حركة فتح في ذكرى انطلاقتها الحادية والأربعين , تتوهج شجرة ميلادها بالأسئلة المتعددة, وأول هذه الأسئلة , وأكثرها شمولية, هل أن فتح صانعة كل البدايات الفلسطينية, من أول الرصاص إلى أول الحجارة إلي أول الكيان إلى أول الحراك الديمقراطي الذي نشهده الآن, هل فتح في عيد ميلادها الحادي والأربعين مازالت ضرورة وطنية فلسطينية , على صعيد السياسة , وعلى صعيد الكفاح بتعرجاته وألوانه, وعلى صعيد القيادة ؟ أم أن فتح صاحبة كل هذا الميراث الكبير ,والواقعية المبدعة, والكوادر المبهرين , والخبرات المتراكمة, والمشاكل المتفاقمة , صعدت مع الذكرى إلى سماء الماضي الجميل , وأنها خرجت من سجل الصراع اليومي إلى تلافيف الذكريات ؟
وأبرز محفز لهذا السؤال ان خصوم فتح الذين غرفوا من تجربتها, ونعموا بحمايتها, ويدخلون إلى المستقبل من بوابة فتحتها لهم, هؤلاء الخصوم السياسيين, أصبحوا يكشرون عن أنيابهم علناً وعلى رؤوس الأشهاد, حيث دفعتهم آليات المنافسة إلى تجاوز ما هو وطني, وأغرتهم الطموحات غير المشروعة التي تجاوزت حدود اللعبة السياسية, وأسالت أزمات فتح المتخبطة لعاب أطماعهم إلى حد التناقض في اليوم الواحد ألف مرة, وإلى دفع الساحة الفلسطينية إلى حظائر الخطر والجنون ؟
وعودة إلى فتح فإنها حين انطلقت كانت "الكرستة" الحالية موجودة وأكثر قوة, فقد كان هناك القوميون العرب, والبعثيون, والناصريون, والشيوعيون, والإخوان المسلمون, وكان أولئك جميعاً إمّا حاكمين في بعض دول العالم العربي, أو مستندين إلى مراكز إقليمية تتعهدهم, وتمدهم بكل مصنفات الرعاية, فكيف استطاعت فتح أن تجد لها مقعداً وسط أولئك جميعاً ؟! ثم كيف استطاعت بعد ذلك أن تحتل مقعد القيادة بكل جدارة وكفاءة واقتدار ؟
لم يكن الأمر بكثرة العدد فأين كانت فتح في هذا المضمار قياساً إلى أحزاب حاكمة, أو إلى أحزاب راسخة, أو إلى أحزاب تلقى الرعاية الإقليمية الكاملة ؟!
ولم يكن الأمر بالصرامة الحزبية فأين كانت فتح في هذا المجال قياساً إلى الماكينة الحزبية الطاغية للأحزاب الشيوعية, أو الأحزاب الدينية ؟!
ومعنى ذلك أن حركة فتح وجدت مكانها عبر طرحها للمشترك الوطني, عند الناس, عند الفلسطينيين, فهي ذهبت مباشرة إلى حلمهم العادل, إلى حلم الوطن والعودة والكيان, ولم يكن هناك داعية حزبي, ولن يكون هناك داعية حزبي, مهما بلغت إمكانياته يستطيع أن يقنع الناس بشيء أبسط وأعمق وأصدق وأشمل من ذلك, وهو أن يصبح الفلسطيني التائه, اللاجئ, الذي يعاني النكران, مواطناً في وطن ودولة وكيان !!!
وتبدو حركة فتح بعد واحد وأربعين عاماً مثل كيان سياسي سرق الآخرون بضاعته الجيدة والرائجة, وجعلوه يظهر كما لو أنه يعرض بضائع لا يريدها أحد, أو لم يأتِ أوانها بعد !!!
والأخطر من ذلك أن حركة فتح ربما لم تنتبه بقوة إلى أن الانجازات الكبرى لها أثمان قد تصبح فادحة !!! وعلى سبيل المثال فإن فتح التي صنعت جسر العبور التاريخي من المنفى إلى الوطن, وأقامت أول سلطة وطنية فلسطينية في التاريخ, وتحملت عبء التفاوض مع الإسرائيليين والقوى الدولية والتزمت باستحقاقات الدول, تكريساً لبناء المرجعية الوطنية, فتح في كل هذه الانجازات دفعت ثمن كل الأعراض الجانبية, حيث أن فتح عندما أقامت جسر العبور من المنفى إلى الوطن تركت العديد من الأطراف المحلية الصغيرة, والأطراف الإقليمية, تلعب وحيدة في ساحة فلسطينيي الخارج, وعندما تحمّلت قيام وقيادة السلطة الوطنية الفلسطينية فإنها تحمّلت سمعة الفساد التي لا بد أن تعاني منها أي سلطة على الأرض, وعندما قامت بعبء المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي والدولي فإنها تحمّلت المماطلات والاستعصاءات التي حدثت في طريق هذه المفاوضات !!!
ولكن أخطر خسائر فتح هو غياب تلك الشخصية الكاريزمية النادرة, وأعني به الرئيس ياسر عرفات, حتى أن حركة فتح لم يكن لديها لا في الواقع ولا حتى على مستوى الهاجس أي ترتيب من أي نوع كان لاحتمال غياب ياسر عرفات., بل أن وجود الرئيس عرفات سجيناً في المقاطعة في رام الله قرابة ثلاث سنوات لم يحفز الحركة بكل اتجاهاتها وإطاراتها وأجيالها إلى إعداد الذات تحسباً للحظة غيابه, وهكذا جاء غياب ذلك القائد الفريد من نوعه في لحظة بالغة الصعوبة, بمثابة ضربة قوية, كلما تقادمت أكثر, كلما شعرنا بفداحة الخسارة, وكلما داهمتنا الإشكاليات الكبرى, كلما اكتشفنا أكثر أنه كان يجب الإعداد المسبق للحظة الغياب !!!
إن جزءاً كبيراً من ارتباكات حركة فتح يعود إلى تغيير الدور موضوعياً مما يستلزم هيكلية بنيوية جديدة, كما أن تغير المناخ الدولي بشكل دراماتيكي بسبب سقوط النظام الدولي السابق, وطغيان نظام إحادى القطبية قد أسقط الكثير من المعايير التي كانت تعتمدها حركة فتح في التغلب على مصاعب الطريق !!!
ولكن يبقى بعد ذلك كله أن غياب الرئيس عرفات الذي لم يكن مرتباً له فتحوياً بأي شكل من الأشكال, قد ترك فراغاً هائلاً في رأس المرجعية التي يحتكم إليها الجميع, المرجعية القادرة على حسم الأمر لجهة أين تسير القافلة ؟ ولقد حاولت فتح أن تستبدل مرجعية الرمز الفردي بالمؤسسة وهو خيار لا بديل له, ولكن ثبت بالدليل القطعي أن المؤسسة لا تستطيع أن تحل بديلاً عن الرمز الفرد بين يوم وليلة, وخاصة حين يكون الورثة بهذا القدر من تبسيط الأمور, وكثرة التطاحن, وفقدان ظروف الهدوء والاستقرار والمصداقية !!!
ولكن بالمقابل إن الخروج من قاطرة فتح إلى أية قاطرة أخرى, قد يعني نوعاً من الانتحار الجماعي, فحركة فتح تمتلك الكفاءة, ولكنها لم تتفق حتى الآن على القيادة, وعلى وحدانية المرجعية, والانتخابات وحدها لا تكفي بديلاً عن كاريزمية القيادة, ولكن القاطرات الأخرى ليس أمامها من طريق تندفع إليه سوى الهاوية !!! وهذا يعني أن حركة فتح في عيدها الحادي والأربعين ما زالت ضرورة وطنية فلسطينية, ولكن هذه الضرورة مطالبة بأن تتسلح بأدوات العصر, وخطاب الزمن الراهن, وأن تتفق على تحويل قداسة الولاء للماضي إلى تجسيد حيّ للواقع وأن تنتخب الخليفة الأصلح وتجمع عليه حتى لا تظل تبكي على النبي الغائب!!!
حركة فتح ضرورة وطنية حتى بالنسبة لخصومها الذين يتطاولون عليها الآن بنوع من الجرأة الزائدة لأن صفاء نورها الوطني, هو الذي يحمي كل مفردات القافلة من التيه والتخبط في وعورات وكمائن وألغام القوى الإقليمية !!! فتح مازالت ضرورة وطنية لأنها ما زالت تمتلك المقدرة على صنع البدايات والذهاب إلى المستقبل, وليس مثل الآخرين الذين يركبون العربة بالمقلوب, هي تتحرك بهم إلى الأمام, وهم ينظرون منها إلى الخلف !!!
وتحية يا فتح
فما زالت البشارات تضيء الطريق.
[email protected]