الأحد: 22/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

"المواطنة الكاملة/بقلم: رجاء زعبي عمري - حيفا

نشر بتاريخ: 14/02/2006 ( آخر تحديث: 14/02/2006 الساعة: 21:35 )


"المواطنة الكاملة" هي مشروع استكمال الأسرلة المنقوصة.. والمقاطعة موقف يتصدّى لاستكمال الأسرلة ويدعو إلى صياغة بديل.

نحن في قلب جهنّم.. نحن الجماهير العربية الفلسطينية في إسرائيل نمرّ بمحنة قاسية. فنحن من جهة ضحية ممارسات إسرائيل العنصرية، ومن جهة أخرى مجتمع مأزوم بالطائفية والحمائلية وبالجريمة والفقر والعنف والجهل والمرض

ولا يغيب عن بالنا العلاقة بين الأمرين! ولكن من قلب هذا الواقع المرير ينطلق نداء المقاطعة، ولأنه من داخل تساؤلنا الحارق عن مكمن الخلل، ننوّه إلى حقيقة مريرة، وهي أننا ما زلنا نتردّى من هاوية إلى هاوية، رغم أن جميع الأحزاب تقدم طروحات تتعلق بمستقبل الجماهير العربية الفلسطينية في الداخل. فأي مستقبل ينتظرنا والحالة هذه؟

نحن من حقّنا أن نتساءل: لماذا بعد 57 سنة تحت قيادة الحزب الشيوعي الإسرائيلي، و31 سنة تحت قيادة الجبهة، وقرابة 30 سنة تحت قيادة الحركة الإسلامية، وأخيرًا، عشر سنوات تحت قيادة حزب التجمع الوطني الدمقراطي.. ما زلنا نتردّي من أزمة إلى أزمة ومن هاوية إلى هاوية.

الذي يروّج أن جهنّم يمكن لها أن تتحول بالعمل البرلماني إلى "جنّة جميع مواطنيها" يخدع الناس. والذي يروّج أن حركة المقاطعة الشعبية هي خروج من السياسة، أيضًا يخدع الناس.

فلا حيدة في جهنّم، والمقاطعة موقف!. والذي لم يستطع أن يقضي على الطائفية والحمائلية ويبني مجتمع "الأقلية القومية" بعد أن رفع لواءها عشر سنوات في الساحة السياسية، عليه أن يجيب الأول عن تساؤلاتنا الحارقة. والأحزاب التي اندفعت وراء مقولات المواطنة ونسيت الجماهير عليها أيضًا أن تحاسب نفسها.

ملخّص مشروع المقاطعة هو قطع الطريق على مشروع استكمال الأسرلة، الذي فيه استكمال غيابنا في غياهب العدمية والتشرذم.. نحن ندّعي أن هذا هو سرّ الأزمات العديدة التي يواجهها مجتمعنا، وندّعي أن هنالك حاجة ماسّة إلى طرح بديل - ليس للكنيست - وليس سؤالنا أبدًا: ماذا فعلتم لنا وماذا حصّلتم لنا من خدمات!؟ فنحن أدرى بواقعنا من أن نوجّه الاتهام نحو الأحزاب العربية.

حكاية التماس "أنا إسرائيلي"

الملاحظ هو أن المعركة الانتخابية في "الوسط اليهودي" تدور رحاها حول مسائل قومية من الدرجة الأولى، ويشكّل "الأمن القومي" لإسرائيل محورها الرئيسي، وأما بقية المسائل فتتبعه وتُلحق به. حتى محاولة عمير بيرتس التي بدأت برفع قضايا العدالة الاجتماعية انتهت في ساحة "الأمن القومي"، لأنه يدرك أنه بغير ذلك لن يستمع إليه إسرائيلي واحد. أمّا في الجانب "العربي" فالمعركة الانتخابية تدور حول مطلب "المواطنة الكاملة"، الذي يشكل عنوانًا لطموح وأماني المواطنين العرب في إسرائيل. وهو مطلب لا نخطئ حقيقته لو استبدلناه بمطلب استكمال الأسرلة، التي وصل التمسّك بها حدّ الالتماس إلى المحكمة العليا.

ومن هنا الحكاية:

في شهر 12 سنة 2003 تقدمت جمعية تدعى "أنا إسرائيلي" باسم 38 شخصًا - بينهم 7 من "عرب إسرائيل" ينتمون إلى أحزاب وطوائف مختلفة وبضمنهم "شخصيات". وقد طالب الملتمسون بإلزام وزارة الداخلية تسجيل قوميتهم "إسرائيلية" في بطاقة الهوية (وبند الهوية ألغي أصلاً لتجنّب الإشكالات التي يثيرها بين اليهود أنفسهم). وقد جاء في الفقرة 1 من الالتماس رقم 11286/2003 أن الملتمسين "كإسرائيليين كثيرين غيرهم، ينتمون بثقافتهم ولغتهم وواقع حياتهم وأحاسيسهم ومشاعرهم وسلوكهم وكامل كينونتهم إلى القومية الإسرائيلية". وهم يطالبون بحقهم الأساسي بالانتماء إلى القومية الإسرائيلية قانونيًا - دي يوري - وليس فقط فعليًا - دي فاكتو. وبالطبع يستشهدون باستطلاعات رأي وبأبحاث هوية.

ولكن المضحك هو أنهم يستشهدون باستطلاعات هوية تبيّن أنه بين اليهود ما بين 39-51 بالمئة يعرّفون أنفسهم إسرائيليين قبل كل شيء، وأما بين العرب فالنسبة أعلى، وتتراوح من 32،8 إلى 63،2 بالمئة!! - (ردّت العليا الالتماس لتداوله في المركزية). ولكن الأنكى من كل هذا هو أن أحد الملتمسين الذي أجريت معه مقابلة صحفية هاتفية لمدة ساعة وأكثر، أجاب على سؤال لي، بأن ما جاء في الفقرة واحد لا يمثّله بتاتًا، ولكنه لم ينتبه إليها!

كذلك علمنا منه أن العرب المشاركين في الالتماس لم يلتقوا وينسقوا موقفهم قبل اتخاذ الخطوة. وعلمت من مصدر آخر أن البروفسور أورنان "جنّنه" بإلحاحه عليه لكي ينضم إلى الملتمسين.

وإن تسألوني لماذا لم تُنشر المقابلة، فالجواب هو أنني أدركت ونبّهت ذلك الشخص إلى خطورة أقواله، وأنني أطلب إجراء مقابلة مسجّلة تجنّبًا للمشاكل. واتفقنا على لقاء في بلده. ولكني بعد أن غادرت حيفا وشارفت على الاقتراب من بلدته، اتصلت هاتفيًا بمنزله فردّت علي امرأة ونادته، وابتدأت محاججة وتُركت أنا مع هاتفي، إلى أن أغلق الخط.. وعدت إلى حيفا خائبة.

وعندما بدأت بالتحدث عن هذا الأمر، طلب منّي أحد الحزبيين أن أرسل إليه نسخة من الالتماس، وعندما واجه به شخصيات في الحزب، قال لي "لم يهتزّ أحد منهم لهذا الأمر.."!
وما أريد قوله في نهاية هذه الحكاية هو: هل يوافق أقطاب الأحزاب من الجبهة ومن التجمع وكذلك الشخصيات الملتمسة، على إجراء لقاء صحفيّ لمناقشة أمر الالتماس المذكور، لنقيس معًا وعلنًا المسافة الفاصلة بين الالتماس المذكور والمشروع السياسي للأحزاب العربية في إسرائيل، وكذلك لنفحص معًا وعلنًا حدود أطروحة المواطنة بكافة المفاهيم المؤسّسة لها وعلاقتها بالأسرلة، وتداعياتها بالنسبة إلى هويّتنا العربية الفسطينية.
* * *
من قلب جهنّم إلى جنّة جميع مواطنيها:

ادّعائي الأول هو أن طروحات الأحزاب العربية ليست مكشوفة بما يكفي لكي يقرّر الناخبون موقفهم منها. وهذا هو حقّ المواطن الأساسي أينما كان! الخطاب السياسي لدينا مموّه وضبابيّ ولا يجرؤ على ملامسة المسافة الفاصلة بين "طموحات وأماني الجماهير العربية الفلسطينية" وبين مضمون معاناتها. هل ما تعانيه هو جرّاء "مواطنتها المنقوصة" في دولة إسرائيل اليهودية والدمقراطية، وهل ما تطمح إليه هذه "الجماهير" حدوده هي حدود "المواطنة الكاملة" المرجوّة. وهل تلك "المواطنة الكاملة" هي طرح واقعيّ وقابل للتحقّق في أفق منظور؟

ادعائي الثاني هو أن "المواطنة الكاملة" هي طرح غير قابل للتحقّق في أفق منظور. وأنها أطروحة تمليها القوى الصهيونية اللبرالية المتعلمنة كرؤيا مستقبلية لإسرائيل، ولكن بشارة أسّسها في سياقنا منطلقًا من هزيمتين، كما يوضح لنا هو: هزيمة المشروع الوطني الفلسطيني والمشروع القومي العربي.

ولا يمكن لأي طرح سياسي أن ينطلق من هزيمتين شاملتين ويدّعي أنه يتحدث باسم "أماني وطموحات الجماهير العربية الفلطسينية". على مثل هذا المشروع أن يعلن صراحة أنه يتحدّث إلى العربي المهزوم والفلسطيني المهزوم الذي تدعوه إسرائيل "عرب إسرائيل" وأنه يطمح إلى الارتقاء بهذا المخلوق المشوّه والمنقوص ليصبح إسرائيليًا كاملاً، أي إسرائيليًا ناطقًا بالعربية. وهذا الكلام ندّعي أنه دقيق تمامًا، وأننا نستخرجه بسهولة بمجرّد استنطاق الفكر وتتبّع الممارسة لدى حزب "التجمع الوطني الدمقراطي".

من خمسينيات إميل حبيبي إلى تسعينيات عزمي بشارة:

إن تعرّضنا في هذا السياق إلى حزب "التجمع" خاصة، سببه هو أن هذا الحزب بقيادة د. عزمي بشارة يدّعي صدقًا أنه هو الذي جلب إلينا أطروحة المواطنة ولاءمها فكريًا لواقع العرب في إسرائيل، وهو الذي روّج لمفرداتها في الخطاب السياسي في "الداخل"، وأن باقي الأحزاب انساقت وراءه، سيّما وأن الشيوعيين - كما يقول بشارة - عندما طرحوا مطلب المساواة لم "يجرؤوا" على صياغة المطلب بدقّة تبيّن حدوده ومعانيه وتداعياته. وبالفعل، فإن حزب "التجمع" يحتفظ لنفسه بمصداقية كاملة بشرف هذه الجرأة.

غير أنه يتناسى بادعائه هذا أن مرحلة ما بعد أوسلو هي التي أتاحت تلك "الجرأة"، وهي التي أتاحت لبقية الأحزاب الانسياق في هذا الركب الجريء.

إن الخطأ الوحيد في هذا ادعاء الحصرية على "أطروحة المواطنة"، هو تجاهل جرأة المرحوم إميل حبيبي، الذي وإن لم يصغها بالدقة وبالتفصيل، فقد سبق "التجمع" عندما أعلنها ملخّصة سنة 1952 في مؤتمر حركات السلام في فيينا، حيث قال "لا يوجد في إسرائيل قوميّتان، وإنما يوجد شعب إسرائيلي فقط"، وأن "اللغتين العربية والعبرية من أصل واحد"، وأن "الشعبين العربي واليهودي من أصل واحد. وبما أن الشعب اليهودي - أي بني إسرائيل - هم الأكثرية، فيجب أن يسمى سكان إسرائيل عربًا ويهود باسم: الشعب الإسرائيلي". (اقتبسه راشد حسين في مقالة بعنوان "حين يجوع التاريخ" في مجلة "الفجر" تشرين أول، 1959). وهكذا نعود إلى الالتماس المذكور أعلاه، وإلى أطروحة المواطنة الكاملة - أي تحويل إسرائيل إلى دولة جميع مواطنيها.

مشروع المواطنة الكاملة هو مشروع استكمال الأسرلة المنقوصة؟

مشروع المواطنة الكاملة، لا يخصّ فقط "عرب الداخل" أو "عرب 48" - كما يسمّينا حزب "التجمع" - بل هو بالأساس مشروع أسرلة إسرائيل بيهودها و"عربها"، أي تحويلها من دولة يهودية إلى دولة إسرائيلية تحتضن "أمّة المواطنين" الإسرائيليين المتساوين بالمواطنة، بشقيهم "الأقلية" العربية و"الأغلبية" اليهودية.

الركيزة الأساسية لحزب "التجمع" هي "المواطنة" وليست الهوية القومية كما يدّعون علنًا. وقد أعلن عزمي بشارة في مرافعته أمام لجنة الانتخابات أن "المواطنة هي درّة التاج والبداية والحافز والجوهر من وراء إقامة حزب التجمع".

أين هو الجزء "القومي" في مشروع المواطنة والهوية، وماذا يعني حق "تقرير المصير" الذي تحوزه "الأقلية العربية"؟ الأقلية العربية في دولة المواطنين، هي "أقلية قومية" بالمعنى الثقافي فقط. وهذا يعني حقها المسند إلى حقوق الإنسان، وليس إلى حق الشعوب في تقرير المصير، لأن هذا الحق الأخير هو حق الشعب الفلسطيني، الذي هو تعريفًا:

مجموعة الفلسطينيين الذين يسعون اليوم لإقامة دولتهم الفلسطينية إلى جانب إسرائيل. الحقوق الجماعية للأقليات (التي هي نحن "الأقلية العربية") في الدولة القومية (التي هي إسرائيل) هي حقوق الحفاظ على نمط حياة وفق ما يتطلبه تراثها ولغتها ودينها، وهي حقوق تضمنها وتحميها مختلف مواثيق حقوق الأقليات في القانون الدولي، ومواثيق الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.

وقد حصّلناها منذ زمن، وطالب لنا بها إيهود براك أمام لجنة أور، واعترفت لنا بها "لجنة دوفرات" كمبدأ مؤسّس للعملية التربوية في مدارسنا العربية، وكل هذا بـ"فضل" البروفسور الصهيوني اللبرالي أمنون روبنشتاين.

وأما الاعتراف بنا "أقلية أصلانية" فاقرأوا عنه بالتفصيل في الجزء الأول من تقرير لجنة أور، وأيضًا لدى هرتسل، الذي وضع رؤيا لدولة اليهود، حاملاً أيضًا - كاستعماري أصيل - رسالة التنوير إلى سكان البلاد الأصليين.

إذن أصلانيتنا قد اعترف لنا بها جدّو هرتسل، ولا حاجة لرفعها لواءً ضمن خطاب وطني يستهوي قلوب الجماهير. وحقوق الأصلانيين في "دولة اليهود" في رؤيا هرتسل، التي ضمّنها في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه، تصل ذروات نحلم بها اليوم ضمن أطروحة المواطنة الكاملة. فهناك لدى هرتسل عربي أصلاني متنوّر يدعى رشيد بك، يتحدّث عن الفوائد التي جناها العرب ضمن الدولة اليهودية، ويشغل منصب نائب رئيس حكومة دولة اليهود، ويرشّح نفسه لرئاسة الحكومة، ولكن يتصدى له عنصري ظلامي متديّن قبيح يؤسس حزبًا يطالب بمنع حق التصويت عن العرب في دولة اليهود، ولكن هذا الحزب الظلامي يفشل في رواية هرتسل العلماني المتنور!!!


هل الأحزاب العربية أحزاب صهيونية:

ألف كلا!! ولأجل الجواب هذا، فقد تم الفصل المفهومي بين الصهيونية ودولة إسرائيل. تمامًا كما يتمّ الفصل المفهومي بين "حق العودة" كمبدأ، وبين المفاوضات وتطبيق العودة ممارسة.

فالصهيونية هي الاعتقاد بحق الشعب اليهودي في العالم كلّه بوطن قومي على أرض فلسطين. وهذا ترفضه جميع الأحزاب "العربية"!! ولكن هذه الأحزاب تقرّ بأن الصهيونية هي حركة تحرر قومي، وبأن إسرائيل هي تعبير عن حق تقرير المصير لليهود في إسرائيل.

ومستندها الشرعي هو قرار التقسيم الذي قال بدولة يهودية ودولة عربية. ولكنهم لا يطالبون بوقف الهجرة اليهودية مثلاً، وهكذا تبقى سيولة العلاقة بين يهود العالم ويهود إسرائيل.

لقد صرح عزمي بشارة في مرافعته أمام لجنة الانتخابات أن "قانون العودة" - عودة اليهود - بحاجة إلى تعديل. وقال هناك أنه ليس الوحيد الذي ينادي بذلك. ولكنه لم يصرّح بالتفصيل ما هي "التعديلات" المستوجبة على قانون عودة اليهود. أما د. مناحيم برينكر اللبرالي الصهيوني، فقد كان أكثر جرأة وصراحة في صياغة المقصود. وكذا فقد أتحفنا بتفاصيل مفيدة جدًا حول مقاصد قلب الجوهر والشكل في دمقراطية ويهودية إسرائيل.

لن ندخل هنا في التفاصيل لضيق المجال، ولكننا لن نهمل ذلك وسوف نبيّن هذا في مناسبة أخرى. ولكننا نقول باختصار أن هذه كلّها جهود - يشارك فيها د. عزمي بشارة - لتصحيح الصهيونية، ومصدرها هو معهد فان لير، ورشة التصحيح الكبرى للصهيونية منذ الخمسينينات. وهو المعهد الذي أشغل فيه بشارة منصب مدير لقسم الأبحاث لسنوات عديدة، نشر خلالها مقالته - غير الشهيرة - من عام 1993، عن العرب في إسرائيل، التي نشرت في "تئوريا وبيقورت" والتي نعتبرها سفر تكوين العربي الإسرائيلي. وهذا ادعاء سنتناوله أيضًا بالتفصيل فيما بعد.

حداثتنا وسيادتنا سنمارسها ضمن الدولة الإسرائيلية الحديثة:

أما "حداثة" الأقلية القومية هذه فتمارسها ضمن مواطنتها في الدولة القومية الإسرائيلية المقترح تحديثها في خطاب المواطنة. لا علاقة لانتمائنا الوطني الفلسطيني ولا لانتمائنا القومي العربي بهذه الأطروحة. الطرح القومي بمعنى حق تقرير المصير للشعوب وسيادتها، في مشروع المواطنة هو إذن طرح قومي موجّه نحو "الدولة" وليس نحو "الأقلية العربية". بمعنى أن المشروع القومي الحديث، الذي ينادي به د. عزمي بشارة، هو اقتراح تحديث المشروع القومي اليهودي (الذي يربط الانتماء الديني بالقومية ويشتق منه مواطنة لليهود ناجمة عن قانون العودة اليهودي وتختلف عن مواطنة العرب التي هي نتاج "حدث" بقائهم في نطاق الدولة اليهودية التي أقرّها وشرّعها قرار التقسيم)، بينما المواطنة الحديثة هي ارتباط مباشر بين الدولة والمواطن كـ"مواطن عالمي".

وكما قال عزمي بشارة في محاضرته إياها في أكسفورد، وفي مرافعته أمام لجنة الانتخابات، وفي كتابه "من شارون إلى يهودية الدولة"، فإن هرتسل (العلماني) لم ينادي بدولة يهودية، بل بدولة لليهود! وقد كان هذا في كتابه "دولة اليهود، حل عصري للمسألة اليهودية". ويقول بشارة أيضًا أن هرتسل "كان رجلاً علمانيًا. هو لم يحاول حتى أن يتبيّن ما هو "الجوهر اليهودي" وماذا يمكن ل"دولة يهودية" أن تعني.

لقد تحدّث عن دولة لليهود"! ويتابع قائلاً كاتبًا: "وهكذا فقد أراد هرتسل دولة لليهود والصهيونية وجدت نفسها تسمّي الدولة دولة يهودية"!!! ولقد ثبت فعليًا، يقول بشارة، أنه "بدون فصل الدين عن القومية لا يمكن فصل الدين عن الدولة، وهكذا فبالفعل والممارسة دولة اليهود هي دولة يهودية.

فهل يرفض عزمي بشارة دولة اليهود؟ كلا! دولة إسرائيل هي دولة الأغلبية اليهودية. هذا مقبول عليه كصيغة لدولة المواطنين التي ينادي بها. فما المشكلة إذن؟ يجب تصحيح مسار الصهيونية التي عليها أن تحيّد نفسها كأيديولوجيا قومية بعد أن حققت مشروع دولة اليهود.

وهكذا فإن نضالنا القادم في سبيل علمنة وقومنة الدولة اليهودية، وفقًا لأطروحة المواطنة الكاملة، سيكون هو هو نضالنا كمواطنين من أجل فصل دين اليهود عن دولة اليهود، لتستكمل هي سيادتها، ونحن أيضًا نستكمل سيادتنا عربًا ويهود كمواطنين إسرائيليين.

وهكذا هبط إلينا مشروع وطني مزدوج اسميًا: مواطنة وهوية، مواكنة كاملة وحقوق ل"أقلية قومية أصلانية" (والذي هو مطلب أمني إسرائيلي، استجابت الأحزاب العربية له، وبقي عليها فقط الترويج له بتغليفه بخطاب وطني موجّه إلى الجماهير، أي بتحويله إلى خطاب جماهيري). وفيما يلي، وللإيضاح فقط، نورد كيف حلّت "اللغة" محلّ "الأرض" في الخطاب الجماهيري.

من "الأراضي العربية" إلى "اللغة العربية" نموذج تحولات الخطاب:

لا بدّ أنه حتى الذين لا يتّصفون بدقّة الملاحظة بيننا، قد لاحظوا أن الخطاب الجماهيري يدور اليوم حول مسألة واحدة هي مسألة "اللغة" كمحور لانتمائنا وهويّتنا، بادّعاء خطر المؤامرات على مكانة اللغة العربية في الدستور المقترح. وهي مسألة أسّس لها بين ظهرانينا حزب التجمع الدمقراطي وانقادت وراءه الأحزاب الأخرى. (نذكّر فقط أن القائمين على إعداد دستور إسرائيل "يهودية ودمقراطية" استجابوا لضغط الحقوقيين العرب من جماعات خطاب "الحقوق الجماعية"، وعادوا من صيغة "مكانة خاصة" للغة العربية إلى الصيغة الأولى "اللغة العربية لغة رسمية"، ومع ذلك استمرّت الدعوة للدفاع عن مؤامرة هؤلاء ضد مكانة لغتنا العربية في الدستور المقترح!!).

استبدال "الأرض" بـ "اللغة" في الخطاب الجماهيري، هو أيضًا مؤشّر أسرلة. كيف هذا؟ ولماذا يحتاجون إلى عروبة "اللغة" في الخطاب الجماهيري؟ الجواب هو أن عروبة اللغة تستبدل "عروبة الأرض". نذكر جميعًا "لجنة الدفاع عن الأراضي العربية" التي تشكلت من أجل التصدّي لمصادرة الأراضي (العربية)؟ اليوم، لم يعد بإمكانهم استخدام مقولات تتعلّق بالأرض ضمن خطاب جماهيري عربي. لأن الأرض أيضًا تتمّ المطالبة بأسرلتها(!!) عوضًا عن عروبتها السابقة، فهي اليوم ليست أرضًا إسرائيلية.. هي أرض يهودية في قوانين وفي ثقافة الصهاينة التوراتيين. صارت الأرض لدى نخبنا السياسية والأكاديمية محورًا لمطلب مدنيّ هو "أن تتحوّل أرض الأمّة - اليهودية - إلى أرض جميع المواطنين" كما يقول عزمي بشارة في محاضرة ألقاها في أكسفورد عام 2004، وكما تقترح جماعة من الأكاديميين في تقرير طوارئ تم تقديمه إلى رئيس الحكومة براك في شهر 11 عام 2000، مباشرة بعد مجزرة أكتوبر. المطلب إذن هو أن تتحوّل أرض الأمّة اليهودية، من أرض "مقدّسة" تمّ "خلاصها"، إلى أرض إسرائيلية "معلمنة" يقتسمها المواطنون وفقًا لمبادئ "العدالة التوزيعية". وفقًا لهذه المبادئ يقتسم "عرب إسرائيل" و"يهود إسرائيل" أراضي فلسطين وفقًا لحاجات كل قطاع. وهكذا تمّ "مديّنة" مسألة الأرض بحيث أننا تدرّجنا في الخطاب: من مصطلحات "نهب وسلب" الأراضي العربية، التي تكون فيها الدولة اليهودية هي (الجاني) إلى مصطلح "المصادرة" الذي هو إجراء بيروقراطي تكون فيه أجهزة الدولة هي (الفاعل)، إلى مصطلحات أخصائيي التخطيط الذين يكتبون في الجرائد الموجهة إلى الجماهير(!) أن عرب الكمانة يعانون "ضائقة حيّزية" وهنا نكون قد انتقلنا من مفهوم "لأرض"إلى مفهوم "الحيّز".

هذا هو ملخّص مشروع المواطنة الكاملة في دولة جميع مواطنيها. وكلّ من يروّج أن قابلية تحقق هذا المشروع في المستقبل المنظور هي أكبر من قابلية مشروع تحرّر وطني، أي أنه مشروع أكثر واقعية، هو فقط يخدع الناس.

المقاطعة هي البديل للمسار التراجيدي الذي سيقت إليه الأحزاب العربية؟

حركة المقاطعة الشعبية هي حركة التصدّي لمسار الأسرلة الذي سيقت إليه واحتُجزت فيه الجماهير العربية الفلسطينية في الداخل. همّنا وموضوعنا الأوّل والأخير في نداء المقاطعة، هو مستقبل الجماهير العربية الفلسطينية وليس انتخابات الكنيست، وليس طرح بدائل للكنيست. ولكننا من خلال نداء المقاطعة، نعرض أيضًا على القيادات العربية مخرجًا كريمًا من سقطتها التراجيدية في نهاية الطريق الذي تسير فيه، وهو طريق الأسرلة، حيث ليس فقط سقف المطالب بل سقف الخطاب السياسي الفلسطيني في "الداخل" و"الخارج"، وسقف الخطاب العربي محكومان بالإملاءات الإسرائيلية - الأمريكية. والدليل الظاهر على ذلك في "الداخل" هو توحّد مطلبي المساواة والكرامة تحت مطلب "المواطنة الكاملة"، انسياقًا مع "التسوية التاريخية" في ما بعد - أوسلو. وهو المشروع السياسي الذي قاده حزب التجمع، وانقاد وراءه الحزب الشيوعي والجبهة ينافسانه على أقدمية وأولوية صياغة المشروع، متخلّين حتى عن خطابهم الطبقي، ثم تلت باقي الأحزاب.

مشروع الأسرلة لا بدّ أن ينتج عنه تدريجيًا انفضاض الناس باتجاه الأحزاب الإسرائيلية الحقيقية. فالناس ليسوا أغبياء ليرهنوا فلسطينيّتهم وعروبتهم في سياسة لا علاقة لها بالأمرين بتاتًا. الناس سينصرفون عن "السياسة" إلى "الخبز" لأنهم يعتقدون أن إسرائيل التي احتلت بلادهم، وطردت معظمهم، وصادرت أراضيهم، ستكتفي بذلك وستؤمّن لهم الخبز إذا اعتزلوا "السياسة".

ولكن المجتمع الذي يهرب منه الرغيف تلاحقه الجريمة والعنف وليس فقط الجهل والمرض. والمجتمع الذي يهرب من "السياسة" إلى خطاب مدنيّ منزوع الدسم هو مجتمع فاقد للهوية والكرامة. والبديل الوحيد لهذه الآفات هو إعادة الألفة والتضامن المجتمعي في الداخل عن طريق مشروع إنقاذ وطني أهليّ عاجل يضع خلفه الكنيست وأمامه مستقبل أبنائنا وأحفادنا.

وأمّا لماذا يتناقض مشروع الإنقاذ هذا مع المشاركة في انتخابات الكنيست، فلأنه مشروع لا يمكن تطبيقه بدون إعادة التركيز على هويتنا الوطنية - العربية الفلسطينية - وهويتنا الطبقية كفئات شعبية مستضعفة، وهذه استحالة منطقية في برلمان صهيوني رأسمالي. لا يمكن أن يكون هناك خطاب وطني حقيقي ولا طبقي حقيقي لأحزاب لا تناهض أهداف البرلمان الصهيوني الرأسمالي.

إن المهمة مضاعفة والمسؤولية مضاعفة، ولكن المشروع واحد.. ولا يمكن له أن يكون مشروع أسرلة، لأن كلّ الآفات التي نعانيها ناجمة من أننا على وشك أن نتحول نهائيًا إلى "عرب إسرائيل": أي فقراء بلا هوية طبقية، ومستعمرين مع بقايا هوية وطنية. هذه البقايا هي اليوم عماد مشروع الإنقاذ الأهلي الذي نطالب به، قبل فوات الأوان. وهذه البقايا هي التي ينقضّ مشروع الأسرلة لالتهامها نهائيًا بترويجه لحلم تحويلنا من "عرب إسرائيل" إلى "إسرائيليين عرب"، في "جنّة جميع مواطنيها".

وختامًا فتلخيصي لما يحصل هو أنه سيكون هنالك ثلاث أنواع من السلوك السياسي في أثناء الانتخابات، تعكس تعاملنا مع هويتنا كفلسطينيين عرب، أو هويتنا كإسرائيليين عرب، أو العدمية التامّة وهي التصويت للأحزاب الصهيونية (وفقًا لتعريف الصهيونية الذي تورده الأحزاب العربية، المذكور آنفًا):

(1) التعبير الأكبر عن "أزمة الهوية" هو انفضاض الناس عن السياسة، ومقاطعة انتخابات الكنيست. أما حركة المقاطعة الشعبية فمهمّتها تسييس المقاطعة بتحويلها إلى منطلق لمشروع إنقاذ وطني أهليّ، كما ذكرت. لأن البديل هو التردّي في الأسرلة والجريمة والفقر والمرض.

(2) أمّا التعبير عن حسم الهوية باتجاه "الأسرلة" فهو المشاركة بالتصويت للأحزاب العربية، أي تبنّي أطروحة المواطنة الكاملة. وهذه تطرحها جميع الأحزاب العربية.

(3) أما التعبير عن حسم الهوية باتجاه العدمية الكليّة، فهو حقًا وفعلاً التصويت للأحزاب الصهيونية.

نحن - كفلسطينيين في جميع أماكن وجودنا - نمرّ بمرحلة فرز على جميع المستويات. وعلى كلّ ذي عقل وقلب وضمير أن يتّخذ موقعه ويصبّ طاقته في جهود صياغة مشروع إنقاذ لفلسطينيي الداخل، بالعمل الأهلي الشعبيّ. وإذا كان الاهتمام بمصيرنا في الداخل بالعمل الشعبي وبمناهضة خطاب المواطنة واستكمال الأسرلة سيصبح جريمة يعاقب عليها القانون، فهذه هي الساعة الآن لتدويل قضيّتنا ورفعها أمام العالم كلّه! لم لا؟! ألا يستحق أبناؤنا وأحفادنا أن نرفع صرختنا بوجه العالم كلّه، لأجلهم!!