الفاسدون وقتلة عرفات - بقلم عبد الباري عطوان
نشر بتاريخ: 08/02/2006 ( آخر تحديث: 08/02/2006 الساعة: 12:01 )
لندن- معا- القدس العربي- في خطوة جريئة وغير مسبوقة، وان كانت محفوفة بالمخاطر، كشفت السلطة الوطنية الفلسطينية، مضطرة، وبسبب فوز حركة حماس الساحق في الانتخابات التشريعية الاخيرة، عن مجموعة من ملفات الفساد، اكدت حسب ما جاء في المؤتمر الصحافي للنائب العام، سرقة واهدار اكثر من سبعمئة مليون دولار، معظم المتورطين فيها من حركة فتح .
الرئيس محمود عباس، الذي يتحمل مسؤولية هذا الفساد بحكم موقعه، وكان من المفترض ان يستقيل بعد هزيمة حزبه الحاكم، اراد بهذه الخطوة تبرئة نفسه شخصيا، وتجريم الحركة التي يتزعمها، وحصر الفساد في مجموعة صغيرة ضعيفة، وتجنب ذكر اللصوص الكبار، وبعضهم اعضاء بارزون في حكومته، ومن اقرب المقربين اليه شخصيا وعائليا، والانتقائية في التعامل مع ملفات الفساد هي قمة الفساد.
والفساد المالي خطير بكل المقاييس ولكن ما هو اخطر منه، ويستحق المحاسبة فعلا هو الفساد السياسي، والتفريط بالثوابت الوطنية، والتنازل عن الارض الفلسطينية، وهذا الفساد بدأه وللأسف الشديد رئيس السلطة السيد عباس اثناء مفاوضات اوسلو بالتنسيق مع الاسرائيليين والامريكان، وواصله بعد انتقال قيادة المنظمة الي غزة، حيث بدأ مسيرة الانقلاب علي الرئيس عرفات وتصفيته سياسيا، وتجريده من جميع صلاحياته المالية والامنية، من خلال خلق منصب جديد له شخصيا، هو منصب رئيس الوزراء، اي انه اراد ان يرث عرفات وهو حي يرزق، حتي يتفرد بالقرار، ويقبل بالشروط الاسرائيلية كاملة في تسوية معيبة.
طالبنا، وسنظل نطالب بفتح جميع ملفات الفساد، وتقديم كل الفاسدين الذين سرقوا دماء الشهداء والارامل الي القضاء، واسترداد كل فلس سرقوه من اموال الشعب الفلسطيني الجائع المحروم، ولكن حتي تتحقق هذه الخطوة الهامة والضرورية، وتعطي ثمارها، لا بد من اصلاح القضاء وانشاء محاكم نزيهة، وتعيين نائب عام نظيف غير ملوث بالفساد، وغير مدان باختلاس اموال نقابة المحامين، يملك ضميرا وطنيا واخلاقيا، ينحاز الي الحقيقة والعدالة، واذا لم يتحقق ذلك، فان كل ما يجري حاليا من كشف للفساد، هو مجرد تضليل وتصفية حسابات شخصية، وحركات بهلوانية لا تقنع الا السذج.
هناك ملفات كبيرة اخري ما زالت مغلقة ويحرم الاقتراب منها، مثل ملف الاستثمارات الفلسطينية، وملف الاسمنت، وملف المعابر، وملف سرقة رمال غزة وبيعها للاسرائيليين، وهي ملفات متورطة فيها حيتان كبيرة لا يجرؤ السيد عباس علي المس بها خوفا وجبنا.
كشف الفساد والفاسدين خطوة جيدة ومحمودة، ونتطلع ان تتلوها خطوات اخري، في اطار من الشفافية والنزاهة، وابرز هذه الخطوات التي ننتظرها محاسبة ابناء الرؤساء في فلسطين وملف الطفل المعجزة بالذات الذي استغل موقع والده، وكان يذهب الي دولة الامارات حاملا رسائل من هذا الوالد غير الفاسد الي المسؤولين فيها، تتعلق بامور سياسية خطيرة، وعندما يستقبله هؤلاء في المطار ويقودونه مباشرة الي قصر الشيخ زايد رحمه الله، لمناقشة هذه الامور والاطلاع علي فحوي الرسالة، يكتشفون ان الرسالة الخطيرة تطلب من هؤلاء اعطاء وكالة طيران الي هذا الابن البار. والشيء نفسه حدث في دبي والدوحة وعواصم اخري.
التحقيق الاهم في رأينا، والذي يجب ان تبدأه الحكومة الجديدة، هو بحث كيفية اغتيال الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مسموما، ودور المحيطين به في هذه الجريمة، واسباب صمت الرئيس عباس عليها، وعدم نطقه حتي هذه اللحظة بأي كلمة تدين هذا الاغتيال، وتقربه، وتبرئة الاسرائيليين من هذه الجريمة.
قمة العقبة الشهيرة التي رعاها الرئيس الامريكي جورج بوش، وحضرها السيد عباس جنبا الي جنب مع ارييل شارون، كانت الخطوة الاولي لتصفية الرئيس عرفات سياسيا تمهيدا لتصفيته جسديا، فقد قبل السيد عباس، وكان رئيسا للوزراء، واختير بديلا للقائد التاريخي للثورة الفلسطينية وهو حي، ان يقرأ ورقة اعدها له الاسرائيليون تحدث فيها باسهاب عن اليهود وتسامحهم وعدالتهم ومعاناتهم الطويلة، واكد عدم وجود اي عداء بينهم وبين الفلسطينيين، ودان الانتفاضة المسلحة واعتبرها ارهابا، وطالب بنزع سلاحها، ولم يذكر كلمة واحدة عن حق العودة او معاناة الشعب الفلسطيني والمجازر الاسرائيلية التي ارتكبت في حقه.
الرئيس عرفات مات مسموما، وكان من المفترض ان يكون خليفته الاكثر حرصا علي كشف حقيقة ما حدث، والجهات التي تقف خلف هذه الجريمة، والمتورطين فيها، من خلال تشكيل لجنة تحقيق دولية، والذهاب الي الامم المتحدة ومجلس امنها، تماما مثلما فعل اللبنانيون بعد اغتيال الرئيس الحريري، ولكنه للأسف لم يفعل، ولاسباب ما زلنا نجهلها ويجهلها الشعب الفلسطيني بأسره.
ونحن نقف علي ابواب الذكري الثامنة عشرة لصدور هذه الصحيفة، نذكّر باننا وقفنا دائما في خندق هذه الامة دفاعا عن قيمها ومبادئها وعقيدتها الاسلامية السمحاء. دافعنا عن قضاياها العادلة، وكرامتها الوطنية، وتصدينا للفساد والفاسدين في كل مكان وزمان، وخاصة في فلسطين، ووقفنا الي جانب شعبنا العراقي المحاصر عندما تخلي عنه الكثيرون، وساندنا ونساند مقاومته الباسلة الشجاعة طلبا للتحرير والاستقلال الحقيقي، وعارضنا كل اعمال البلطجة التي تعرض لها اشقاؤنا في مصر في اطار عمليات التزوير ومصادرة الحريات، مثلما طالبنا بالديمقراطية الوطنية الحقيقية في بلداننا وانتصرنا لحقوق الانسان والحريات التعبيرية.
بسبب هذه المواقف قطعنا في هذه الصحيفة كل صلاتنا مع السلطة الوطنية ومنظمة التحرير قبلها، في اليوم الاول الذي انكشف فيه الدور الذي لعبه السيد عباس في مفاوضات اوسلو، وبالتالي ما ترتب عليها من اتفاقات وفساد. وهو الدور الذي جاء بايعاز امريكي اسرائيلي لتخريب منظمة التحرير، وتلويث حركة فتح وبيع الانتفاضة الاولي التي اعيت رابين، وهزت الكيان الاسرائيلي وأسسه، بثمن بخس.
رفضنا عرضا من الرئيس عرفات بتولي منصب وزاري رفيع، مثلما رفضنا عرضا اخر بالتمويل حمله الينا السيد محمد رشيد (خالد سلام) كان مغريا للغاية، ومرفقا بتصريح طبع في رام الله، لاننا لم نشأ ان تكون لنا اي صلة بتلك المرحلة من تاريخ شعبنا درءاً للشبهات.
هذه المواقف، وفي مثل هذا الزمن الامريكي ـ الاسرائيلي الاصعب، الذي تنحني امامه زعامات كانت كبيرة في دول كبيرة، عرضتنا الي العديد من محاولات التشويه والابتزاز، من قبل فاسدين ومأجورين، ووجهت الينا اتهامات كثيرة، كان آخرها كوبونات النفط العراقية، وتلقي اموال من الرئيس صدام حسين، وخرجت المعلومات، واذاعت الامم المتحدة لائحة بالاسماء، ولم يكن اسم هذه الصحيفة او اي من العاملين فيها من بينها.
سنستمر في هذه المسيرة، ووفق المعايير التي اختطناها واتبعناها في اليوم الاول من الصدور، ولن نتردد لحظة في قول كلمة الحق، ايا كان الثمن. ونعد قراءنا واهلنا العرب والمسلمين في كل مكان، اننا لن نركع او نتراجع مهما بلغت شراسة التهديدات وحملات التشويه، سنواصل المسيرة من مقرنا المتواضع الذي ليس سوي شقة من اربع غرف في حي همرسميث الشعبي الفقير.
الحياة وقفة عز، هذا هو موقفنا وهذا هو شعارنا، وسنقول كلمتنا وكل ما ينصر ديننا وعقيدتنا وقضايانا العادلة ولن نتردد لحظة.. وفي جعبتنا الكثير.