حـماس تُحـرِق سُفُـنَها/بقلم: أ.د. يحيى جبر أستاذ علم اللغة بجامعة النجاح الوطنية
نشر بتاريخ: 26/02/2006 ( آخر تحديث: 26/02/2006 الساعة: 17:34 )
هل تستفتي حماس الشعب على الاتفاقيات السابقة؟ في علم 1992 وقبيل مؤتمر مدريد (الأندلس الأولى ) كانت رائحة المؤامرة على القضية الفلسطينية تزكم الأنوف, فأرسلت مقالة للأخ خيري منصور في جريدة الدستور الأردنية بعنوان (وأخيرا قتلوا فاطمة) أعني شقيقتي التي تليني في الميلاد، والتي كانت قد ضاعت من أمي أثناء تهجيرنا من كفرسابا عام 1948، وهي ابنة عامين، لولا أن تداركها الله برحمته، إذ عثر عليها تحت شجرة برتقال عجوز كان يتهادى وراء القوم على الطريق (عمي صالح رحمه الله) فأخذها دون أن يدري من هي، حتى وصل إلى مكان تجمّع المهجّرين في مدرسة السرايا بقلقيلية (الإسراء اليوم) فنادى فيهم: من فقد ابنته؟ فصاحت أمي: بنتي يا عم, وعادت فاطمة إلى أمها وهما تحلمان بالعودة ولو بعد حين. ولكن , وبعد وعد بلفور الثاني - اتفاقية أوسلو-تبددت آمال العودة وغدت أحلام يقظة في ما يبدو, وقتل الأحلام قتل حقيقي. ولكن خيري لم ينشر المقالة مستحسنا نشرها كرواية!!
وقد كانت المصيبة أعظم عندما أحكمت امريكا مكرها، وفاجأت العرب بالمكان الذي ستجري فيه مفاوضات - مدريد, حيث كان في استقبال الوفود العربية تمثال يجسد على الطاولة سقوط الأندلس الأولى، وأبو عبد الله الصغير يسلم مفاتيحها لخصومه، مما جعل الوفد السوري يحتج، فكان الحل الوسط بتغطية التمثال, لو كان دس النعامة رأسها في الرمل ينجيها من الخطر المحدق بها!.
فهل تستفتي حماس الشعب على تلك الاتفاقيات؟ وهنا أرجو ان أذكّر (بالمرحوم رابين على حد وصف المرحوم ياسر عرفات) الذي كان يخطط لاستفتاء شعبه على الانسحاب من الجولان المحتل بالرغم من القرارات الدولية التي تقضي بضرورة الانسحاب, بينما يتصرف الغادي والبادي بقضيتنا دون أن نستشار في شيء من ذلك.
هل بلعت حماس السكين:
لقد نجحت حماس، وهذا قرار الشعب، فهنيئا، ولكن هل كان التوجه الشعبي قائما على الموضوعية؟ أم أن جانبا منه كان رد فعل؟ لا شك في أن شيئا من ذلك كان من هذا القبيل, وأوضح ما يتجلّى ذلك في قلقيلية، حيث منحت الجماهير حركة حماس خمسة عشر مقعدا هي كل مقاعد بلدية قلقيلية، ولكن الحركة لم تحسن التصرف هناك، لا في الأداء (على الأقل من وجهة نظر بعض الناس) ولم تحسن إدارة اللعبة في الترشبح للمجلس التشريعي(على الأقل من وجهة نظري)، فجاء الرد من جماهير المحافظة سريعا وقاسيا؛ إذ لم تفز بغير مقعد واحد من أربعة.
يضاف إلى ذلك أن عامة الناس لو سألتهم عن سر انتخابهم لحماس لعاجلوك بأن ذلك إنما كان أملا في التغيير والإصلاح، ولمحاربة الفساد الذي استشرى في السلطة، وهذا شعار لطالما رفعه المرشحون، ومما يؤكد ذلك؛ ما يجاهر به الإخوة في فتح؛ مما أدركه بعضهم مؤخرا، بينما كان بعضهم الأخر يدركه منذ زمن بعيد، وكافح على طريق إزالته، ومنهم من استشهد أو أودع السجن.
إن حماس اليوم تماما كطارق بن زياد عندما أحرق سفنه غداة أرسى بها على البر الأندلسي؛ حين صاح في جنده: العدو من أمامكم والبحر من ورائكم ، مما يعني أنه ليس أمامكم إلا الحرب والصبر، وواحدة من اثنتين لا ثالث لهما: النصر أو الشهادة! وفي تصوري المتواضع أن حال حماس اليوم كحال طارق، ستخسر جماهيرها إن هي تراجعت عن برنامجها المعلن وهذا من الموت باب واسع،، أو ستصطدم بالمجتمع الدولي إن هي تقدمت على طريق إنجاز برنامجها، وفي هذا ما فيه من المخاطر. وقد بدأت البوادر تتواتر.
أهي حقيقة في مأزق؟
لقد تأخرت في إعداد هذا المقال، وبدأت بوادر التّأزّم تتوالى، ابتداء من المحتل، ثم من التيارات التي تراهن على فشل الحركة في السيطرة على مقتضى المستجدات، إلى السوق الأوروبية والولايات المتحدة، إلى بعض الدول العربية التي باتت محرجة إلى حد بعيد ، وقد يصح لنا أن نتساءل: ألم يكن بوسع حماس أن تجعل نتيجة الانتخابات بشكل يضطر الفصائل الأخرى إلى المشاركة؟ كأن تحدد عدد مرشحيها بحيث لا يتجاوزون خمسين مرشحا في أحسن الأحوال؟
لعل حماس ( الإخوان المسلمون في فلسطين ) لم يجدوا من ينصحهم هنا مثل ما وجدوا هناك في الأردن لدى انتخاب أول برلمان بعد فك الارتباط؛ حين اكتفوا ب 26 نائبا، بينما كان بوسعهم أن يحصلوا على جميع مقاعد البرلمان في حينه، نظرا لقوة تواجدهم على الساحة آنذاك. ( هذا لا يعني أنهم الآن أضعف مما كانوا عليه آنذاك، بل لعلهم أقوى وأنضج، نظرا لتنامي المد الإسلامي ليس في الأردن وحسب، ولكن في جميع بقاع العالم، لا سيما بعد تفشي ظاهرة البغي الأمريكي المعلن في كثير من بقاع الوطن الإسلامي).
وقد سألت أحدهم عن السر في الاكتفاء بهذا العدد؟ فقالوا بمنتهى الوضوح والصراحة: نُصحنا بذلك. من نصح؟ ولماذا؟ ولماذا لم ينصحهم هنا في فلسطين؟ أم أن المطلوب هنا شيء آخر تُعَدّ له المنطقة ؟ سلما أو حربا؟ هل نتوقع علاقة لمجريات الأحداث بالزيارة ( التاريخية ) التي قام بها الأخ خالد مشعل إلى إيران حيث التقى السيد الخامنئي؛ مرشد الثورة الإسلامية؟ أليس لتصريحات مرشد حركة الإخوان في مصر دلالة خاصة حين رفض استخدام قميص الحريري _ رحمه الله _ ورقة للضغط على سوريا؟ سوريا المهددة داخليا بمواقف مقلقة للإخوان المسلمين هناك جراء تراكمات تاريخية؟.
وما أثير في العامين الماضيين من اتصالات سرية ومعلنة بين الحركة ودول السوق الأوروبية وأمريكا؛ أليس له مؤشر في المعادلة الجديدة، يرشّح أو يرجّح هذا الاحتمال أو ذاك؟ أيا كان الأمر فلا بأس في التحرك والمفاوضة، لا سيما أن الحركة أقدر من سواها على إدارة الصراع، ناهيك عما تحظى به من ثقة الجماهير في الداخل والخارج، علاوة على انصهارها مع تيارات عدة على الساحة الداخلية والخارجية في جبهة نضالية محكمة، تعي ما تريد، وتتقدم نحوه بصلابة وحزم.
الكل يطالب بالإصلاح:
مما لا شك فيه ان جميع فئات الشعب تطالب بالإصلاح، ولكنه لا يتحقق إلا بمحاسبة المفسدين, ومساءلة كل ذي مال من أين جاء به, وكل من يحتل موقعا ليس أهلا له كيف تولاه, وصاحب كل( فيلا) من أين جاء بالمال الذي بناها به, وكل من استغل موقعه ليفرض على الناس رؤيته مستبدا برأيه, وكل مظلوم عمّن ظلمه, وكل مبعوث إلى الهند لماذا لم يبعث إلى أوروبا, والعكس, وكل راكب سيارة من أعطاه إياها, وكل من أخذ ابنه نقوطا لم يعط أبناء الآخرين مثله...... وكل من حال بين الناس وآمالهم في الحصول على وطن بعد أن حوله المفسدون إلى سوق ( حنتش بنتش، واللي يسبق ينتش ) إذا فعلت حماس ذلك فإن الجماهير ستظل ترفعها على الأكتاف, وإلا فإن الناس لا ينتظرون من حماس أن تخصص جهودها لحلحلة القضية فقط, فقد شبعنا تجاوزات باسم القضية, وقد امتدت معاناتنا أكثر من نصف قرن, ويمكن أن نصبر سنة وأكثر؛ المهم الآن هو الإصلاح والتغيير الجذري وهما في مقدمة مقاصد الشريعة, ونحذر من أن يستغل أحد الظرف الدولي الراهن أو أن يلوح بتعرض التمويل الأجنبي إلى الخطر, فيتسلل إلى موقع متقدم يفسد من خلاله على الناس فرحتهم بإمكان التغيير والإصلاح الحقيقيين, بشكل عاجل, وبمنتهى الحزم.
حماس مؤهلة لإدارة السلطة:
يشاع في هذه الأيام أن حركة حماس لاتستطيع إدارة السلطة، وهذا كلام في غاية الخطورة، وربما اتخذه البعض ذريعة لخلخلة الأوضاع، أو - بعبارة أخرى؛ لتعكير الماء للاصطياد فيه، فقد ظن بعض القوم أنهم الأصلح لإدارة البلاد ، وأنها بدونهم لا تقوم لها قائمة، وهذه النرجسية مألوفة لدى كثير من رموز الأنظمة العربية، ولعلها مما تسرب إلى واقعنا هذا من بعض حكايات التراث ؛إذ ظنوا أنهم القادرون دون غيرهم على قيادة المركب، فاستأثروا بخيرات الوطن واستبدوا بمقدراته، واستحالت السلطة عند بعضهم تسلطا على العباد، فهذا ابن الداية, وهذا من غير أبنائها, وهذا ممن يرثون, وذلك لا ميراث له, فكثرت المؤسسات اليافطات، وحورب العاملون الأحرار ممن يرفضون الاستزلام، وضيقوا عليهم كما ضيق المحتل سواء بسواء، .....
إن حركة حماس مطالبة، أولا وقبل كل شيء، بإعادة بناء الساحة الداخلية على أسس العدالة الاجتماعية، بمنتهى الشفافية والاستقامة؛ تماما مثلما فعل صلاح الدين الأيوبي فيما ترويه الكتب، وهذا مما يذكر له؛ حتى إذا انجزت هذه المهمة - ولن تستغرق وقتا طويلا؛ لأنها تحظى بدعم منقطع النظير من الجماهير- تحولت إلى معالجة تراكمات الساحة الخارجية وسائر القضايا المرصودة على الأجندة الوطنية. أو على الأقل، عليها أن تعمل بحزم في الاتجاهين معا كي لا تفقد المصداقية عند من انتخبوها وأنا واحد منهم.
وأخيرا؛
نعتقد جازمين أن حركة حماس لم تجشّم نفسها هذا العناء دون أن تكون قد أعدّت له عدته، وها هي العلامات تظهر تباعا، فحركة الإخوان في الأردن بدأت تتململ، وهم في سورية قاب قوسين أو أدنى من الدخول مع النظام في صلح تاريخي يطوى صفحة الماضي، وها هم العرب يعدون أمريكا بالتخفيف عنها في العراق، بوقف دعم المسلحين العراقيين، وبإرسال جيوش عربية إلى العراق لتحل محل من ينسحب من قواتها.
وها هي حماس تهدد وتستنجد بالعمق العربي والإسلامي، وهذا وجه حق ما كان للسلطة من قبل أن تغفله، وتلك هي الفصائل وأحرار فتح يتشاورون فيما بينهم لتمكين حماس من قيادة المشروع الحضاري الفلسطيني على كل صعيد، انسجاما مع توجه المواطن الفلسطيني الذي منحها الثقة، حتى بلغ الأمر ببعض أبناء فتح أن يصوتوا لمصلحة حماس!!
إن هناك أوراقا كثيرة يمكن أن تلعبها حماس، لعل منها أن تبدأ بتحريك اللاجئين في دول الشتات القريبة والبعيدة ليحزموا أمتعتهم استعدادا للعودة، والتحرك الجماعي إلى الحدود مُتَحَدِّين .
لا نشك للحظة في أن حماس مستعدة وقادرة على مجابهة كل طارئ، وعلى إدارة دفة الصراع، وأنها أحكمت الأمر وأبرمته جيدا، مدعومة بجبهة عربية إسلامية، وبزخم جماهيري لا نظير له في أي قطر عربي. فهل أمريكا وإيران معنيتان بوضع جديد في المنطقة، سواء اتفقت وجهتا نظرهما أم اختلفتا؟ وسواء كان ذلك باضطرار, أم كان نتيجة لكونهما أبرز لاعبين على الساحة ؟ أتريدان أن تحلا القضية الفلسطينية بشكل أو بآخر؟ أم هو التدخل الإلهي المباشر في توجيه الأحداث ليقضي الله أمرا كان مفعولا، فقد طفح الكيل، وامتلأت الأرض ظلما وجورا، أجل؛ لقد جاوز الظالمون المدى بغضّ النظر عن أديانهم وجنسياتهم، وهذا يوم ينتصر المستضعفون على المستكبرين؛ بغض النظر، أيضا، عن أديانهم وجنسياتهم،فقديما قال الشاعر الحكيم:
ألا لا تبالي العيس من شد كورها عليها ولا من راعها بالمخازم
بمعنى؛ أن الشعوب عندما تستحمر فإنها لا تبالي من ركبها، وقد آن لشعبنا المظلوم أن ينتصر، وبضربة واحدة، على كل ظالميه؛ وأولهم الذين هجّروه واحتلوا أرضه، ولاحقوه من بعد، وأقضّوا مضاجع أطفاله، وأمعنوا فيهم قتلا وإذلالا، ويليهم المتآمرون على القضية والمتاجرون بها وبدماء الأبرياء،من عرب وفلسطينيين، والمجتمع الدولي المستخذي للاستكبار العالمي، الذي أعطى إسرائيل شهادة ميلاد على أرضنا ، دون أن يكفل لنا ما (أعطانا) من حق العودة وحق تقرير المصير. بالرغم من مرور نحو من ستين عاما.
وآخرا؛
ما هي آخر أخبار شارون، هل اكتشفوا سبب غيبوبته الأبدية؟ أم هي بداية العد التنازلي لإسرائيل؟ فهلا راجع المحتلون أنفسهم في ما قادوا المنطقة إليه، وما يتهدد مستقبلها على كل صعيد، أليس منهم رجل رشيد؟ بل نحن على أبواب المرحلة الأخيرة من مراحل التأسيس لدولة العدل الإلهيّ؟