طولكرم:جمعية عهود للثقافة والتنمية توزع قصة قصيرة في ذكرى النكبة
نشر بتاريخ: 12/05/2009 ( آخر تحديث: 12/05/2009 الساعة: 17:23 )
طولكرم - معا - وزّعت جمعية " عهود " للثقافة والتنمية قصة قصيرة على المكتبات العامة وطلبة المدارس، وذلك في إطار فعاليات إستذكار النكبة الــ (61).
وجاءت القصة تحت عنوان"الى ان نعود" للأديب الفلسطيني غسان كنفاني.
وفي سياق منفصل، نظمت الجمعية ورشة عمل بالتعاون مع رابطة يافا للثقافة الوطنية والتراث تحت عنوان " الوعي والثقافة الوطنية " شارك فيها مجموعة من الشباب والشابات وتستمر لعدة أيام.
القصة التي وزّعت:
جمعية عهود للثقافة والتنمية
فلسطين – طولكرم
الذكرى الواحدة والستين للنكبة
أيار /2009
قصة قصيرة
إلى أن نعود
غسان كنفاني
دمشق 24/6/1957
إلى أن نعود
.. مع أشعة الشمس التي كانت تأكل رأسه وهو وحيدا في صحراء النقب، كان يسمع صخب أفكاره في رأسه كأنها مجموعة مسامير تدق.. ولا تنغرس.
إن انفه يعمل الآن تماما كما تعمل البوصلة، وهو يشعر أنه يقترب من هدفه، أنه يعجب لنفسه كيف لم ينقطع عن التفكير العنيف طوال هذه الساعات المضنية، لقد فكر في هذه الساعات كما لم يفكر أبدا طوال ثماني سنوات.
ويغرس قدميه في الرمال الناعمة، ويقتلعها كما تقتلع قطعة الخشب العتيقة عن غراء لم يجف بعد كما يجب، ثمة أحاسيس ضخمة تمتلك عنه ذكرياته، إن هذه الأحاسيس لتتداخل في بعضها وتتشابك حتى ليشعر أنها لازمته زمنا طويلا، ويصعب عليه الآن أن يتصور نفسه كيف كان بدونها.. أنه عطشان إلى حد يشعر فيه بأن حلقه أضحى جافا جامدا، فلم يعد ثمة ضرورة لبقائه، ويشعر بالتالي أنه تعب، مرهق، يكاد يتهاوى، كأنما انتهى لتوه من شد قارب كبير من البحر إلى رمل الشاطئ المبلول لكنه مع هذا كله، كان يسير، مندفعا كأنه يسابق نفسه، كان نصفه العلوي يتقدم منحنيا عن بقية جسده.. فالرمل الناعم يعيق سرعة قدميه، كان قصيرا، اسمر البشرة، محروقا، لم يكن في وجهه أي شيء يستلفت النظر لأول وهلة، كل ما هنالك أن لفمه شفتين رقيقتين تنطبقان في تصميم، إن شكل وجهه يثير في الإنسان _ لدن تدقيق النظر شعورا بأنه يشاهد حقلا صغيرا، بل وأكثر من هذا، فان الخطين اللذين يشقان جبهته يحب الإنسان أن يشبههما بآثار((شفرات)) محراث مر لتوه من ذلك المكان..
لقد بدأت رائحة أرضه تذيب أحاسيسه، شيء جميل أن يشم المرء جزءا من ماضيه، إن رأسه الآن تنفتح كأنها صندوق عرس منقوش بالصدف ويحوي كل شيء، ويرى فيه داره الصغيرة الرطبة، وزوجه ترش التراب بالماء، ثم يرى نفسه آتيا من حقله بقدميه الموحلتين، إن الصورة يراها أمامه هكذا، بل وأكثر من ذا، كأنه يستعيد منظرا عاشه قبل دقائق فحسب، انه يرى الصورة بكل تقاطيعها الدقيقة، حتى ليرى نفسه كيف يسير، لم يتيسر له قبل الآن أن يراقب سيره بهذا الوضوح وهذا الإمكان.
وهو يقترب من أرضه، هكذا يشعر في أعماقه عندما بدت له أول (بيارة) من (ببارات) أهل قريته، ابتدأ الصوت الذي ودعه على فوهة النقب الجنوبية يدق رأسه، ويتجاوب صداه في جسده :
- ((هي أرضك، الم تعش هناك؟ حسنا، انك تعرفها أكثر من سواك، في واحد من الحقول بنى اليهود خزانا يسقي المستعمرات القريبة، اعتقد انك فهمت، إن الديناميت الذي تحمله يكفيك...)).
لم يتكلم بعدها، بل انطلق عبر النقب وحيدا، وحيدا إلا من هذه الزوبعة التي تثور في أعماقه.. وها هي ا رضه، حيث درج يلهو، تستلقي في أحضان الجبل باستسلام.
وانزلق بين الحقول الخيالية في حذر، مستمدا من رائحة ترابه شعورا بقدرة لا تقهر، وأصابعه تطبق على سكينه في تهيؤ (( وحشي)). إن رأسه تشتط به وتختلط في تاريخ الحقول التي يعرفها جيدا، ويجد عناءا شديدا في العودة إلى الحقيقة..
وعندما استدار حول حقل كان لأبي حسن- جاره- في يوم من الأيام، رأى نفسه يشد رأسه عاليا وهو يرقب بشعور غامض خزان المياه، يرتفع كأنما ليصل الأرض
بالسماء.. ليؤمن لها الماء. لكنه ساءه أن يقف الخزان، هكذا، في الحقل المعطاء.. انه بوقوفه هذا يشوه إحساسا جميلا أحسه هو، وجميع جيرانه، طوال حياتهم.. إنهم، الفلاحين، يحسون الأرض إحساسا بينما ينظر سواهم إليها كمشهد عابر، إن أي حقل، يبعث بالفلاح شعورا تلقائيا بأنه- ذلك الحقل، يلقي على مجوداته ظل الأبوة مهما عظمت، فيشعر الإنسان إنها في حماية قوة غامضة، هائلة، مخيفة، لكنها محببة..
ولكن الخزان يدمر هذا الإحساس، وهو واقف هناك كحقيقة مرة تعطيه نوعا آخر من المشاعر، بل أنه يحس إحساسا عميقا ساكنا بأن الأرض نفسها ترفض الخزان.. لا تريد إن تحميه، انه يعني شيئا آخر، غير الري والماء، شيئا كبيرا داميا كالمأساة.
وحبس أنفاسه وهو يراقب من خلال العواسج أرضه التي أنسكب عليها عرقه ليخلقها من العدم، هاهو إذن البيت الصغير الذي كان يأوي إليه مع زوجة أيام العمل المتواصل في موسم الحصاد، فلقد كان بيتاً جميلا على ما فيه من تواضع، أما الآن، فلقد تهدمت ناحية منه، والناحية الثانية التي تتكئ على صخور الجبل قد علاها الغبار وصبغتها ذرات رصاصية من دخان ( الموتور )، إن الخزان يقتحم حياته بشكل مزعج، لقد أقيم في الساحة التي كان يجلس فيها وزوجته قبل أن يناما، يتحدثان فيها عن الذرة والقمح، لقد كان في مكان قائمة الخزان الأقرب للدار شجرة أجاص فريدة من نوعها، كان يحبها ويعتني بها، هنا، قرب الباب المتداعي كانت تنام زوجته ليالي الصيف، كانت في تلك الأيام يدعو جيرانه للجلوس، فتسره زوجته وترش الساحة بالماء فتكسبها رطوبة محببة .
وفجأة، وبدون أي سابق إعلام سقطت من أعماقه اللاواعية إلى حياته الواعية صورة مدوية مروعة، اجتاحته كالطوفان، هوت إلى حواسه كلها دفعة واحدة فشغلتها كلها، قبل أن يرحلا بيوم واحد ....
بيوم واحد فقط، دخل اليهود إلى البيارات، ووجد أن عليه أن يترك ولو إلى حين- ذلك العطاء .... وجر زوجته وترك أرضه، وسار ... إلا أنه قبل إن يجتاز باب حلقة المقطع، دنا إلى زوجته، وألقى نفسه مشدوداً إلى دمعة كبيرة في عينيها الواسعتين .. كأنما هي ذوب حنين ... كان يريد أن يقاوم لكنه رأى نفسه محاطاً بالتساؤلات التي غرستها دمعة زوجه في عروقه الزرقاء : إلى أين؟ وأرضك؟ أليس من الأفضل أن تعيد إلى التراب عطاءه لحماً ودماً ؟
ودون أن يتكلم، سحب زوجته من يدها إلى حلقة، ولم يستطيع ابدً أن يحرر نفسه من النداء الطيب في العيون الواسعة .
في تلك الليلة .. شنق اليهود زوجه على الشجرة العجوز بين الساحة والجبل أنه يراها مدلاة عارية تماماً ... كان شعرها محلوقا و مربوطا إلى عنقها وينزف من فمها دم اسود لماع .. لقد شدوا خصرها النحيل شدا مجنونا، لم يكن في وجهها كله، ما يشير إلى إنها كانت، قبل هنيهة، تملأ الساحة رصاصا ونارا ودما، في ذلك الوقت، كان هو مربوطا إلى شجرة المقابلة يشهد كل ما فعلوه عاجزا، لقد شدوه إلى الشجرة بحبال الحراثة بعد إن سلخوا ظهره بالكرابيج الجلدية طوال بعد الظهر، وتركوه يشهد كل شيء، تركوه يحدق ويصيح كالمجنون .. لقد حشوا فمها بالتراب عندما قالت له مع السلامة ) وماتت. وتركوه يمضي كي يموت بالصحراء مع ذكرياته..
انه لا ينظر الآن إلى هذه الصورة نظرة المشاهد، لا، أبدا، إنها تتفاعل بأعماق أعماقه ويحسها ويراها تنسكب على أعصابه كالرصاص المذاب، إن ذاته تتفاعل الآن مع الماضي بشكل عجيب، لم يستطيع أن يخلع نفسه من الصورة الدموية، ولا أن يخلعها من نفسه، كان حاضره يمتزج مع ماضيه مزجا معقدا، إن صوت استغاثات زوجه وأنينها المقطع المحروق، وصوت أسنانها تمضغ التراب، وصوت حنجرته وهي تطبق على صياحه في بحات هستيرية، كل هذا، كان يمتزج امتزاجا متشابكا بصوت الانفجار المروع، وصوت الخزان العملاق يقتلع من الوجود..
ويمتص الدخان الأسود بعض أحاسيسه الدامية، ويرنو إلي الحطام بهدوء صاخب..
لقد عاد في المساء إلى خيمته، كان متعبا منهوكا، يحس كأنما قد تباعدت مفاصله عن بعضها، وعلى عضلاته أن تتوتر إلى الأبد كيما تنشد بينها، وأحس وهو يصافح الإنسان الذي ودعه قبل أن يذهب إلى مهمته انه لا زال في المعركة التي بدأت منذ زمن بعيد .. وسمع صوته : ماذا ؟ انتهى كل شيء على ما يرام ؟
- وهز رأسه في إعياء..وعاد يسمع صوت الرئيس:
- هل أنت تعب؟ وهز رأسه نفيا وهمس بصوته العميق المجروح:
- هل أعددت مهمة صباح الغد؟
ووصله صوت رئيسه من بعيد :
ولكنك لا تستطيع أن تتابع غدا.. يجب أن تستريح .. -
ودون أن يفكر أجاب : بل استطيع ..
- إلى متى تحسب انك تستطيع أن تواصل على هذه الصورة ؟
قال وهو يسند رأسه على كيس المتفجرات :
- إلى أن نعود..