قلوبهم معك.. وسيوفهم مع معاوية/بقلم: خالد منصور
نشر بتاريخ: 16/02/2006 ( آخر تحديث: 16/02/2006 الساعة: 20:14 )
مع قدوم السلطة بعد اتفاق اوسلو في أيلول عام 1993، وعند إجراء الانتخابات لأول مجلس تشريعي فلسطيني في أوائل عام 1996، قرر حزب الشعب الفلسطيني المشاركة في تلك الانتخابات، انسجاما مع موقفه المؤيد لاتفاق اوسلو، وإيمانا منه بضرورة الإسهام في عملية بناء أسس الدولة الفلسطينية ونواتها السلطة الوطنية، و وكذلك تقديرا منه بان التغيير الممكن في النظام السياسي هو من داخله فقط .
وعلى ذلك فقد قررت أنا وبالتشاور مع قيادة حزبي الترشح في دائرتي الانتخابية طوباس، والتنافس مع احد عشر مرشحا آخر على المقعد الوحيد المخصص لتلك الدائرة كونها من اصغر الدوائر تعدادا للسكان.. لقد قررت حينها الترشح لتحقيق عدة أهداف منها: الفوز بمقعد المجلس ( وهو هدف تراجع الأمل بتحقيقه قبل يوم الانتخابات بأسبوع )، وكذلك هدف سياسي آخر-- هو استغلال الحملة الانتخابية وأجواءها لإيصال رسالة الحزب لأكبر عدد من الجماهير، ولعرض برنامج الحزب على الناس وتعريفهم به.
وقد كان لدي شكوك كثيرة منذ البداية بإمكانية فوزي، لقناعتي التامة بان القانون الذي جرت وفقه الانتخابات هو قانون جائر، سيسعّر من التنافس والتعصب العائلي، وهو وما تمتاز به هذه الدائرة على وجه الخصوص.. كما كان لدي شك في إمكانية حصولي على كم وافر من أصوات سكان القرى المجاورة لنا، وذلك لكوني ابن مخيم ( وللعلم انه المخيم الوحيد الموجود في الدائرة ).. ومع كل ذلك شكلت فريق عمل وإدارة حملة، ووضعت خطة تحرك، كانت تعتمد بالأساس على الجهد البشري، وتستخدم أسلوب اللقاء المباشر والتواصل مع الجمهور في البيوت والدواوين.. وجندت كل علاقات الحزب السياسية ( المحدودة في هذه المنطقة على وجه الخصوص ) وكذلك علاقاتي العائلية، وسمعة والدي كمناضل قديم وعضو في أول مجلس وطني وشخصية اعتبارية في المنطقة، وأيضا تاريخ عائلتي النضالي المتميز خلال عشرات السنين.. وعقدت العزم وشحذ رفاقي هممهم، وبدأنا المعركة، واصلنا الليل بالنهار، نزور الناس في بيوتهم، ونتحدث معهم في كل شيء - في السياسة والاقتصاد في الهموم والاحتياجات .. زرنا كل القرى والبلدات.. بل زرنا معظم العائلات والعشائر فيها.. حتى ولم ننس الوصول إلى البدو في بيوت الشعر في الأودية والأغوار، ( وقد بلغ عدد المهمات التي نفذتها أنا وفريق العمل الخاص بي 189 مهمة ) .. هاجمنا سوء الأداء، ووضعنا الحلول، حذرنا من الفساد وشخصنا الخلل.. قلنا للناس الحقيقة، واجبنا على تساؤلاتهم وشفينا غليلهم، ورسمنا لهم مستقبلا ناصعا.. صارحنا الجماهير بقدراتنا وإمكانياتنا.. لم نعدهم بشيء سوى بالنضال معهم، بل وفي مقدمة صفوفهم في المعارك من اجل مصالحهم.. كنا جريئين جرأة متميزة في النقد وفي طرح المواقف.. وضعنا تصورا لكيفية حل مشاكلهم.. استخدمنا التاريخ الطويل والمشرف للحزب في المخيم، ورفعنا شعار ( نحن أصحاب الأيادي النظيفة البيضاء، التي لم تمارس العنف ضد الجماهير ولم تتلوث بالفساد والسرقات ).. وواصلنا المعركة حتى النهاية.. أي إلى لحظة خروج نتائج فرز الأصوات... وكانت النتيجة كما توقعت مسبقا-- أي عدم تحقيق الفوز بالوصول إلى مقعد المجلس.. لكن النتيجة التي أذهلتني أكثر، هي عدم حصولي إلا على أصوات معدودة من خارج مخيمي، وخصوصا من مركز الدائرة-طوباس-- ( وهو نفس الشيء الذي حصل مع مرشح حركة فتح، الذي صادف ولحظي العاثر أن يكون من مخيمي ).. وقد كان عزائي الوحيد هو أنني حصلت في مخيمي على ما يعادل 55% من الأصوات، وحصل الأحد عشر مرشحا منافسا على 45% من أصوات المخيم، وهذا كشف مدى الاحترام الذي أحظى به من قبل جماهير مخيمي، الذين وكما آمنت دائما بأنهم لم ولن يخذلوني أبدا..
لكن الدرس الأهم الذي تعلمته هو أن الجماهير لا تأكل من السياسة والأفكار والثقافة خبز، وأنها بحاجة إلى ما هو أكثر من ذلك.. فقد كنت أثناء الحملة أحس حقيقة أن الجماهير تحترمني، وتثق بصدقي وبتمايزي عن باقي المرشحين الآخرين.. لقد كان وجوه العائلات ( مفاتيحها باللفظ الدارج ) يقولون لي دوما: والله انك لصادق.. والله انك لمناضل وقائد جريء.. وسياسي نظيف.. وتتمايز عن كل منافسيك.. وكنت اخرج من بيوتهم ودواوينهم بشعور جميل، واطمئنان وارتياح كبيرين، وكنت اعتقد في تلك اللحظات بان الجماهير ستمنحني ثقتها وأنها لن تخذلني أبدا .. لكن نتائج فرز الأصوات في الصناديق كانت مغايرة.. وخرجت من تلك المعركة خالي اليدين، رغم إنني حققت هدفا كبيرا من جملة أهدافي، وهو إيصال رسالة الحزب إلى الجماهير.. وقد استقبلت فشلي بروح رياضية عالية.. وعندما كنت أسأل عن برودة أعصابي بعد فرز النتائج كنت أقول للناس: أنا سياسي ولست مقامر، وان عدم تحقيقي لأهدافي كاملة لا يعني بالنسبة لي آخر الدنيا، أو أن أصاب بالإحباط.
لقد تذكرت حينها ماذا قال الأعرابي للخليفة الراشدي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، حين سأله عن موقف الناس منه ومن معاوية بن أبي سفيان، الذي كان يستعد لحربه.. لقد قال الأعرابي: يا خليفة رسول الله-- إن قلوبهم معك وسيوفهم مع معاوية-- لقد لخص ذلك الأعرابي الموقف الخطير بتلك الكلمات القليلة، وكأنما كان يشير إلى علي كرم الله وجهه انك ستخسر الحرب مع معاوية.. فلماذا كان الناس آنذاك مع معاوية..؟؟ انه سؤال يجب أن يجيب عليه كل سياسيينا اليوم وفي كل يوم، ويجب أن يستفيدوا من العبر الكامنة في مقولة ذلك الأعرابي لعلي وتشخيصه للموقف.. فعلي هو ابن عم الرسول محمد (ص)، وزوج ابنته فاطمة ( الزهراء )، وهو أول من امن بالإسلام من الفتية، وهو التقي الورع الفارس الشجاع، وهو النظيف اليد المبشر بالجنة.. أما معاوية فكان الطامع بالحكم، ابن أبي سفيان ( الذي كان من المؤلفة قلوبهم ) والذي قدم أبناء عمومته من بني أمية، وعينهم ولاة وحكام، وملكهم الأراضي، واشتهر بالدهاء والخبث وحبك المؤامرات.. لقد كان علي يعد الناس بالجنة، ويحكم الناس بالعدل ويسير على الصراط المستقيم، زاهدا في عيشه يدعو الناس إلى الزهد.. أما معاوية فانه وبدون إسقاط العامل الديني (كان معاوية احد كتاب الوحي)، قام بفتح خزائن بيت المال للناس، واجزل عطاياهم واستلب عقولهم وتملكهم بتلك الاعطيات.. وعند الحرب وقف الناس مع معاوية ونصروه.. بدلا من علي الذي أحبوه.. فضلوا الأشياء المادية الملموسة على المبادئ والقيم.
إن درس علي ومعاوية قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة ما زال صالحا.. وهو درس مليء بالعبر الجديرة بالدرس والتفحص، وأهمها انه لا يكفي للتنظيم السياسي أن يقول بأنه يدافع عن مصالح الجماهير، وانه يتمسك بالمبادئ والقيم، ويحافظ على نظافة اليد وصدق النوايا، بل إن الواقع يقول بان من يخدم مصالح الجماهير الآنية هو حتما من يكسب أصواتها... فالجماهير وكما ظهر خلال الانتخابات الأخيرة-- وبالإضافة إلى أنها عاقبت فتح على سوء أداء السلطة وحالة الفوضى والفلتان واستفحال الفساد--- انحازت في جزء كبير منها لمصالحها، ولمن لبى حاجاتها بصدق وأمانة - مع العلم أن حركة فتح ومن خلال سيطرتها على السلطة لأكثر من عشر سنوات قدمت خدمات كثيرة للجماهير لكن أداءها الوظيفي السيئ وتعاظم الفساد، هو الذي حال دون تمكنها من استثمار تلك الخدمات سياسيا في الانتخابات..
وباعتقادي أن نهج حماس الذي استخدمته في طريقها للفوز كان قائم على أساس ( داعب قلوبهم وأملا بطونهم فتكسب عقولهم ).. فحماس خاطبت مزاج الجماهير وعواطفها-- الحاقدة على الاحتلال وجرائمه-- فشقت طريق المقاومة، وبالتالي مثلت بالنسبة للجماهير الرد الشافي على إرهاب المحتلين.. كما وأنها عبر تقديمها للخدمات المتنوعة ( بأدنى حد من الفساد ) من مساعدات عينية ونقدية للفقراء والمحتاجين والطلاب وغيرهم من الفئات الفقيرة المحتاجة، كانت تلبي لهم حاجاتهم المعيشية في ظل وجود أزمات اقتصادية صعبة ومتفاقمة-ولم تكن هذه الخدمات أبدا بلا تسييس بل إن كل كيلو لحم لأسرة فقير وكل خمسة دنانير لأرملة أو قسط لطالب جامعي-- كانت مصحوبة دائما بدعوة لحلقة درس في جامع، أو للمشاركة في مهرجان جماهيري تدعو له الحركة ( والتي كانت في معظمها استعراضات للقوة )، أو لحضور ندوة يتحدث بها احد قادتها--- وهناك يجري التسييس والاستقطاب، وتتم التعبئة السياسية والفكرية.. ومن المؤكد أن حماس التي استفادت من تجارب كثيرة خاضتها حركات إسلامية وغير إسلامية في أنحاء عدة من العالم، كانت ومنذ سنين طويلة تخطط وتستعد للحظة التي تستطيع فيها الانقضاض على السلطة ( بالطرق الديمقراطية وغير الديمقراطية )، وبالتالي خاضت الانتخابات لتحصد ثمار عملها السياسي والجماهيري الطويل-- بالإضافة إلى أخطاء الآخرين-- فحازت على ثقة الغالبية من الجماهير-- التي فكرت بعقولها بعد أن مالت قلوبها وامتلأت بطونها-- فاختارت حماس.