الكل الفلسطيني من خسارة سياسية تنذر بكارثة وطنية تتمثل في إحياء أطماع إسرائيل في تصفية القضية الفلسطينية وحقوق شعبنا في الحرية والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية، إن لم يتم التعامل بمسؤولية عالية مع التحديات والمخاطر الماثلة أمامنا.
إن الانقلاب على السلطة الوطنية، أدى إلى إنقسام الوطن في حزيران "2007"، وتعميق الانفصال منذ ذلك التاريخ. ومن جهة أخرى، فإن العدوان الإسرائيلي غير المسبوق بكافة تداعياته، بما في ذلك ما ينطوي عليه من مخاطر سياسية جدية تكمن في تكريس هذا الانقسام وتعميق الانفصال، إضافة إلى ما ترافق مع ذلك من مظاهر انقسام مؤسفة في الصف العربي، هدد ولا يزال يهدد وحدانية التمثيل الفلسطيني، والذي تعبر عنه منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. فالتمثيل بالنسبة لنا هو التعبير عن الهوية الوطنية، والتي لطالما استُهدِفت طمساً وتهميشاً لخدمة هدف تصفية القضية الفلسطينية، وتبديد حقوق شعبنا.
لقد استثمرت إسرائيل هذا الانقسام والانفصال، بالإمعان في استخدام الضفة الغربية، بما فيها القدس، كمشاع لأنشطتها الاستيطانية وسياستها الأمنية، لفرض الأمر الواقع واستكمال مخطط تحويل الضفة الغربية إلى كانتونات معزولة وممزقة، واعتبار قطاع غزة كياناً مختلفاً عن باقي الوطن. ولعلكم تذكرون المحاولات المتواصلة لفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، والتي كانت دائما جزءاً من المشروع الإسرائيلي لتصفية قضيتنا، بما في ذلك محاولات فرض وقائع كان من شأنها تكريس هذا الفصل إبان طرح إسرائيل لفكرة الانسحاب أحادي الجانب وإعادة الانتشار من قطاع غزة، لتجعل منه كياناً مختلفاً، ولتستفرد بمستقبل الضفة الغربية، وتقوض إمكانية ممارسة شعبنا لحقه في تقرير المصير.
هذا هو واقع الكارثة غير المسبوقة بشقيها الإنساني والسياسي، والذي ينذر بكارثة وطنية تقود الى تصفية القضية الفلسطينية. وإن الوفاء لتضحيات شعبنا والمسؤولية الوطنية يقتضيان منا القيام بكل ما هو ممكن لمعالجة نتائج العدوان على أهلنا من خلال التحرك الفوري لإغاثة شعبنا وإيوائه، وإعادة ترميم وبناء واعمار المساكن والمرافق الاقتصادية والعامة، ومعالجة المخاطر السياسية الماثلة وإنهاء حالة الإنقسام.
السيـدات والسـادة
تمثل المصالحة الوطنية وإعادة الوحدة للوطن، وتحمل المسؤولية لإنقاذ شعبنا من الكارثة التي ألمت به أولوية وطنية عليا ، وهي المقاومة الحقيقية لجوهر المشروع الإسرائيلي، والرد العملي والمباشر على العدوان الإسرائيلي ونتائجه. وإن مدخل المصالحة وإعادة الوحدة للوطن دون إضاعة الوقت، ودون المزيد من المعاناة لشعبنا، ومعالجة كافة استحقاقات نتائج العدوان، وتحقيق الشراكة في تحمل المسؤولية، وفي كل شيء، يتمثل في تشكيل حكومة توافق وطني تعمل على إعادة الوحدة للوطن، وتتحمل المسؤولية في ادراة شؤون البلاد وإعادة اعمار ما دمره العدوان. ونحن على ثقة بأن إنجاز هذا الأمر سيوفر البيئة اللازمة، ويفتح الطريق لحوار وطني شامل يعالج كافة القضايا المختلف عليها، ويضع الأسس الكفيلة بحماية النظام السياسي الديمقراطي الفلسطيني، وتحقيق الشراكة في إطار السلطة الوطنية، وليس معها، إضافة إلى أن تشكيل هكذا حكومة، وفوراً، يحمل إجابة على كافة العناصر الأخرى المتعلقة بالإشراف على المعابر، ويمكننا من تجنب الانجرار إلى صيغٍ ولجان لإعادة الاعمار لا تقدم سوى التسليم بالانقسام والانفصال كقدر.
إن العمل، وبسرعة، لإعادة الوحدة للوطن، سيشكل كذلك مدخلاً أساسياً لحماية وصون وحدانية التمثيل في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، ووقف التداعيات المدمرة جراء محاولات المساس به. كما أنه سيوفر ضمانة لعدم تكرار العدوان.
السيـدات والسـادة
إن جوهر الصراع يتمثل أساساً في الاحتلال الإسرائيلي. وقد آن الأوان للعالم أن يعالج جذور هذا الصراع، من خلال وقف التعامل مع إسرائيل وكأنها دولة فوق القانون، أو فوق المساءلة. نعم لا بد من إخضاع إسرائيل للمساءلة، ولابد من الإقلاع عن ممارسة الكيل بمكيالين.
لقد أعلن شعبنا مبادرة السلام الفلسطينية عام 1988، وقدم من خلالها تنازلاً تاريخياً ومؤلماً في سبيل تحقيق هذا السلام، والذي يضمن له حق تقرير المصير في دولة مستقلة وعاصمتها القدس على حدود 1967. ولن تنجح محاولات الالتفاف على هذا الحق أو الانتقاص منه، عبر سعي اسرائيل الاستفادة من تآكل عملية السلام، التي طال أمدها دون أن تفضي إلى حل، وما ترتب على ذلك من اعتقاد المجتمع الدولي، خطأً، بأن الفلسطينيين مستعدون لمزيد من التنازل.
ومن هنا فإنني أتوجه إلى المجتمع الدولي برمته بضرورة استخلاص العبر من النتائج الوخيمة التي وصلنا إليها بسبب فشل الجهود الدولية في إلزام إسرائيل بوضع حد لسياسياتها الاستيطانية وممارساتها العدوانية، وما ألحقه ذلك من أذى وتدهور في مصداقية عملية السلام لدى شعبنا وشعوب المنطقة.
السيـدات والسـادة
إن معالجة هذا التدهور تستدعي من المجتمع الدولي تحمل مسؤولياته السياسية والقانونية والأخلاقية، حيث أنه وفي ضوء كل هذا، فإن الحكم على مستقبل عملية السلام ومصداقيتها، وفي مدى إمكانية أن تفضي الى صيغة حل ترتقي إلى مستوى طموحات شعبنا وتطلعاته، يكمن في التنفيذ الفوري لإستحقاقات هذه العملية. وبغض النظر عن تركيبة أو شكل الحكومة الاسرائيلية الجديدة، سيظل المطلب الرئيسي من أي حكومة اسرائيلية، اتخاذ اجراءات عملية وملموسة لانهاء الاحتلال الذي بدأ عام 1967، وفي مقدمتها وقف الاستيطان بكافة اشكاله، وفي كافة المناطق بما فيها القدس، وتغيير السلوك الامني الاسرائيلي، بمعنى الانسحاب الى مواقع 28 ايلول/ سبتمبر عام 2000، وانهاء معاناة شعبنا بما في ذلك رفع الحصار عن اهلنا في قطاع غزة وازالة الحواجز في الضفة الغربية. وإن هذه المطالب والتوقعات ينبغي ان تكون مطالب وتوقعات المجتمع الدولي أيضاً من اسرائيل، بعد خمسة عشر عاماً من عملية سلام ليس فقط لم تنجز ما هو مطلوب من حل ينهي الاحتلال الاسرائيلي، وانما أيضاً واكبها إمعان من قبل اسرائيل في خلق واقع سلبي على الارض يتناقض مع الهدف الرئيس لعملية السلام والمتمثل في إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس على حدود عام 1967. وهنا فأنني أؤكد مجدداً " أنه لا يوجد شريك فلسطيني لتحسين نوعية الاحتلال، بل سيكون هناك دوماً شريك فلسطيني لإنهاء الاحتلال". إن هذا الأمر يتطلب أيضاً التقيد بمرجعية عملية السلام كما حددتها قرارات الشرعية الدولية، ومبادرة السلام العربية، ورؤية حل الدولتين. هذا هو البديل عن المزيد من الانزلاق نحو المجهول، وهذا هو الطريق لتصويب مسار العملية السياسية، ووقف التآكل في الموقف التفاوضي، وتأكيد الالتزام باستحقاقات عملية السلام لضمان إحلال السلام العادل والدائم، وفق ما تقتضيه متطلبات العدالة والقانون الدولي، وليس وفق ما يسمى بالسلام الاقتصادي، أو وفق "اعتبارات عملية" قائمة على التسليم بما يمكن أن تقبله القوة المحتلة، وما أدى إليه هذا التسليم المسبق من مخاطر على مستقبل السلام وأمن المنطقة واستقرارها.
وفي الختام أشكركم مرة أخرى على اختياركم لبيت لحم لعقد مؤتمركم هذا، وأؤكد لكم أننا سنواصل العمل الدؤوب كي نتمكن من التحول من ضحية التاريخ إلى شركاء في صنعه، ولما فيه مصلحة البشرية وآفاق الإنسانية الرحبة، وكلنا ثقة بأنكم ستساعدوننا على ذلك.
أشكر لكم حسن استماعكم
وأتمنى لمؤتمركم النجاح