الاسرى...ومطر حزيران بقلم: عيسى قراقع
نشر بتاريخ: 13/06/2005 ( آخر تحديث: 13/06/2005 الساعة: 13:08 )
كان التفاعل الشعبي في استقبال الاربع مائة اسير فلسطيني الذين افرجت سلطات الاحتلال عنهم من سجون الاحتلال يوم 2/6/2005 واسعاً وكبيراً حيث أقيمت الأعراس الشعبية ومواكب الاستقبال في كل مدن وبلدات فلسطين...وعلى طول الطريق الواصل من حاجز ترقوميا حتى محافظة بيت لحم كانت الجماهير الغفيرة تلوح وتهتف للاسرى العائدين الى بيوتهم...الأعلام الفلسطينية والزغاريد ودموع الفرح والعناقات الحميمة والأسئلة الدفينة...جميعها تحوّل الى حالة خاصة تشبه خروج الوطن من قاع الظلام الى فضاء أوسع وعودة الفرح إلى أهله رويداً رويداً.
أصبحت الأيادي طليقة...لا قيود على الرسغين وبدأت الصدور تمتلأ بالهواء وتتسع...وأخذت الأسماء مكانها...فلا أرقام على القمصان ولا نوم إجباري في زنزانة...مرّ الهواء صديقاً...رائحة قهوة واغنية تصعدُ من حنجرة عجوز اجلّت موتها قليلاً لتتصالح مع الحياة..
ان هذا الاحتفاء الكبير الذي شهده الشارع الفلسطيني الممزوج بالالم والانتظار، وهذا اللقاء الجماهيري الواسع لقاء الانسان بالانسان على ارض الانسان اعطى رسالة ثقيلة الى الجميع، رسالة اخترقت الحصار ونظريات النسيان، رسالة تقول: كم هي عميقة قضية الاسرى في المجتمع الفلسطيني...مغروزة في الوجدان والضمير تتفاعل وتتحرك، تتجاوز حدود المعقول في حرب البقاء والدفاع عن الكرامة والحرية...رسالة شعب لو قرأها المجتمع الدولي جيداً لأدرك كيف يتحول العذاب الفلسطيني الى انتفاضة انسانية عنيدة تقرع الجدران والقيود، تهتف ضد الاحتلال وتدعوا الى رحيل السجانين عن الحياة الفلسطينية.
لو قرأ الاعضاء الدائمين في الامم المتحدة اتفاس ورسائل الاسرى المحررين...لعرفوا كم مرة مات الانسان قهراً وظلماً ولتعلموا كيف استطاع الاسير ان يعيش في قبور زنازين العزل وتكيف مع الوحدة والجنون ويراهن على غيمة تصعد من جروحه تبلل صوته في ذلك الجفاف الانساني.
لو قرأوا ما يقوله زمن المؤبد في حياة اسرى قفزوا عن ربع قرن من اعمارهم الى المجهول لأدركوا ان نصوص المعاهدات الانسانية لم تجد طريقها الى النور بعد...
اسرى وصلوا ارض الحنين المحتلة، حملوا قمصان شهداء سقطوا حرقاً او مرضاً...وحملوا استغاثة احمد التميمي المريض بالكلى وابو ساكوت المريض بالسرطان...كم مرة سنموت، الموت في الانتظار...والموت في معادلة المساومة والموت في المفاجئة...
هذا الطفل خائف...موجة فزع في اعماقه وكل شيء فيه يرتعش...يختبيء في حضن امه كأنه هاربٌ من جولة تحقيق او تهديد باغتصاب ولم تعد اغنية الطفولة تقوده الى المدرسة او النوم الهادئ...
لقد حاولوا ان يكسروا جناح الاحلام ويغتالوا فراشات البرائة...حاولوا ان يعبئوا اعماقه بالظلام والخوف...سأقول كل شيء لأمي...هذا ما استطاع الطفل المحرر ان يعبر عنه بعد ان فكوا القيود عن رسغيه..
كان صوت الجماهير وهي تنادي للحرية في كل شارع وحارة بمثابة اعلان موقف بأن قضية الاسرى هي قضية مفصلية في أي تسوية او حل سياسي، لم يعد هناك امكانية للقفز عنها او التعاطي معها كقضية ثانوية وعابرة...هي محك فعلي وعملي لاسترداد الفرح المسروق والسلام المفقود.
لم يكن الفرح المجروح الذي عبر عنه المشهد الفلسطيني عشية الافراج عن الاسرى تعبيراً عن قبول هذا الشعب بالآليات والاساليب الاسرائيلية في معالجة ملف الاسرى والتي تستند الى معايير عنصرية واشتراطات امنية وسياسية تمسّ الوطنية الفلسطينية وكرامة الاسرى وانما هو صرخة حيّة ضد استمرار سياسة التلاعب بأقدس قضية انسانية في العصر الحديث...ضد الابتزاز والمساومة وقتل الانسان في غياهب المؤبدات وتحت سياط الاجراءات التعسفية اللااخلاقية في السجون.
تمرد الفرح المجروح على الهدنة الزائفة، وعلى الاستهتار حتى بالاتفاقيات والتفاهمات التي ابرمت بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي خاصة بعد قمة شرم الشيخ. وظل وجه أم الاسير مشدوداً على الجهة الاخرى...على ذلك الشباك المصفح بالصاج، مؤمنة ان قمراً سيظهر على السياج رغم العتمة الحالكة، انه القمر المختلف في التقويم وفي حسابات السنين يشع بالحكايات واناشيد الملح ويرخي نوره على الارض واسعاً..قادم من الآيات السبع في سورة الفجر والليالي العشر.
رأيت المطر يهطل في حزيران...مطرٌ ساخن كأنه قادم من صحراء سجن النقب او متسللٌ من شباك قسم العزل في بئر السبع...دبت الحياةُ على ارض الضفة الغربية وقطاع غزة...خرج الناس في ذكرى النكسة وذهب 64 الف طالب وطالبة الى امتحانات التوجيهي...نشيد جماعي يلتصق لحماً ودماً بالحياة، يندفع الى مستقبله رغم مئات الحواجز وحبس الروح في رصاصة القناص ورغم ملاحقة الجنود والجوع للناس...رغم الجنازات المتواصلة ونداءات الاستغاثة في سجن مجدو وسجن النساء...ظل المطر يهطل في ذلك اليوم، مطرٌ فلسطيني ارسلته الشهقات المحبوسة من هناك...فكانت يد الاسرى هي العليا...الكف في السماء، واسماء السجون تحاصرُ الجلادين متسائلين: الا زال عندهم كل هذا الاصرار على كسر اقفال المفاتيح...فرحهم الاستثنائي هذا يخيفنا...دموعهم الحارة ترعبنا، انهم يصنعون دولتهم بانسانيتهم ونحن نذوب ونحاصر داخل معسكرات، حولنا اسلاك وكلاب وكاميرات مراقبة، وعندنا وحدات خاصة للقمع السريع واساليب حديثة للتعذيب والاذلال...عندهم مشاعر حزيرانية وعندنا الحديدُ والقيود ووسائل القتل السهل..
لقد ادرك الاسرائيليون ان الحركة الاستعراضية والاعلامية في التعامل مع ملف الاسرى لم تجد ولم تأت بمفعولها لتحسين صورة السجان والدولة التي امتلأت ارضها بالسجون والمعسكرات.
اعلام فلسطينية تطل من شباك باص المحررين والناس على الطرقات تهتف لهم..كروم الدوالي الخضراء وثمار المشمش وشتائل الخيار والنعنع اطلت برائحتها على الموكب القادم من سجن النقب، ارض حمراء تمد يدها تصافح الحرية وتبرم موعداً مع العائدين قريباً...
انتهى