خذني الى البحر يا ابي: بقلم: عيسى قراقع
نشر بتاريخ: 15/02/2006 ( آخر تحديث: 15/02/2006 الساعة: 13:20 )
بيت لحم -معا- الجريدة اليومية في كل صباح تطفح باللامعقول في زمن السيطرة والاقصاء الى الحدّ الذي تحاصرك فيه الحقائق الصعبة على الارض فتدعوك الى التمرد على ثنائيات التحايل المكشوفة على الحياة.
الجريدة الصباحية تجلدك كل يوم وتذكرك ان جسدك الفلسطيني يذوب تحت السماء التي لم تعد لك وعلى الارض التي تضيق حولك فلا ينقذك نصٌ في اتفاقية يتجادل البشرُ حول تأويلها واسباب وجودها ولا قرارٌ غاضب بهدم المعبد على رأسك وعلى من فيه ولا يسعفك بهو البرلمان الجديد بكل قوانينه وتشريعاته في هذه اللحظة التي يصبح فيه المجرد هو المطلق.
والجريدة تقول هم قادمون اليك لاقتلاعك من روحك كي لا تكون أي شيء، لا مواطناً عادياً ولا ضحية حرب عادية، لا ينطبق عليك أي قانون وضعي ولا سماوي، لا شريعة تناسبك ولا قبراً يشير بأن هذه الساحة كانت مكاناً للصراع.
انها ثنائية تعلن كأن لا نبيَّ وراءك في التاريخ، ولا سيرة تتوالى سنداً وراء سند لإثبات حضورك في الحضارة واللغة ولعل زخم المعلومات المحروقة في الجريدة الصادرة فيك تنفي انك ابن هذا الزمان وتشكك معرفتك جيداً في المكان، لقد مات الراوي الذي اخذ عنك الكلام، ودخلت عميقاً في اغتراب المعنى عن الدلالة والوضوح.
الجريدة مصرة على تسجيل وقائع موتك البطيء علناً امام الديمقراطيات وصناديق الاقتراع، وامام روعة مواد وبنود اتفاقيات حقوق الانسان.
وقيل كثيراً عن الحق الذي ينتصر على المدفع، وقيل كثيراً عن الصمود والارادة والثبات واهل الرباط وعن الوحدة الوطنية حتى انفجرت الشعارات والبرامج والرؤى زبداً في الهواء، حتى داهمك السؤال عن العلاقة بين الناطق والمنطوق، ومن الاول في البنيان الفكر ام الواقع، ولماذا هذا الاغتراب؟
الجريدة اليومية بكل قسوتها تفضح صورتي في مرآة صفحاتها فتعلن في وقت الجدل الداخلي المغلق ان حكومة اسرائيل بدأت بفصل الجزء الشرقي من الضفة الغربية عن باقي انحاء الضفة-ثلث مساحة الضفة-فتعزل الاغوار وتقسم الضفة المقسمة اساساً الى غيتوات ليصبح حدود الحلم المشكوك فيه هو حدود الجدار.
وتعلن الجريدة اقتلاع الاف اشجار الزيتون في بيت سيرا ونجاة طفل من موت محقق في الخليل جراء اعتداء المستوطنين عليه وان اسرائيل هدمت 94 منزلاً فلسطينياً في القدس خلال العام الماضي وان 7 شهداء و34 جريح و109 معتقلين ضحايا اسرائيل في اسبوع فقط.
ومن بعيد يصف اسيرٌ فلسطيني ان الاوضاع في سجن هداريم تشبه الجحيم.
والعناوين السوداء الكبيرة تركز على سقوط الشهداء اليومي في قطاع غزة...وان شوارع غزة تزدان ببيوت وجنازات الشهداء وبأصوات المدافع والطائرات بدلاً من رعد الشتاء.
لا احد ينتظر الثلج، تقول الجريدة، ينتظر الناس لحظة هدوء صافية، لقمة خبزٍ، وساعة بلا جنازة، ومشواراً بلا توقيف على حاجز، الناس تنتظر العدالة في هذا الشتاء، التأمل والامل فقط، الهروب الى الاغنية، وكم كره الناس هذه الجريدة اليومية بكل ما فيها من لوائح اتهام عن العجز واستلاب القدرة، وكم كره الناس هذا الجدل المقيت تحت سلطة الموت اليومي، جدلٌ لا علاقة له بمشوارٍ الى البحر، حيث الحرية والامتدادُ والهواء والصمت الطبيعي، لا علاقة له بلغة التحرر ومفردات النهوض وترتيب الاولويات.
لقد اصبح كل شيء مختلطاً وملتبساً في نظرية الفلسطيني التائه، اختلط الصراع بين الذاتي والموضوعي: التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي، الحزب والسلطة، المعارضة والحكومة، المقاومة والسلام، منظمة التحرير والسلطة، اوسلو السقف الباقي ام السقف المنهار، حكومة دينية ام حكومة علمانية، مجتمع مدني ام مجتمع مسلوب من المدنية، قوى يسارية ديمقراطية موجودة فعلاً ام قولاً، علم فلسطين ام علم الحزب.
والجريدة الصباحية تزيد الامور تعقيداً عندما تخبرك ان 797 طفلاً استشهدوا خلال الانتفاضة وان 150،000 موظفاً في القطاع الحكومي اصبحوا تحت رحمة الدول المانحة، والجدار يزداد علواً واتساعاً كأن الجريدة تقطر بالبكاء على حالنا التي تعيش هذه الثنائيات ونحن في الطريق الى البرلمان...سنمرّ عن كل الحواجز، وسنرى الجدار والمستوطنات والباعة الفقراء والاطفال المتسولين، وسنرى في طريقنا اعتصاماً لاهالي الاسرى، وآخر لذوي الشهداء يبحثون عن قانون ينصف دم ابنائهم، وسنرى اطفالاً محتجزين على حاجز قلنديا في البرد الشديد، سنمر عنهم، سيبتسمون لأعضاء البرلمان الذاهبين الى الحقيقة يحملون الصحف وقوانين المجلس التشريعي، ويستعدون للقفز في المجهول وهناك سيختلف الباحثون عن السلام حول الاعتراف بدولة اسرائيل التي تذبحنا او الاعتراف بدولة اسرائيل التي تشطبنا من الخريطة الانسانية ومن الحياة، وسنختلف في الجمل والشعارات وفي التسابق حول اثبات الوجود في هذه المسيرة او التضامن مع تلك العائلة المنكوبة، سنثبت الجدارة في الاعلام كأننا نعيش لوحدنا، غافلين عن الحقائق التي تحاصرنا، ليصبح كل شيءٍ عبثاً.
الجريدة تضع مناشدة ام اسير عمرها 80 عام تطالب اعضاء التشريعي الجدد مساعدتها في زيارة ابنها لأن العجوز ممنوعة امنياً، واعلان آخر في الجريدة لأحدى مؤسسات المجتمع المدني تدعو الى ندوة حول دور مؤسسات المجتمع المدني في تكريس الديمقراطية والتعددية، ولم يسأل احد عن الملايين التي صرفت على هذا الموضوع منذ عشر سنوات وبلا حصاد.
ان الطريق الى التشريعي ملتبسة ايضاً، انت منتخب لتحقيق دور وظيفي ام اجتماعي ام نضالي ام نفعي ام وجاهي ام ابداع قوانين لمستقبل لا ارض له ولا بحر، مجلس حكم ذاتي ام مجلس دولة حرة، ومن اين يبدأ العمل والتغيير؟ من الواقع ام من الكلام والبرنامج.
وتجيب الجريدة اليومية عن ذلك بقولها ان الاحتلال يختطف شابين ويجرف مساحات واسعة من الاراضي في بيت لحم ويهدم خمس منازل في رام الله وان الفائزين في المجلس التشريعي سيصبحون اعضاء في المجلس الوطني واحدى دور العرض تبث فلم الجنة الآن..
خذني الى البحر يا ابي، كي احطم المعادلة المعقدة بين الوطني والديمقراطي، واكون اقرب الى المسافة بين النص والوحي لأجيد اللغة واجد لنظرتي افقاً على كل الامواج المتلاطمة امامي..
حتى لا أكون أشعرياً ولا معتزلاً ولا خارجياً ولا أقليمياً خذني الى البحر يا ابي...بحري أنا...لغتي أنا، لغة البحر...