أوروبا - الشرق - جنون الحرية وحرية الغضب - بقلم - أكرم عطاالله العيسة
نشر بتاريخ: 13/02/2006 ( آخر تحديث: 13/02/2006 الساعة: 20:45 )
وكالة معا - في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي, اجتاحت معظم مدن أوروبا ثورات طلابية شبابية عارمة, شكلت نموذجا غريبا للحرية, أعجب الكثيرين في الشرق والغرب, تمردت على الدولة وبيروقراطيتها, ثارت على جزء مما تبقى من تدخل الكنيسة, وساهمت في ترسيخ مفاهيم اعتبرها البعض اقرب للعبث مما هي للواقع.
لقد أجمع الكثير من الفلاسفة على أن تلك الثورات تحمل الكثير من التوجهات اليسارية والتقدمية وعلى أنها أكثر ميلا للدفاع عن الشعوب المظلومة, ولكن البعض أيضا اعتقد أن جزءا من هذه الحركات تحمل بذور الانغلاق القومي والعبثية اتجاه الكثير من الاعتقادات الثقافية والدينية. ولكن أكثر ما بدا متميزا أن مثل هذه الحركات والتي نشطت في حينه أيضا في كل الدول الأسكندنافية أنها أسهمت في حالة انفتاح على العالم وقبول للأخر.
من جهة أخرى فان ظهور تلك القوى والحركات السياسية, قد ترك أثرا كبيرا على التوجهات السياسية والاقتصادية للدول الأوروبية خاصة الأسكندنافية والتي يزيد معدل إسهاماتها في دعم الدول الفقيرة أكثر بكثير من الدول الأوربية الأخرى ( علما انه توجد الكثير من الملاحظات والمآخذ على كيفية تسيير وإدارة أموال الدعم تلك).
إن هامش الحرية الأكبر والأرحب الذي شقته أوروبا خلال العقود الأربعة الأخيرة, هو الذي أدى بالموقف الأوروبي ليكون مختلفا عن الموقف الأمريكي اتجاه القضية الفلسطينية واتجاه العراق , وحتى في كيفية التعاطي مع ما يسمى الحرب على الإرهاب. وكذلك الحال إلى حد ما في التعامل مع الثورة الإسلامية في إيران.
قيل يوما إن حريتك كانسان تنهى عندما تبدأ حرية الآخرين, هذا المفهوم النابع من الثقافة الأوروبية والتي بدت دوما مدافعة عنه, ورافعة إياه كشعار, ومستخدمة إياه أحيانا كمبرر لبعض الحروب, وأحيانا أخرى وسيلة لعقاب أو محاصرة بعض أنظمة الشرق, فان بعض الدول في أوروبا لا يحلوا لها تطبيقه, بل أحيانا تعمل على تطبيقه بشكل انتقائي وبما يخدم بعض المصالح السياسية, ودون أي اعتبار حقيقي لمفهوم حرية الرأي والاعتقاد. و اكبر تلك الأمثلة ما يتصل بالثقافة اليهودية والصور التشهيرية لليهود و اعتقاداتهم. وأنا لا اقصد انه يجب المس بها أو التهكم عليها, إنما المطلوب عدم الكيل بمكاييل عدة عندما يتصل الأمر بثقافات الشعوب و خاصة اعتقاداتها الدينية المقدسة.
قبل عامين عرضت بعض المحطات التلفزيونية العربية مسلسل "فارس بلا جواد" والذي طال بطريقة أو بأخرى "بروتوكولات حكماء صهيون) وعرضت بعض المحطات الأخرى مسلسلا تلفزيونيا أخر "إرهابيات شارون" يتعلق بالاضطهاد الأسرائيلي للفلسطينيين, عندها لم تتم عملية النقد والإدانة فقط من قبل بعض المؤسسات الصحفية والإعلامية في الغرب, بل إن الإدارة الأمريكية طالبت الحكومات العربية بان تدين تلك المسلسلات وان تعمل على إيقافها, لأنها تثير بذور الكراهية والحقد, ولا تساهم في سيادة مفاهيم السلام حسب الاعتقاد ألأمريكي.
المهم هنا ليس صحة ذلك من عدمه, بل المهم هو التدخل المباشر من ألإدارة الأمريكية, وقيام بعض الحكومات العربية بالموافقة على وقف تلك المسلسلات. لماذا يا ترى كان الموقف مختلفا في حينه ولماذا لا يتم احترام الغير ومعتقداته بدرجة متساوية.ولماذا لا تقوم الإدارة ألأمريكية بمعالجة الموقف بنفس الشكل السابق, وإنما تطالب الشرق فقط بالهدوء.
لا يختلف اثنان في الشرق المسلم, وبغض النظر عن درجة إيمانهم انه من الضروري دوما احترام الرموز الدينية وخاصة عندما يتعلق الأمر بالرسول محمد عليه الصلاة والسلام, ولكن هنالك من يحاول في الشرق أيضا أن يظهر وكأن الغالبية في الغرب تؤيد المساس بهذه المقدسات, بل تعمل بعض الجهات على تأجيج الصراع وليس الوصول إلى حلول مناسبة تساهم في ترسيخ مفهوم احترام الثقافات.
هل نحن يا ترى بحاجة إلى حرق سفارة أو خطف شخص ما من اجل إيصال رسالتنا, أم أننا ومن خلال بعض التصرفات الغريبة يجرنا البعض إلى حالة مواجهة كاملة مع أوروبا, في وقت نحن بحاجة إلى تقوية من يتفهم قناعتنا وقضايانا ويحترمها. لماذا نلجأ إلى حرق الأعلام مع معرفتنا أن علم الدنمرك لا يمثل فقط تلك الصحيفة التي أساءت إلى نبينا عليه السلام بل يمثل ايضا تلك الأغلبية التي تعتبر هذه الصحيفة عبثية وغير مسؤولية.
لماذا نلجأ إلى حرق علم النرويج ونحن نعرف أن هنالك حملة عارمة لمقاطعة البضائع الإسرائيلية, وان تلك الجموع وقفت ضد تلك المجلة اليمينية التي أعادت نشر تلك الصور المسيئة لمقام النبي عليه الصلاة والسلام , علما أن هناك دولا إسلامية تسوق وتبيع وتشتري تلك البضائع.
ولماذا يتجاهل البعض من وسائل إعلامنا إظهار الموقف الذي أعلنه الرئيس الفرنسي وهو ينتقد بشدة الصحيفة الفرنسية المغمورة واستهتارها بمشاعر الآخرين, أو الموقف الذي أعلنه وزير خارجية النرويج, عندما اعتبر إن المجلة النرويجية قد أساءت إلى مشاعر ملايين المسلمين, ويتم التركيز فقط على القول أن رئيس وزراء الدنمرك لم يقف ويعلن صراحة اعتذاره. علما انه أدان صحيفة يلاندس بوستن.
في اعتقادي ان المطلوب ليس البحث عن اعتذار رئيس وزرا الدنمرك. إنما المطلوب هو الضغط على كل الحكومات الأوروبية, ومن خلال التعاون مع الأحزاب الأوروبية ومؤسسات المجتمع المدني الأوروبية في سبيل استحداث قوانين جديدة تساهم في قبول الآخر وعقيدته وثقافته. ليس المطالبة بوقف الاحتجاجات والتنديد بكل من وقف وراء تلك الرسوم, وإنما سؤال يدور في خلد الكثير من أبناء الشعب الفلسطيني, لماذا لم تخرج كل تلك القوافل المنددة المتظاهرة عندما رسم المستوطنون الإسرائيليون النبي محمد عليه الصلاة والسلام في صورة خنزير, ولماذا سكتوا دهورا, وما زالوا على المس المتواصل بالمقدسات الإسلامية و في مقدمتها المسجد الأقصى؟؟
كما نصرخ منددين بجنون الحرية الذي يبرر للبعض المس بالمقدسات والرموز الدينية, ونطالب بوقف و محاكمة تلك الزمر اليمينية المتطرفة في الغرب واحترام حرية الآخرين وقناعتهم واعتقاداتهم, لماذا لا نصرخ داعيين إلى حوار مفتوح مع أوروبا, ونشرح ونعيد ونزيد حول ثقافاتنا ومقدساتنا وألا نسمح لحرية الغضب أن تبعدنا عن أهدافنا الحقيقة, بل قد تساهم في ائتلاف يجمع ما بين من يحترم ثقافتنا ومن يعمل دوما على المساس بها.