الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

عن القدس عاصمة للثقافة .. والتطبيع - بقلم د. المتوكل طه

نشر بتاريخ: 12/03/2009 ( آخر تحديث: 12/03/2009 الساعة: 11:59 )
للقدس عدةُ أسماء، لكن المُظلم منها هو الاسم الذي يردده الاحتلال .
ونرى القدسَ عن كثب، حيث الجدرانُ والأسلاك الشائكة تمنعنا، منذ "أوسلو" من الدخول إليها! لقد أعطى السلامُ الجنائزيُ المدينةَ للاحتلال، وأعطانا الحسرةَ والهباءَ والإستيطان.
ونمرُّ من بعيد عنها، فنقول : إنه حلمُ سيءٌ يا قدسنا. ونكاد نصرخ من قهرنا: ضعفُكَ يا أبي هو الذي قاد المدينةَ إلى الموت.
القدسُ حلمٌ عصيٌّ لا يمكنُ أن يتحقق حتى نصحو، ولن يتمَّ لنا ذلك، بعد واحد وأربعين عاماً من احتلالها، بهذا الاستدراك المتأخر الشكلاني، الذي يسمّى (القدس عاصمة للثقافة العربية)، والاكتفاء باحتفالات غنائية موسمية أو ببعض الفعاليات بعيداً عن المدينة.
وعلى الرغم من أهمية كل حراك وفعل يعمل على إنهاض القدس وإحضارها وإضاءتها، لكن المطلوب شيء أكثر اتساعاً وتواصلاً وعمقاً وامكانيات. ففي الوقت الذي تَصبّ فيه الحركاتُ الصهيونية المؤيدة لاسرائيل أكثرَ من عشرة مليارات دولار سنوياً لتهويد المدينة المقدسة، فإن السلطة الفلسطينية، التي تعتمد على دعم الآخرين، لا تستطيع أن تقدّم أكثرَ من مئات الآلاف سنوياً، عدا عن أن الدعم العربي والاسلامي لا يرقى الى ما يجابه عمليات التهويد، هذا إذا كان ثمة دعم للقدس أصلاً.
بمعنى أن القدس تحتاج إلى مؤسسة مختصة، لها استطالاتها داخل فلسطين وخارجها، والى ملايين الدولارات، وإلى مختصين أكفاء، يحرصون على متابعة كل ما جرى ويجري في المدينة المقدسة، على الصعيد العمراني والثقافي والاقتصادي والاجتماعي والتاريخي والديني والديمغرافي.. الخ، وملاحقة كل إجراءات الإحتلال من استيطان وجدران وحفريات ومصادرة وإحلال وقوانين وهضم جغرافي وسكاني وصحي وتعليمي وإلحاق اقتصادي، وما إلى ذلك..
إن ذلك يستدعي توفير خبراء، والانكباب على آخر ما يحدث وما يصدر في القدس وحولها، حتى يصبح المواطن الفلسطيني والعربي والعالمي على اطلاع بما يدور ويُخَطط لهذه المدينة.
كما يعني ذلك توفير الآليات المناسبة لتدعيم الوجود العربي في القدس، عبر طرائق تُمكّن المواطن من الثبات والرباط ومجابهة الاستلاب والتغريب والتماهي مع الاحتلال، وكذلك ما يُمَكَّن المواطن من إحداث مواجهة يصعبُ معها ،على المحتل، أن يقوم بكل تلك الأَسْرَلة المخيفة التي أحدثت بالمدينة الكثير، وخلقت العدمية القومية في أحشائها.
ولعلنا مع كلّ ما يُظْهرُ القدس ويجعلها محروسةً في الوعي والحلم، ونابضةً في المدارك الطالعة، شرط أن لا يكون ذلك موسمياً أو تعويضياً أو تغطيةً على تقصير جارح .
ولعل النوايا الطيبّة للقائمين على "القدس عاصمة للثقافة العربية"، تدفعني للتنويه إلى وجوب تخليق جواب على سؤال الغياب الهائل، للنشاط الثقافي في فلسطين، باستثناء المركز، الذي يعاني هو أيضاً، من عدم وجود إستراتيجية عمل ثقافي، وكذلك عدم وجود مجلة ثقافية واحدة، وعدم وجود البُنى التحتية للفنون والثقافة، وعدم وجود قوانين للتفرّغ والبحث والجوائز والنشر، كما ينبغي إيجاد ردّ على عدم إشراك اتحاد الكُتّاب ورابطة الفنانين التشكيليين والمسرحيين والأكاديميين، بل إن هذه المؤسسات مُغلقة ومشلولة، لعدم صرف موازنات لها ! فكيف سنحتفل بالقدس وسط كل هذا الغياب وعدم الاهتمام، منذ سنوات، بالثقافة والفنون، بل وإدارة الظهر للإبداع وللقائمين عليه؟
وبالرغم من كل ذلك، فإن المجموعة المُخلصة، التي تعمل ليل نهار، في مبنى الهلال الأحمر الفلسطيني، بمدينة البيرة، تستحق أن نتمنّى لها كل نجاح وتوفيق، على أن ينتبهوا إلى أنّ إيجاد رافعة للقدس، يستدعي من المسؤولين، بلورة رؤية شمولية، تتجاوز الإرتجال والخلط والتجاوز والموسمية والاستبدال والاستئثار.
كما أننا مع دعم كل أشقائنا العرب والمسلمين للقدس، لأنهم أصحابُ هذه المدينة وآباؤها الأوّلون واللاحقون، فالقدس ليست ملكاً للفلسطينيين، وليسوا وحدهم المكلّفين بحمايتها والحفاظ عليها، وهذا يستدعي، من قبل أشقائنا العرب، معرفة أمر غاية في الخطورة، وهو المجيء إلى القدس بحجة الاحتفال بالقدس، بوساطة تأشيرة من إحدى سفارات دولة الاحتلال (اسرائيل)، وبدعوى أنَّ زيارة القدس هو دعمٌ للأشقاء الفلسطينيين ! إنَّ الترويج لهذه الذريعة المشبوهة هو تكريسٌ الإحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس العربية، التي لا يستطيع الفلسطينيون أنفسهم الدخول اليها، كما أنَّ الزيارة تتيحُ للاحتلال جذب المثقفين والفنانين العرب للتطبيع معهم عبر سفاراته، ما يعني الإعتراف بهذه السفارات وبشرعية ملكية الاحتلال للقدس، حيث أن القاعدة القانونية والسياسية تقول بأن مالك الأرض هو الذي يُعطي التصريح لزيارتها أو التجول فيها. كما أن الاحتلال لن يسمحَ بإقامة أية فعالية في القدس الشريف، فأين سيأتي الأشقاء العرب وماذا سيفعلون؟ إنهم مدعووّن لتكثيف الفعّاليات بأسم القدس في أقطارهم.
كما أن الأمرَ المشروع لزيارة فلسطين، هو الحصولُ على تصريح تجترحُه المؤسسة الفلسطينية الرسمية، ما يعني فقدان الإحتلال للقدرة على ختم أو مَهْر جواز السفر العربي بخاتمه البغيض، عندها تكون زيارة الشقيق العربيّ "للسجين الفلسطيني" دعماً حقيقياً، تحملُ بعض المعاني الوجيهة والمعقولة.
أما قول بعضهم، بأن مجيء العربيّ، ولو بإذن إسرائيلي، هو كالذي يزور إبنه في الزنزانة أو المعتقل، فإنَّ التعقيب على هذا القول، لا يتجاوزُ إقرار البديهية المعروفة؛ وهي أن الشعب العربيّ الفلسطيني منذ ستين عاماً وهو في سجنه! فلماذا الآن تنبغي زيارته؟ وهل يحقّ للأخ العربي أن يضع نفسه موضع الفلسطيني، الذي يفرض عليه الاحتلال كل شيء تقريباً !؟ بمعنى أن العلاقة بين الفلسطيني والإسرائيلي هي علاقة قسرية يفرضها الاحتلال بالقوة، وهي تشبهُ علاقة السجّان بالسجين والضحية بالجلاد والجندي على الحاجز بالمواطن الذي ينتظر، وبالتالي فإن الفلسطيني (صاحب الشأن) لا يملكُ أن يستورد شيئاً إلا عبر الاحتلال، ولا يستطيع التنقّل إلا بإذن من الجنود، ولا يستطيع أن يسافر الا بختم المعبر الذي يسيطر عليه الاحتلال، وبالتالي فإن المقاربة بين العربيّ (الحُرّ) والفلسطيني (الرازح تحت القيود) هي مُقاربة ساذجة أو مشبوهه ولا تجوز أصلاً. وإن أي قدوم الى فلسطين عبر التعاطي والإعتراف بمؤسسات الاحتلال هو تطبيع كافر، يكرّس المدينةَ ثانيةً للدولة العبرية.
إننا نتوجه بالشكر والعرفان، لكل مثقفي وفناني ومبدعي أمّتنا العربية الواحدة، على كل ما خلقوا من إبداع، وقدّموا من تضحيات، ونخصُّ بالذكر ذلك الموقف العظيم والعالي والحاسم المُواجه للتطبيع بكل اشكاله ومكوناته وصوره. وإنّنا على يقين، أن أشقاءنا العرب يتقدمون علينا في العمل، لتبقى القدس مدينة عربية، والى يوم يبعثون.
ظلَّ أن نشير إلى أن الأشقاء العرب مدعوون إلى عدم التقيّد بالخطاب السياسي او الإعلامي، لبعض المسؤولين الذين، ربما، نختلف معهم، أو لا يُعبّرون عن وجهة نظر المثقفين، أو أنهم يعيشون تحت وطأة موازين القوى أو الإشتراطات السياسية المرحلية، وتجعل موقفهم غير مُلزم للمثقفين، الذين يحرسون الثوابت والمبادئ والأحلام.