الجمعة: 27/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

تصريحات نجاد إشارات ومحطات لابد منها

نشر بتاريخ: 23/12/2005 ( آخر تحديث: 23/12/2005 الساعة: 10:31 )
معا - لم تكد تأتي التصريحات الأخيرة للرئيس الإيراني أحمدي نجاد، والمتعلقة بما
أصطلح تسميته في الغرب بـ "المسألة اليهودية"، حتى جاء هذا السيل من
الانتقادات الأميركية أولاً، والغربية ثانياً، مترافقة مع الصمت المطبق
لغالبية المنظومة السياسية الدولية التي لديها الكثير مما تقوله بصدد الواقع
التاريخي الذي ترافق مع نشوء "المسألة اليهودية" في أوروبا مع انقشاع سحب
الحرب الكونية الأولى عام 1918، واطلاق "بريطانيا العظمى" لوعدها المشؤوم على
حساب الشعب الفلسطيني وكيانه الوطني·

ولأن تصريحات الرئيس نجاد جاءت صارخة في وضوحها وصراحتها وشفافيتها، كان على
الجمهورية الاسلامية الإيرانية أن تتحمل موجات النقد غير الموضوعية، وأن تتحمل
ثقلاً كبيراً تنوء به الجبال في لحظة حالكة السواد من القمع والبطش السياسي
والمادي الذي تمارسه واشنطن ضد شعوب العالم، وشعوب الشرق الأوسط خاصة، وسيادة
منطق الاملاءات مابين الترغيب والترهيب بالهراوة الغليظة·

لكن، للأسف، وكما هو معروف، فإن الوقائع التاريخية يجري دوماً التلاعب بها،
واعادة كتابتها وقولبتها وفق منطق ورغبات الديناصور السياسي، حتى لو حملت في
ثناياها الكم الهائل من التناقضات، ومن خيانة للحقيقة القائمة· ومن هذا
المنطلق نستطيع القول بأن الميدان العملي لنقاش تصريحات الرئيس أحمدي نجاد
يكمن في العودة إلى الحيثيات التي فتحت السبل أمام ولادة ما يسمى بـ "المسألة
اليهودية" وصولاً إلى اقامة الدولة الصهيونية على أنقاض الوطن التاريخي للشعب
الفلسطيني، على النقيض من هذه البروباغندا الاعلامية المضادة التي حاولت تصوير
الموقف الإيراني باعتباره موقفاً رسمياً من "الدين اليهودي" ومن اليهود كبشر
لهم حق الحياة أسوة بكل أبناء المعمورة·

ان النقاش الموضوعي الهادىء، يصب في صالح الاعتراف والإقرار بأن ظلماً
تاريخياً فادحاً لحق بالعديد من الشعوب والأمم والمجموعات البشرية في سياق
حروب وتجاذبات المصالح وتنافرها بداية التحولات الاستعمارية الكبرى وصولاً إلى
الزمن الراهن، ولم تكن اليهودية كمجموعة بشرية ذات انتماءات قومية متعددة سوى
واحدة من الحالات التي تعرضت للعسف المدروس، وهو العسف الذي جمع بين قوى
الاحتكارات الدولية الكبرى ورأس المال اليهودي المتمركز بيد طغمة مالية محدودة
من اليهود ارتأت ورأت بأن مصالحها تكمن بالتحالف مع الغرب الاستعماري، واقامة
كيانها الخاص في أوغندا أو فلسطين أو أي مكان في العالم، الا أن تقاطع المصالح
وبروز العمل التوراتي دفع بها نحو اختيار فلسطين، فعملت على تحشيد اليهود خلف
مواقفها ودفعت بالقاع التحتي من أبناء الطائفة
اليهودية في أوروبا والمشرق للالتحاق بجيش الحلفاء، وتحفيز عوامل التصادم مع
قوى تحالف المحور· ومن حينها وضعت اللبنات الأولى لاقامة الدولة العبرية
الصهيونية كدولة طافرة تم تصنيعها، متكئة على الرواية التوراتية، ومسنودة بفعل
"الهولوكست" الذي أصاب العديد من الأمم والشعوب والمجموعات البشرية· ووجدت
المنظمة الصهيونية العالمية في حينها المجال واسعاً كي تجعل من أوروبا "البقرة
الحلوب" في استدرار الأموال التكفيرية عن اثم أصاب الجميع، وعن مشكلة جرى حلها
بتوليد "هولوكست" شرق أوسطي أصاب الشعب الفلسطيني بمحرقة الاقتلاع والتبديد
الوطني والقومي منذ العام 1948 والى حينه· ومن هنا يمكن القول بأن تكفير
الخطايا والذنوب وتصحيح الخطأ في حال وقوعه لا يمكن أن يكون على حساب شعب أخر،
وكان على أوروبا أن تستوعب أبناءها من اليهود كما هم من باقي أبناء الديانات
لا أن تجعل منهم وسيلة لتلاقي المصالح بين الطغمة المالية الاحتكارية اليهودية
الكبرى وقوى الرأس المالي الأوروبي والغربي بشكل عام·

وعليه، في الخارطة الدولية في العالم المعاصر، تقف الدولة العبرية الصهيونية
باعتبارها الدولة الوحيدة التي تعرف نفسها كدولة (ديمقراطية) و(دينية) في
الوقت ذاته بالرغم من التنوع السكاني القومي والديني في تكوينها العملي
(السكان الأصليون من المواطنين العرب الفلسطينيين، وقوميات أوروبية وآسيوية من
يهود العالم، وشركس وأرمن ومسيحيين من كافة المذاهب).

فإسرائيل الدولة الوحيدة في العالم التي تأسست على خلفية "رواية ميثولوجية"
مسنودة بقرار دولي، هو القرار 181 (قرار التقسيم) الذي جاء بدوره كحاصل تفاهم
والتقاء للمصالح الاستعمارية الكبرى مع انقشاع سحب الحرب الكونية الأولى
وصولاً إلى الحرب الكونية الثانية (1938 - 1945)·

وقبل ذلك، ذهب فيلسوف " الدولة اليهودية " تيودور هرتسل في تصديره لرؤيته إلى
الارتكاز على نماذج قومية معروفة، سعى من خلالها إلى إحداث تغيير في مكانة
الدين اليهودي، ساعياً لتحويله من " دين محدود الانتشار في أوروبا وبلدان
الشرق الأوسط إلى قومية متجددة "، وباعتبار أن اليهودية عاجزة على لعب دور
القاسم المشترك في بناء الدولة، وفق مفهومها الحديث والمعاصر·

لقد أدرك هرتزل مبكراً، بأن الوجود اليهودي التقليدي بتنوعه القومي المبعثر في
كيانات ومنظومات دول مختلفة بين آسيا وأوروبا وقسم من القارة الأميركية
(الأرجنتين، البرازيل ··) لا يمكن تجميعه وصهره في بوتقة واحدة دون ابتداع
أشكال من اصطناع " النظريات المفتعلة "· وعليه نجحت صهيونية تيودور هرتزل في
لحظة تاريخية ومناخ مناسب لها، فكانت وليد طفرة جانحة كرستها في العرف الدولي
الراهن كقومية متحررة من الهيكلية المبعثرة·

ان الدولة الإسرائيلية حددت للدين مكاناً مؤسساتياً، وعملت على تغلغل التيارات
الدينية في التعليم، وبالمقابل ضعفت وتراجعت أمام البنى (المجتمعية - الدينية)
مكونات (الخطاب الخلاصي - الشوفيني) الذي دأب على ترديده أباء الصهيونية على
حساب القومية المدنية بحدودها الدنيا·

ان فحص الاحداث المتعلقة بالحركات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي، تثبت مرة
اخرى كم هو مصطنع وعنصري ومصاب بالنزعة الاثنية هذا البناء المسمى بالدولة
العبرية الصهيونية، وكم هو أمر ذو صلة بالبحث في سياسة الهوية في الدولة
العبرية الصهيونية بعد أكثر من ست وخمسين عاماً من قيامها الطافر·

وفي الحقيقة لا يستطيع احد ان يتجاهل حالة الحراك والتطورات التي وقعت داخل
الدولة العبرية ، وخير دليل على ذلك الدرجة العالية من الانقسامات في
الانتخابات الأخيرة للكنيست السادسة عشرة، وكما تلوح في الأفق مقدمات
الانتخابات القادمة، ما بين أحزاب تعود لأصولها القومية (حزب الروس بقيادة
نتان شارنيسكي، الاثيوبيين، المغاربة، العراقيين، اليمنيين ···) وأحزاب تقوم
على أساس اثني (سفارديم، اشكناز) وصولاً إلى أحزاب صهيونية ليبرالية علمانية
واحزاب صهيونية يمينية عقائدية ويمينية توراتية·

كل هذا الحراك الذي يتبدى أكثر فأكثر من دورة انتخابية إلى دورة تليها يدلل
بوضوح بأن هناك رمالاً سياسية تهب من حين لأخر داخل الدولة العبرية الصهيونية·
وهذه الحالة من الحراك لا تعني بأن المجتمع سائر نحو التفكك الفوري، ففي هذا
الحراك طيف واسع من التشكيلة الاجتماعية اليهودية المتجهة نحو مغادرة
التشكيلات الاثنية الخاصة الاستيطانية (أكثر من ثلاثين اثنية بجذورها
القريبة)، كما لا يعني بأن ليس هناك اصطفافات كبيرة تجنح داخل الدولة العبرية
نحو اليمين واليمين التوسعي التوراتي، لكنها تؤشر إلى البنية الهشة التي قامت
عليه رواية الدولة اليهودية، فأصبحت تتآكل يومياً تحت عناد الحقيقة المتأخرة·

ان المجتمع اليهودي على أرض فلسطين يتجه أكثر فأكثر نحو تشكيلات اجتماعية
طبقية أفقية تتمركز على محاور مصالحها ونحو "الاسرلة" في صياغة هيكلية الدولة
والمجتمع، وهذه التطورات يجب أن تلحظ باعتبارها عاملاً مهماً ومؤثراً في
الصراع ضد الأيديولوجية الصهيونية، والتمييز العنصري بين اليهود والعرب في كل
هيكلية الدولة ومؤسساتها الادارية والتعليمية والوظيفية وتقسيم المجتمع إلى
"يهود وغير يهود"· من هنا تبدو آفاق انهيار مفهوم الدولة اليهودية النقية
(الهلاخا)، وتداعي فكرة الاضطهاد التي أصبحت خلف التاريخ·


تصريحات نجاد إشارات ومحطات لابد منها
علي بدوان - كاتب وجامعي فلسطيني - دمشق