الإثنين: 25/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

رسالة إلى بوش: نصيحة مجّانية/بقلم: أ.د. يحيى جبر أستاذ علم اللغة بجامعة النجاح الوطنية

نشر بتاريخ: 25/02/2006 ( آخر تحديث: 25/02/2006 الساعة: 16:13 )
حضرة الرئيس المحترم:

انطلاقا من حرصي على أهل الأرض قاطبة: نحن وأنتم وغيرنا من ذوي الأديان سماوية كانت أم أرضية، ومن مخاوف بتّ أراها وشيكة بسبب سياساتكم، أرجو أن أخاطبكم بما يلي:

يراودني هذا الموضوع منذ مدة ليست بالقصيرة، غير أنه ألحّ عليّ بعد أن سمعت أن إدارتكم أنشأت مؤسسة "لتحسين صورة الولايات المتحدة" عند الشعوب لا سيما المسلمين، وألح أكثر عندما بادرتم إلى تشكيل هيئة وطنية للغات ، لكن ما جعلني أحسم الأمر ما شاهدته ليلة20/21 من هذا الشهر، حين كانت قناة الجزيرة تبث حوارا مباشرا أجرته إيمان بنورة مع كارين هيوز، ولا يفوتني أن أذكر هنا أنني لم أسمع إيمان بنورة أطلق لسانا من قبل منها في ذلك الحوار، فقد حشرت كارين في الزاوية غير مرة، لولا أن كارين كانت تروغ وتراوغ، وتتملص من الإجابة بأسلوب لا يخفى على المراقب فساده، وبطلان الحجج الواهية التي تتذرع بها.

فقد اعترفت هيوز بمصداقية نتائج الانتخابات الفلسطينية، وبحق حماس في تشكيل الحكومة، باعتبار ذلك خيار الشعب، ولكنها تطالب حماس ، بطريق غير مباشر، أن تتنكر للبرنامج الذي انتخبها الشعب بناء عليه، تريد من حماس أن تدير ظهرها لجماهيرها، وأن تصادر أحلامها وآمالها في العدل والحرية وتحقيق الأهداف التي لطالما انتظرها الشعب وضحى بآلاف الشهداء من أجلها.

وكنت أتمنى من بنورة ، عندما تذرعت هيوز بالمطالب العتيدة للمجتمع الدولي واللجنة الرباعية والولايات المتحدة التي تريدها من حماس: الاعتراف بالاتفاقيات ونبذ العنف وووو، أن تسألها عن هذا المجتمع الدولي وغيره، وعن الشرعية الدولية: أين هي؟ أين هي من قرارات الأمم المتحدة ابتداء من عام 1947؟ أين العدالة الغربية من استرجاع منحة ال 50 مليون دولار؟ أتدري يا سيد بوش أن ذلك أثار عند الفلسطينيين التقزز، وفي العربية مثل شعبي يعكس ما فعلتم، يقول العوامّ معرّضين بمن يسترجع شيئا أعطاه لغيره: اللي بتف البزقة ما بلحسها، ولكنكم فعلتموها، لو كنا نقبل البزق، شعبنا لم يدرك أنكم بذلك تعاقبونه لانتخابه حماس فقط؛ ولكنه أدرك أكثر من ذلك؛ أنكم فقراء ليس إلى المال بل إلى الحصافة والحنكة، وأن مفهوم الإنسانية عندكم مختلف عما هو عليه عند الأمم الأخرى، مما يؤكّد ضرورة وجود هيئة وطنية تعرّفكم بلغات العالم وبكيف يفكّر غيركم؛ كيلا تكون مفاهيمكم للأشياء مغلوطة، وهذه خلاصة ما أرجو أن أبلوره في رسالتي هذه، ناصحا إياكم، سيادة الرئيس، بأن توفر مالك، لا أريد أن أقول :لأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان؛ كيلا أصنّف يساريا مع احترامي لليسار، ولكن أكتفي بالقول : إن أموالكم وخبراءكم النفسيين، ومعتقلاتكم العلنية والسرية، وعملاءكم صغارا كانوا أو صغارا، لن يتمكنوا من تغيير قناعات الشعوب، لا سيما بعد أن أفاقت من البنج الاستعماري وآثاره التي امتدت لعقود طويلة عبر بعض المؤسسات العلمية والطبية والإعلامية وبعض الأسر سواء أكانت في الحكم أم كان عملها من وراء ستار. فلقد استيقظت الشعوب، وبلغت أمريكا سن اليأس، ولعل شعورها بذلك هو الذي يدفعها إلى ارتكاب الحماقات هنا وهناك، وإلى الاستمرار في دعم العدوان على الشعب الفلسطيني المظلوم، وهذا شأن من تبلغ هذه السن، وفي أدبنا العربي نص قديم يصور ذلك؛ يقول الشاعر:

عجوز ترجّي أن تعود فتيّة وقد لحب الجنبان واحدودب الظهر
تدس إلى العطار سلعة بيتها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
وقـد غرّني منها خضاب بكفها وكحل بعينيها وأثوابها الصفر
جاءوا بها قبل المحاق بليلة فكان محاقا كله ذلك الشهر
تدس إلى الشُّطّار( بمعناها القديم ) الذين يناظرهم اليوم سماسرة الشعوب ممن يأخذون المال باسم الشعوب لينفقوه في أبواب الرذيلة، وتدجين الشعوب ، وشراء الذمم، مما يعني تزييف الحياة وتزوير الديموقراطية، فأي ديموقراطية هذه التي يتبجح بها الغرب؟
السيد الرئيس:

إن للتاريخ حركات متعددة باختلاف أجهزة الدفع؛ كسلطان المال، والعلم، والسلاح ...والدفع الحضاري الذي ما زلنا نتحرك به في شرق المتوسط، ولكن المحرك الذي يدفع تاريخكم! لم يعد قادرا على مواكبة المتغيرات. سألوا ابن سينا عندما مرض مرضه الذي مات فيه: أوأنت الذي كنت تعالج الناس؟ قال : إن المدبر الذي كان يدبر جسمي لم يعد قادرا على الاستمرار في ذلك.

وإذا استغرق سقوط الدولة الرومانية واضمحلالها مئات السنين، فإن الزمن قد تغير، وقد جعلتموه بعقولكم الجبارة،عصر السرعة، وانطلاقا من القانون الطبيعي، فإن الدول التي تتشكل بسرعة تندثر بالسرعة نفسها، فهذا زمن الأرقام والمتواليات الهندسية، وما أظن أن المؤسسات التعليمية والبرامج التي تعدونها في هذا المجال ستكون قادرة على تغيير سُنَّة التغير، ولعلكم أدركتم أن ثقافتكم باتت تعيد إنتاج ذاتها، مما يعني المراوحة في المكان، وأن قد اقترب الانهيار الذي لا يشترط فيه أن يكون كانهيار الاتحاد السوفييتي، فقد كان ذلك سلميا، لكنني أخشى على بعضكم من بعض، لاعتمادكم البعد المادي في الحياة، مما يؤجج التنافس، ويزيد الأحقاد.

نحترم كثيرا إنجازاتكم الحضارية في المجال المادي، التي بدأتها تلك العقول التي استمدت جرعاتها التكوينية، ليس من وجبات الهمبورجر والجرافات الضخمة ( بلغني وأنا في السعودية أن ابن لادن الأب كان يجمع آلياته الثقيلة في الصحراء في سطر واحد فينظر إليها مزهوّا، لا سيما أنه بدأ حياته متوسط الحال في ما يقال. آسف لطول الاعتراض) وناطحات السحاب والمركبات الضخمة وغيرها من المنجزات العملاقة وحسب، بل من المخاطر التي اجتازها المهاجرون الأوائل عبر أهوال الأطلسي، والصراع الدامي مع الهنود الحمر، ومعاناة العبيد، لعل تلك المغامرات بضخامتها كانت سببا في تفتيق أذهانهم عن الأفكار والنظريات العلمية والتقنيات العظيمة، لتنسجم مع تطلعاتهم وتستحق المغامرة من أجلها.

ونحترم التركيبة البشرية لمجتمعكم، وتعدد الأجناس فيه، وتعايشها السلمي، لولا أنه قائم، كما أسلفت، على بعد مادي ضحل، ولا يعمّق في الإنسان المشاعر الإنسانية، ويجعل الإنسان جهازا، أو آلة أو رقما؛ يأكل ويشرب بشكل آليّ. عام1986 زرت بلادكم مشرفا لغويا على مسلسل المناهل الذي دعمتموه آنذاك ب8 ملايين دولار! لا أريد أن أتناول موضوعه مجددا، ولكنني أودّ أن أذكر أنني توجهت إلى نيويورك لساعات، سألتني يومها إحدى الزميلات الأمريكيات: كيف وجدت نيو يورك؟ تظن أن تسمع مني ما يشير إلى انبهاري، فقلت: كل ما رأيته هو دوائر حاسوبية عملاقة مغلقة. لم أر إلا عمائر وسيارات، لم أر فيها حياة.

تدري؟ لكنني زرت موقعا رأيت فيه حياة، لكنّ من كانوا فيه أخلاط من دول العالم الثالث كما يحلو لبعضهم أن يسميه؛ رأيت مولّدة سمراء ليست جميلة، بل هي إلى القبح أقرب ، تلبس زينتها ، تمشي بمرح، ابتسامتها تملأ الفضاء أمامها، كأنها عصفور الكركس أو الكركزان ، وهو عصفور فضيّ يهاجر إلى بلادنا أوّل الشتاء، وكثيرا ما حدّثت طلابي عنها عندما أحاول أن أشرح لهم معنى الحياة.

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولا أقول من أواسط القرن التاسع عشر، بدأتم تلعبون دورا قياديا على الساحة الدولية، لكنه عدوانيّ متغطرس، ولعل في حرب فيتنام وسواها ما يعكس ذلك؛ مما جر دمارا كبيرا على شعبكم وعلى الفيتناميين، أتدري سيادة الرئيس؟
عندي شعور أنه إذا طُلب منكم أن تعترفوا بأن شعوب الأرض متساوية في الحقوق والواجبات؛ لما فعلتم، وقد نستشهد هنا بسعيكم لدى الدول كي توقع على ما يمنع تقديم الجنود الأمريكيين للمحاكمة!وهذا عجيب، وفيه عدوان على المجتمع الدولي، الذي توجّهه ريح أمريكا بحسب ما تهواه سفنها، ولعل هذا هو الذي بدأ يدفع بعض الشعوب لإعلان سخطها على السياسة الأمريكية، وسعيها لتشكيل ائتلاف دولي قادر على التحدي، وعلى إلحاق الضرر بسياساتكم، راجيا أن أذكّركم أن معظم هذه الشعوب ليست كالشعب الفلسطيني؛ بحاجة إلى 50 مليون دولار؛ بحكم المعادلة العربية والدولية ، وبفضل ضغوطكم عليه، وإن قدمتم له بعض المال أحيانا.

فإن أردتم أن تتحسن صورة بلادكم عند المسلمين وغيرهم، فأنصفوهم، وتعاملوا مع كل الشعوب بمكيال واحد، وعندنا في العربية قول مأثور طريف ينطوي على حكمة بالغة:" يدوم الملك مع الكفر ولا يدوم مع الظلم". ولعل مستشاريكم أطلعوكم ذات يوم على ما قاله أحد المسلمين عندما جاء يسأل عن الخليفة، وجده نائما تحت شجرة، فقال: عدلتَ فأمنت فنمت!!!. أو على القول الشعبي المأثور: اللي في بطنو عظام بعرفش ينام، وأكثر ما ينطبق عليكم المثل القائل: "مثل الجمل؛ اللي يحرث يدكّه". فإلى متى ستظل أمريكا تنام على عظام الشعوب في بطنها،؟ أليست الصين، مثلا، قادرة على التصرف كما تتصرفون؟ بلى، ولكن تاريخ الصين وثقافتها وفلسفتها الروحية تمنعها من ذلك، أفلا سألتم أنفسكم عن سر كراهية الشعوب لنظامكم؟ أم أن مستشاريكم والذين يقدمون لكم المعلومات ليسوا أكفاء؟ ويكتفون (بلطش) الأموال؟ أتصدّق، سيادة الرئيس, أنني قلت أبياتا من الشعر عام 1974 لم أعد أحفظ منها إلا:

أيها الأمريكي لست نبيا بل( لا أذكر الكلمة)عن الرشاد قصيا

ترى لماذا صاغ تربويوكم عقولكم على هذا الأساس الذي أدى إلى كراهية الشعوب لكم ( وليس للإنسان الأمريكي). هناك إجماع شعبي عالمي على ذلك، ومع ذلك تستمرون في افتتانكم وغروركم، وتقودون العالم إلى مزيد من الغامرات والمخاطر، وقد أصبحتم وأصبح العالم على شفا جرف هار، والمشكل الأكبر أن الشعوب لم تعد تثق كثيرا بما تقولون، ولعل هذا الشعور متبادل بينكم وبين غيركم، فهل الشعوب بحاجة إلى جلسات تعارف عميقة، طويلة، صريحة؟ بشرط ألا تكون على المستوى الرسميّ؟.

أما عن لغات العالم ، سيادة الرئيس، فهي وعاء ثقافات الشعوب، الذي تختزن فيه كل مكنوناتها ومكوّناتها عبر الزمن، وما أظن أحدا بقادر على أن يزوّد أجهزتكم الاستخبارية بما ينفعها في هذا المجال إلا أن ينصهر في أهل اللغة ذاتها، ويصبح واحدا من أبناء مجتمعها، بذلك فقط يعرفها جيدا، ولكنه، حينئذ، سينحاز إلى مجتمعه الجديد، وليس إليكم، ذلك بما تولّده فيه اللغة من روح الانتماء إلى ثقافتها ومجتمعها.

أما العربية، سيادة الرئيس، فما أظن أحدا بقادر على اختراقها؛ فهي محصّنة ضد الاختراق؛ حصَّنها تاريخ مديد، وانتشار في أرجاء الأرض، وعبر طيّات الزمن، وامتزجت فيها ثقافات أمم شتى، أجل، وحصّنها دين يقوم على أن كل ابن آدم مكرّم منذ كان آدم عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، نعم، لقد نجح رايسكي ومن قبله رايمندوس لولوس قبل حوالي سبعة قرون، في إقناع البابا بإلحاق عدد من المدارس بالكنائس، تُعنى بتدريس العربية، على طريق تخريج عناصر تتولى غسل أدمغة المسلمين على طريق إفسادهم، ولعلهم نجحوا إلى حد ما ذات يوم، ولكن الشعوب لا تستجيب لغير مدخلاتها التاريخية دائما، وإن مرّت بها فترات من الاسترخاء والانهزام النفسي؛ لأنها لا تلبث حتى تعاود مسيرتها على الجادة الصحيحة، التي تكفل تواصلها الحضاري مع جذورها.

إن انتباهكم إلى هاتين المؤسستين : التي لتحسين الصورة، والتي للغات يشير إلى صحوة من نوع مختلف، ولكن، نرجو ألا تكون بعد فوات الأوان، وأعتقد أن السيد المسيح الذي ننتظر عودته جميعا، والإمام المهدي عليهما السلام، سيأتيان لتخليص العالم من البغي والظلم، ولما كنا نحن المظلومين، فهذا يعني أنهما سينحازان إلينا لا إليكم ما لم تغيروا ما بأنفسكم، وتصالحوا الشعوب التي أسأتم إليها مباشرة ، أو بدعمكم لمن أساء إليها، وما لم تجندوا إمكاناتكم الهائلة لخدمة الإنسان، دون أن تنصّبوا أنفسكم سادة على العباد، وأوصياء من دون رب العباد. ولا تظنوا أنكم بما أنتم عليه محسنون ومصيبون، راجيا أن تنتبهوا إلى مقولة تربوية بعبارة شعبية "الجمل ما بشوف عوجة رقبته". أنصحكم بدراسة تجارب الشعوب.

ما زال في النهار متسع......، حينئذ فقط، ستجدون الشعوب إلى جانبكم؛ تسعى معكم لعمارة الكون وإشاعة العدل، فهذا أوان تغيير الولاءات إلا ما كان منها لله وحده،
سيادة الرئيس، هذا ما لزم ، عرّفناكم به ، والله الموفق للصواب
قلقيلية في 21/2/2006

أستاذ علم اللغة بجامعة النجاح الوطنية
الرئيس المؤسس لمجمع اللغة العربية الفلسطيني _ بيت المقدس
المشرف اللغوي على مسلسل المناهل